نظّر المفكّر الأميركي جوزف ناي حول حتميّة ترافُق القوّة الناعمة مع توأمها القوّة الصلبة. كذلك الأمر، قال الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت: «تكلّم بلطف، لكن احمل عصا غليظة».
وغيّرت الحرب الأوكرانيّة جدول أعمال القوى العظمى والكبرى، كما عُدّت آخر مسمار في نعش النظام العالمي القديم (Pax Americana).
ويمكن رصد ثلاث رسائل عسكريّة وجيوسياسيّة وجّهتها الدول العظمى في الفترة الأخيرة.
تمثلت الأولى في اختبار الولايات المتحدة الأميركيّة الصاروخ العابر للقارات (Minutemen - III)، والقادر على حمل رؤوس نوويّة. وقد شكّل هذا النوع من الصواريخ، وخلال ستين سنة من الحرب الباردة، العمود الفقري للردع النووي الأميركيّ. وكان الاختبار قد أُجّل مرتين، الأولى مع بدء الحرب الأوكرانيّة، والأخرى مع بدء الأزمة حول زيارة نانسي بيلوسي لتايوان.
ودرجت العادة على أن تُجرى هذه التجارب لعدّة أسباب أو أهداف، منها: اختبار السلاح في حال أدخلت عليه تعديلات، وحتميّة التأكّد من جهوزيّة السلاح استعداداً للسيناريو السيّئ، أو كما في حالة التجربة الحالية، بعث رسائل لكلّ من روسيا التي جرّبت صاروخ سارمات (Sarmat)، والصين التي جرّبت عدة صواريخ فرط صوتيّة، والتي تحدّث ترسانتها النوويّة، وليست موقّعة على أي معاهدة نوويّة مع أميركا، مثلما كان الأمر مع الاتحاد السوفياتي سابقاً.
أما الرسالة الثانية فهي مناورات الشرق (VOSTOK) الروسيّة، بمشاركة الكثير من الدول، وأهمّها الصين والهند. ولكلّ من هذه الدول أسبابها الخاصة، فالهند تخاف من تقارب صيني – روسي على حسابها، كما أن روسيا لا تزال المصدر الأساسي للتسلح الهندي. كما تعرف الهند في نفس الوقت أنها مهمّة جدّاً للاستراتيجيّة الأميركيّة في منطقة «الإندو - باسفيك»، وهي أصلاً عضو مهم في مجموعة «الكواد» (QUAD). أما الصين، فينطبق عليها وصف «رابح - رابح»، لأنها لا تخرق المحرّمات الأميركيّة تجاه العقوبات على روسيا، لكنها تشارك مع روسيا لتثبيت التراتبيّة بحيث تكون روسيا اللاعب الثانوي في العلاقة المستجدة بين الجبارين. وتجري المناورة جغرافياً بالقرب من المحيط الصينيّ. ومن خلال الاشتراك، تختبر الصين جيشها وعتادها، وكيفيّة القيادة للقوى المشتركة (Combined Arms). هذا مع التذكير، بأن أي حرب ستقع في هذه المنطقة، ستكون بين الصين من جهّة، وأميركا واليابان من جهّة أخرى. وتستغلّ الصين هذه المناورة، لتثبيت مناطق نفوذها في محيطها المباشر.
وفي حال السيناريو الأسوأ لروسيا، أي التفتّت الروسي، ستكون الصين الأكثر جهوزيّة لتعبئة الفراغ.
وتتمثل الرسالة الثالثة في تسريب الولايات المتحدة الأميركيّة، كما جرت العادة مؤخرّاً، قبيل وبعد بدء الحرب على أوكرانيا، معلومات مصنّفة سريّة تقول بأن روسيا ستشتري من كوريا الشمالية ملايين الصواريخ والقذائف المدفعيّة. كما كانت روسيا قد اشترت من إيران نحو 300 طائرة مسيّرة، لاستخدامها في الحرب ضدّ أوكرانيا. فماذا يعني هذا الخبر؟
إنه يعني أن روسيا تعاني من نقص حاد في الذخيرة، لأسباب عدة، منها: الاستهلاك الكبير في الدونباس (60 ألف قذيفة يوميّاً)، وعجز الصناعة العسكريّة الروسيّة عن سدّ العجز، كما أنه لا يمكن لبوتين حشد الصناعات الروسيّة المدنيّة للجهد الحربي كونه لا يزال يُسمّي الحرب «عملية عسكريّة خاصة». إذاً، يشكّل الاستيراد من دولتين كانتا في «محور الشر» الأميركي أسهل طريقة للتعويض، خصوصاً أن كوريا الشماليّة تعتمد في عقيدتها العسكريّة، في حال نشوب حرب مع كوريا الجنوبيّة، على السلاح الصاروخي والمدفعي كسلاح أساسيّ.
وإذا أضفنا إلى السلاح والذخيرة ذات التكنولوجيا المنخفضة، العقوبات الغربيّة التي تضرب قطاع السلاح الروسي ذي التكنولوجيا العالية، كما معضلة النقص بالعديد، يمكن عندئذٍ تفسير سبب بطء التقدّم الروسي في إقليم الدونباس، وكذلك فهم واقع وحال الجيش الروسيّ، خصوصاً في قدراته القتاليّة وجهوزيّته لتنفيذ حلم الرئيس بوتين، ألا وهو عودة روسيا إلى مصاف القوى العظمى. فعلى سبيل المثال، في مناورة الشرق للعام 2018 شارك 300 ألف جندي روسيّ، أما في نفس المناورة لهذا العام، فلم يشارك سوى 50 ألف جنديّ.
لكن لا بد من ذكر أن هذه المناورة ليست بنت ساعتها، إذ تجري روسيا كل عام واحدة من أربع مناورات ضخمة، تتعاقب بمعدّل مناورة كلّ سنة، وهي: مناورة الشرق (Vostok)، ومناورة الوسط (Tsentr)، ومناورة الجنوب (Kavkaz)، وأخيراً مناورة الغرب (Zapad). لكن الجدير ذكره، أن مناورة الشرق التي تُجرى حالياً بمشاركة صينيّة، كانت معدّة أصلاً لمحاكاة سيناريو حرب ضدّ الصين.
زحمة رسائل عسكريّة وجيوسياسيّة
زحمة رسائل عسكريّة وجيوسياسيّة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة