سنوات السينما: الأرض (1970) (2 من 2)

محمود المليجي في مشهد من «الأرض»
محمود المليجي في مشهد من «الأرض»
TT

سنوات السينما: الأرض (1970) (2 من 2)

محمود المليجي في مشهد من «الأرض»
محمود المليجي في مشهد من «الأرض»

الأرض (1970) (2 من 2)
في إحدى الكتابات النقدية عن الفيلم، عرض المؤلّف وضعاً متناقضاً بالقصد. ذكر أن الفيلم ليس عن الهزيمة التي وقعت سنة 1967 ولا عن القضية الفلسطينية، لكن - بعد أسطر خمسة يكتب بأن الفيلم عن الهزيمة وعن فلسطين وعن الصراع الطبقي وعن الحب وعن خيانة المثقفين.
هناك مراجع تؤكد أن المخرج يوسف شاهين ذكر أن «الأرض» مرتبط بالقضية الفلسطينية، كما بالهزيمة التي تعرّضت لها مصر (ودول عربية أخرى) سنة 1967 لكن هذا لا يتبدّى إلا باستنتاج فردي مفتوح على احتمالات. لا علاقة فعلية (ولو متوارية أو موحية) بالهزيمة، ولا بالقضية الفلسطينية. ربما المعنى المقصود في حديث شاهين عن فيلمه، كما في كتابة البعض عنه أيضاً، هو أن الأرض، أي أرض، هي عزيزة على كيان كل من يملكها. وهذا أجدى تفسيراً، لكن شاهين كان دائماً ما يربط بين أفلامه (من «الأرض» وصاعداً) وبين ما حدث سياسياً في مصر أو في العالم العربي. أحب أن يظهر كمؤرخ أو كصاحب نبوءات، لكن في معظم الحالات («العصفور»، «الاختيار» من بين أخرى) الحدث كان قد وقع وبالتالي لا قيمة كبيرة بتوقعه أو تنبؤه.
بين الرغبة في تقديم فيلم سياسي عن مأساة الفلاحين تحت ظلم الإقطاع، وبين تصوير انقساماتهم بين أنفسهم، يتعثّر الفيلم في اعتماد أي حالة هي الأولى والأهم. أي منهما علينا أن نصطف معها أو نعاينها في اعتبار أول... هل الفيلم عن الظلم الإقطاعي في عهد الإنجليز، أو عن جشع بعض القرويين وظلم العمدة والمستفيدين منه؟ كان الأولى اختيار خط عريض أول ثم ثانٍ يلازمه عوض الدوران في حلقة مختلطة تشتت الرسالة المتوخاة من الفيلم.
إذا كانت الرسالة المرغوب إيصالها للمشاهدين هو وصف الحال في الثلاثينات فإن النظرة الملقاة على الفلاحين تبدو محايدة، ولو أنها تتحرك - جيداً - من خلال توزيع المخرج للمفارقات الواردة والدخول والخروج بين حالات وسلوكيات العدد الكافي من الشخصيات، وذلك تبعاً لسياق سردي ثري بالمشاهد الجيدة.
إذ يبدأ الفيلم فصوله بوصول ابن أحد مالكي الأراضي الكبار إلى القرية بصحبة ابنه الصغير يفاجئنا المخرج برغبته في سرد حكاية خلفية تقع بين الولد (الذي لا يزيد عمره عن 13 سنة) وبين الشابة وصفية (نجوى إبراهيم) التي لها اهتمام غير مفهوم المنطلقات، عندما تلتصق بالصبي الصغير ليلاً ثم تهوى فوقه بغاية تقبيل وجهه. بعد ذلك (ونحن لا نرى ما حدث فعلياً) تحذّره من أن يخبر أحداً.
ليس أن الحادثة قد لا تقع لكن تبريرها هنا يأتي بها هنا على أساس احتمال، بصرف النظر عما إذا كانت الحكاية وردت في رواية عبد الرحمن الشرقاوي أو لم ترد. درامياً، المشهد مهم للتعبير عن الكبت العاطفي والجنسي للقرويات، لكن إذا ما كان ذلك صحيحاً ما سبب امتناع وصفية عن صديق أبيها عبد الهادي (عزت العلايلي)؟ فكرة المشهد بين الصبي والفتاة بحد ذاتها صائبة للإيحاء بعاطفة مكبوتة، لكن الفارق في السن بين الاثنين أكبر من أن يُتيح للمشهد أن يبدو طبيعياً أو ناتجاً عن تحرّشات سابقة بينهما.
«الأرض» هو فيلم من أفضل أعمال المخرج العريق. لكنه ليس أفضلها كما الاعتقاد السائد.
يأتي في ركاب محاولة المخرج تقديم فيلم كبير عن قضية كفاح ضد الطبقية خسر الفلاحون فيها كل ما سعوا لتحقيقه. المشهد الأخير لمحمود المليجي الذي يحفر في الأرض، بينما يجره حصان رجل الأمن فاعل وينجح كثيراً كرمز. لكن الفيلم يبدو أشبه بطلقات مصوّبة في اتجاهات كثيرة يجمعها المخرج في أسلوبه الفني المتميّز، على ذلك، تبقى الثغرات المنطقية والدرامية عالقة تبعاً لمشاهدة متحررة من التجاوب مع وجهات النظر السائدة لآخرين.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).