هناك أوقات يكون فيها الهوس العالمي الحديث بكرة القدم مُرهقاً. فلماذا يهتم كثير من الناس في كثير من الأماكن بهذه اللعبة بهذا الشكل المبالغ فيه؟ ولماذا نهتم بنجاح المدير الفني الهولندي إريك تن هاغ في تطبيق فلسفته التي كان يتبعها مع أياكس مع مانشستر يونايتد الآن، أكثر من اهتمامنا بتكتيكات الهجوم المضاد الأوكراني رداً على الغزو الروسي؟
ثم تكون هناك أسابيع مثل الأسابيع الحالية التي تدرك فيها أن الدوري الإنجليزي الممتاز هو أعظم دراما كُتبت على الإطلاق. فمن ناحية، هناك نادي برايتون المسكين، الذي يُعد واحداً من الأندية القليلة للغاية التي لا يملكها صندوق تحوط أو صندوق استثمار عام أو أحد الأثرياء أو رجل أعمال روسي، لكنه مملوك لشخص محلي كان منذ نعومة أظافره عاشقاً لهذا النادي. ومن الواضح أن هذا النادي يتطور منذ سنوات ويضع خطة مدروسة بعناية لتحقيق أهدافه والوصول إلى المكانة التي يريدها، كما أنشأ لجنة تعاقدات ذكية للغاية ووجد مديراً فنياً مبدعاً ومتواضعاً يناسب طموح وإمكانات وخطط النادي.
هل تتواصل فرحة بوتر بتشيلسي كما كانت مع برايتون؟ (دبا)
لقد أصبح هذا النادي مثيراً للإعجاب، ونجح في تحقيق الفوز على مانشستر يونايتد على ملعب «أولد ترافورد» لأول مرة في تاريخه، وقدم مستويات رائعة ولعب بشكل منظم للغاية وفاز على ليستر سيتي بخمسة أهداف. ونتيجة لكل ذلك، نجح في احتلال المركز الرابع بجدول ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بفارق نقطتين فقط عن المتصدر. لا يشارك برايتون في المسابقات الأوروبية، كما أن كثيراً من لاعبي الفريق لن يشاركوا في نهائيات كأس العالم 2022 بقطر، التي ستؤدي إلى توقف الدوري الإنجليزي الممتاز في منتصفه. وبالتالي، فمن المحتمل أن تكون هناك فرصة لأن ينهي برايتون الموسم الحالي في مركز يؤهله للمشاركة في بطولة الدوري الأوروبي، بل وربما دوري أبطال أوروبا، بل ومن الممكن أن يذهب الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك ويحقق الفريق الإعجاز نفسه الذي حققه ليستر سيتي من قبل ويفوز بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز، وإن كانت فرصة تحقيق ذلك ضئيلة للغاية بالطبع!
ثم جاءت الأموال لتقلب كل شيء رأساً على عقب، وهو ما يعني أن برايتون ربما لم يعد بحاجة إلى أن يحلم بكل هذه الأمور! إننا لسنا في فترة الستينات من القرن الماضي، عندما تمكن ألف رامسي من قيادة إبسويتش تاون للفوز بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز. ولسنا في حقبة السبعينات، عندما تمكن براين كلوف من الفوز بلقب الدوري مع ديربي كاونتي ونوتنغهام فورست. بل ولسنا حتى في الثمانينات، عندما قاد غراهام تايلور واتفورد لاحتلال المركز الثاني. إننا في عصر الحداثة، الذي يمكن فيه لفاحشي الثراء أن يلتهموا أي علامات أو مؤشرات على تحقيق نجاح واعد!
بالطبع، لا يمكننا إلقاء اللوم على غراهام بوتر لتوليه القيادة الفنية لتشيلسي، كما لا يمكننا أن نلوم مارك كوكوريلا على انتقاله هو الآخر من برايتون لتشيلسي هذا الصيف، أو إيف بيسوما على انضمامه إلى توتنهام. من الواضح للجميع أن هناك سُلماً واضحاً، وإذا كنت تريد الفوز بالبطولات والألقاب فيتعين عليك أن تتسلقه؛ وهو السُلم نفسه الذي تسلقه بوتر عندما رحل عن سوانزي سيتي ليتولى القيادة الفنية لبرايتون. لكن الأمر المحبط حقاً هو أن المغزى من هذه القصة يتمثل في أنه بغض النظر عن مدى ذكائك، فإن كرة القدم هي عالم يتفوق فيه المال دائماً على الذكاء.
