شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

يختار أستاذ الأدب الإيطالي المقيم بفلورنسا محمود سالم الشيخ في كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب «أهم شعراء الطليان في القرن العشرين» الشعراء: «جوزيبي أونغاريتي» و«أمبرتو سابا» و«يوجنيو مونتالي»، مبرزاً ملامح من سيرهم الفنية والذاتية باعتبارهم الثلاثة الكبار - برأيه - الذين أثروا في مسيرة الشعر الإيطالي في ذلك القرن. قدم للكتاب المترجم وأستاذ الأدب الإيطالي د. حسين محمود، مشيداً بالجهد الذي بذله المؤلف فيه، مما يجعله إضافة للمكتبة العربية.

جوزيبي أونغاريتي
عن «أونغاريتي» يذكر المؤلف أنه ولد بمدينة الإسكندرية في 8 فبراير (شباط) 1888 لأبوين إيطاليين وقضى بها فترة طفولته وشبابه، حيث كان والداه يديران مخبزاً. درس أونغاريتي في المدرسة السويسرية «سويس جاكو». أشهر مدارس الإسكندرية آنذاك ولم يغادرها متجهاً إلى إيطاليا عام 1912 بل إلى فرنسا ليتم دراسته بالسوربون، وهناك تتلمذ على يد كل من: «بيديه» و«بيرجسون» و«لانسون» و«ستروفسكي» وغيرهم من كبار أساتذة «كوليج دو فرانس». وفي تلك الفترة ارتبط بصداقة وثيقة مع أدباء الطليعة مثل «بول فور» و«أبوللنير» وتعرف على «بيكاسو» و«دي كيريكو». وتشرّب بالثقافة والشعر الفرنسي من «جوران» إلى «لافورج» إلى «ريفردي» و«أبوللونير» و«سندرارس»، الأمر الذي ساعده على اقتحام التراث الشعري الإيطالي التقليدي بروح ثورية متمردة وواثقة.
تمثلت هذه الثورة في تجديد بيت الشعر الإيطالي بإدخال البيت الحر. وهو ما يتضح مثلاً في ديوانه «البهجة»، حيث نجد أن بيت الشعر الجديد محطم، مفكك، منقسم إلى عدة أبيات قصيرة، كما أن كلمات هذا الديوان مستقاة من قاموس اللغة الدارجة. وقد أعطى «أونغاريتي» هذه الكلمات الدارجة قوة رمزية واسعة النطاق تبرزها فترات السكون والفراغ الأبيض، ويجمعها إزالة علامات الترقيم أسوة بأسلوب الشاعر الفرنسي أبوللونير، وبذلك اكتسبت الكلمة قوة تعبيرية عميقة بعكس الشعر التقليدي.
ويورد المؤلف عدة مقاطع قصيرة كنماذج من أشعار أونغاريتي، التي اتسمت بالقصر الشديد، فنقرأ على سبيل المثال في قصيدة «ملل»:
«ستمر أيضاً هذه الليلة
هذه الوحدة مع تأرجح
ظلال أسلاك الترام المضطربة
على الإسفلت الرطب
أنظر إلى رؤوس الحوذية
في غفوتها تتأرجح»
وهناك قصيدة أخرى بعنوان «بيتي» يقول فيها:
«فاجأني بعد زمن طويل
بحب
ظننت أنني بعثرته
في أرجاء العالم»
اشترك أونغاريتي في الحرب العالمية الأولى متطوعاً ثم انضم مبكراً في عام 1919 إلى الحزب الفاشي في بداية نشأته وظل مخلصاً للفاشية حتى سقوطها وقد قدم لديوانه «الميناء المغمور»، الذي نشر عام 1923 «بنيتو موسوليني» وفي الفترة من عام 1919 حتى 1921 عمل مراسلاً من باريس لصحيفة «بوبولو ديتاليا» صحيفة الحزب الفاشي، حيث كان يعمل في الوقت نفسه في السفارة الإيطالية. وبعد عودته إلى إيطاليا في عام 1921 شغل منصباً مرموقاً في وزارة الخارجية الإيطالية لأكثر من عشر سنوات.