يعد برايتون مثالاً على كيفية إدارة النادي بنجاح وبشكل مدروس دون إنفاق كثير من الأموال. لم ينجح النادي في التغلب على تداعيات رحيل كوكوريلا وبيسوما فحسب، بل نجح في تقديم مستويات أفضل من دونهما. من المؤكد أن برايتون كان يتوقع رحيل بوتر في أي وقت بسبب النتائج الرائعة التي حققها، وبالتالي من المؤكد أن النادي لديه خطة بديلة. لكن مع ذلك، سيؤدي رحيل بوتر إلى الحد من حالة الزخم التي كانت موجودة في هذا النادي. ومن المؤكد أن المدير الفني الجديد، مهما كان موهوباً، سيكون بحاجة إلى بعض الوقت للتعرف على الفريق ولتعليم اللاعبين فلسفته وأفكاره. وبالتالي، فإن ما كان من الممكن أن يصبح أعظم موسم في تاريخ النادي قد يتعرض للإجهاض بعد مرور ست جولات فقط.
في الحقيقة، يُعد هذا تحذيراً لأي نادٍ يتطور ويحاول الوصول إلى مكانة أفضل. ومن وجهة نظر تشيلسي، يرى النادي أنه من الطبيعي أن يعمل كل نادٍ على تدعيم صفوفه، وهذه هي بالطبع وجهة نظر مالك النادي تود بوهلي، بشعره الطويل ونظارته الشمسية، وفق الرأسمالية الأميركية! من المؤكد أن بوهلي قد لعب هذا الدور بحماسة، منذ اللحظة التي ظهر فيها وهو يشاهد المباراة التي انتهت بتعادل فريقه أمام وولفرهامبتون بهدفين لكل فريق الموسم الماضي، وبدا مرتبكاً وغاضباً بسبب تدخل تقنية حكم الفيديو المساعد (الفار) وإلغائها هدفاً لفريقه بداعي التسلل. ربما اضطر بوهلي إلى أن يُعين نفسه مديراً رياضياً لتشيلسي هذا الصيف بعد رحيل مالك النادي السابق رومان أبراموفيتش والمسؤولين الرياضيين بالنادي، لكن محاولاته المتعثرة لإبرام بعض الصفقات في فترة الانتقالات الصيفية الأخيرة بدت في بعض الأحيان كأنها واحدة من تلك الأفلام الكوميدية التي كان يقوم فيها أبطال الفيلم بتبادل الوجوه والأجساد، والتي كانت تحظى بشعبية كبيرة في الثمانينات من القرن الماضي.
ربما يكون هذا غير عادل بالنسبة لبوهلي، وربما سيتعلم بسرعة، وربما سيأتي بمنظور جديد، لكن كل المؤشرات المبكرة لم تكن جيدة. وتجب الإشارة إلى أن كرة القدم - أكثر من أي رياضة أخرى - تعتمد على اللعب الجماعي، وبالتالي فالأمر لا يتعلق فقط بإنفاق كثير من الأموال للتعاقد مع أفضل اللاعبين.
إن معارضة توماس توخيل لتعاقد بوهلي مع كريستيانو رونالدو وأنتوني غوردون كانت نقطة خلاف رئيسية بين الاثنين، وهو الأمر الذي يجعل جماهير تشيلسي تشعر بالقلق من طريقة تفكير مالك النادي الأميركي. وإذا كان مانشستر يونايتد قد بدأ يستعيد عافيته بعض الشيء تحت قيادة المدير الفني الهولندي إريك تن هاغ، فهناك على الجانب الآخر رجل أعمال أميركي يرغب في التعاقد مع اللاعبين المخضرمين أصحاب الأسماء الكبيرة من دون أن تكون لديه أي خطة عمل على المدى الطويل!
هذا هو الدوري الإنجليزي الممتاز بتناقضاته الكبيرة، فمن ناحية هناك نادي برايتون الذي تمكن من تحقيق نتائج جيدة بميزانية محدودة، ومن ناحية أخرى هناك نادي تشيلسي الذي أقال مديره الفني بعد أسبوع واحد من نهاية فترة الانتقالات الصيفية التي سمح له فيها بإنفاق نحو ربع مليار جنيه إسترليني على التعاقد مع لاعبين جدد. ومع ذلك، فإن تشيلسي المتخبط هو الذي تمكن من التعاقد مع المدير الفني لنادي برايتون الذي يتحرك وفق خطة مدروسة، وهو ما يعني أن الأندية الغنية دائماً ما تسحق أحلام الأندية الصغيرة التي تحاول التقدم للأمام والوصول إلى مستويات أفضل. أهلاً بكم في كرة القدم الحديثة، وأهلاً بكم في العالم الحديث، وأهلاً بكم في هذا السيرك الكروي!