أمبرتو سابا
ترجع شهرة وأهمية أمبرتو سابا أولاً إلى نشأته في مدينة «تريسته»، وإلى إيمانه الشديدين بموازين وقوانين الشعر التقليدي، بخاصة تجارب القرنين الثامن والتاسع عشر، وثانياً كان أول شاعر إيطالي يضيف البعد النفسي إلى أشعاره حتى وصفه أكبر النقاد الإيطاليين المعاصرين «جانفرانكو كونتيني»، بأنه محلل نفسي قبل اكتشاف علم النفس.
كانت «تريسته» مدينة تجارية لا تتسم بعراقة ثقافية وتمتلئ بالأجناس المختلفة والعادات الكثيرة كما أنها كانت تحت حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية، لذا كان من يريد الارتباط بالثقافة الإيطالية أو الكتابة باللغة الإيطالية يجد نفسه في موقف غاية في الصعوبة والحرج
ولد أمبرتو في 9 مارس (آذار) 1883 من أم يهودية وأب مسيحي وترك أبوه أمه قبل ولادته فلم ير والده قبل سن العشرين ورفض أن يسمى باسمه «بولي»، رغم أنه يعود إلى عائلة من العائلات النبيلة في البندقية ليتخذ الاسم المستعار «سابا» تكريماً لأصل أمه اليهودية. وهو يعني في اللغة العبرية الخبز، كما استهدف أمبرتو» كذلك تكريم اسم مرضعته اليوغسلافية «ببت سابا»، وهنا تبدأ مآسي ومعاناة الإنسان والشاعر، فيبدأ انقسام سابا النفسي الذي نقرأه في إحدى قصائده:
«مدخل وهروب آه يا قلبي المشطور منذ الولادة
كم من آلام عانيت لأجعل منك قلباً واحداً
كم من ورود احتجت لإخفاء الهاوية»
أم قاسية أو شديدة القسوة والأب غير موجود، من هنا تبدأ المعركة والصراع النفسي ويزداد تعقيداً باختلاف جنس وأصل الوالدين. يصف هذا الصراع في إحدى قصائده الشهيرة بعنوان «سيرة ذاتية»:
«كان أبي بالنسبة إلي القاتل
حتى عرفته في سن العشرين
كان مرحاً وخفيفاً وكانت أمي
تتحمل كل أعباء الحياة
لقد أفلتت من يده كالكرة
(لا تشابه والدك) كانت تحذرني
وأخيراً فهمت:
كانا جنسين في صراع أزلي»
وتعتبر حضانة أمبرتو في كنف «ساباتز» أسعد فترات الطفولة في حياة «سابا» لدرجة أنه اعتبر منزل المرضعة «الجنة الخضراء عدن»، كما يصفه في «ثلاث قصائد إلى مرضعتي»:
«أرقد على صدر من لا تزال تسميني برتو
أرقد على الصدر الأول
لم يستسلم سابا لأجواء «تريسته» الخانقة، فتمكن من تحويل ما يسميه «الخطيئة الأصلية»، أي التخلف الثقافي لمدينته إلى فضيلة شخصية حيث وطد علاقات مع المجتمع الثقافي النمساوي والألماني بخاصة مع الفيلسوف نيتشه ومع المهتمين بدراسة علم النفس. وكان لمعرفة «نيتشه» و«فرويد» في حياة سابا كإنسان وشاعر أثر كبير، كما يشير في نهاية قصيدته «مقتضبات»:
«أصل المقتضبات نيتشه وفرويد»
وعن مدينة «تريسته» يقول:
«مدينتي حيث ولدت بها
كنت اكتشفتها طفلاً أكثر من أي شخص آخر
ويافعاً بالشعر زوجتها إيطاليا إلى الأبد».

يوجينيو مونتالي
بينما كان أونغاريتي منغمساً في تجديد بيت الشعر وتغيير شكله وتركيز موسيقى شعره على النطاق الضيق للكلمة، وبينما كان سابا عاكفاً في عزلته النائية يرتب ديوانه في شعر تقليدي وينادي بتخليد نفسه كشاعر العصر، كان يوجينيو مونتالي (1896 - 1981) يمثل الضمير الحي ليس فقط للحياة الأدبية والثقافية، بل كذلك السياسية في إيطاليا. فرغم وجود شخصية كبيرة ووقورة ومؤثرة في الفكر الإيطالي في ذلك الوقت مثل الفيلسوف «بنديتو كروتشي» فإن «مونتالي» تحمل عبء مآسي وقلق ورعب طبقة المفكرين والمثقفين ليس فقط في إيطاليا، بل في العالم أجمع أثناء الفترة الغامضة، التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي فترة التعمير التي تلت الحرب. ويرجع ذلك لسببين، أولهما أن مونتالي كان يعتبر الشعر النشاط الحر الوحيد للروح الذي يسمح للإنسان بمزاولة حريته دون تدخل أو ضغط خارجي. الثاني أن حياة مونتالي نفسها ليست إلا مرآة صادمة لشاعريته ومبادئه الأخلاقية بما ترتب عليه استقلاله في مختلف أنشطته: شاعراً وناقداً وباحثاً.
ويذكر الكتاب أنه كان متحفظاً خجولاً، لكن نظرته الحادة المنتبهة وبصيرته وحكمة التقدير التي كانت تنبثق من عينيه، كانت تزيد من وقار شخصيته، وتفسر مبدأه الأخلاقي الشهير: «أنظر وأناظر»، الذي كان له أثر عميق وفعال في المجتمع الأدبي، بخاصة لدى الشباب الذين كانوا يتقربون إليه.
ويلفت المؤلف إلى أن اهتمام مونتالي يرتكز على وظيفة الشعر كوسيلة للاتصال وللدلالة على شخصية الشاعر ليس بمفهوم الساحر لكن بمفهوم العاقل والحكيم المجرد من الفتنة والسحر كما يؤكد لنا نفسه في يرتكز مقالته «طراز وتقليد» التي نشرها في مجلة «باريتي» في 15 يناير (كانون الثاني) 1925. وإذا قارننا هذا المفهوم بما صرح به الشاعر في رسالة إلى «جلاوكو جامبون» نشرت في مجلة «أوت أوت» عام 1962: «أنا أبدأ دائماً من الحقيقة لا أخترع شيئاً»، فسندرك أن شعر مونتالي يحتوي في أساسه على رغبة الشاعر في المعرفة، حيث يعتبر القصيدة وسيلة لفهم الحقيقة وترجمتها على عكس الكتاب الرومانتيكيين الذي يعتبرون الشعر «خلقاً أو ابتكاراً» لحقيقة أخرى مستقلة ومختلفة عن الحقيقة المألوفة.
ولد يوجينيو مونتالي في مدينة جنوا وبعد انتهاء المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة الإعدادية، ولكنه لم ينه هذه المرحلة بسبب مرضه وبعد شفائه تابع الدراسة بنفسه بمساعدة أخته ماريانا. وبرغم هشاشته وضعف صحته التحق بعهد «فيكتوريو إيمانويلي» التجاري وحصل منه عام 1915 على المؤهل، ثم واصل القراءة والدراسة بالمكتبات العامة بمدينة جنوا.
وفي 1916 تخلى مونتالي عن فكرة أن يصبح مطرباً وتفرغ كلية للشعر، حيث ظهرت في ذلك العام أول قصيدة كتبها الشاعر بعنوان «استهلال» التي يقول فيها:
«استمتعي فالريح التي تدخل البستان
تعيد إليه موجة الحياة:
هنا حيث تغوص لفافة
الذكريات الميتة
لم يكن بستاناً بل ضريح».