«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

باحث يرصد جوانبه العلمية واللغوية والتاريخية

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر
TT

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

فرضت طبيعة الحياة القائمة على الترحال وتتبع مواطن المطر بحثاً عن العشب والكلأ، أن يتقن العرب قديماً بعض العلوم والمعارف؛ خصوصاً عن الأنواء والطقس؛ حيث كانت شمس النهار الملهبة تضطرهم إلى «السُّرى» وهو الرحيل في الليل، فكانوا يقطعون الفيافي الخالية والصحاري البعيدة في الظلام، مهتدين بالقمر أو بالنجوم اللامعة في قبة السماء، حتى لا تضل قوافلهم وتهلك ثروتهم من الإبل عبر كثبان الرمال المتشابهة المتلاحقة كأمواج البحر، والمترامية على مد البصر.
عن هذه المعرفة الفطرية، يدور كتاب «تاريخ علم الأنواء عند العرب» الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»؛ حيث يرصد الباحث الدكتور أحمد عطية الجوانب المختلفة لهذا العلم، متجاوزاً معناه المباشر كأحد العلوم المتفرعة عن علم الفلك، والذي يعنى بالأمطار والرياح في المقام الأول.
وبحسب الباحث، فقد قدمت المعاجم اللغوية تعريفات عدة لمادة «نوأ»، فقد ركز الصاحب بن عباد في كتابه «المحيط في اللغة» على المصطلح، محاولاً تفسير بنيته اللغوية، فقال: «النوء من أنواء النجوم، وهو سقوط نجم بالغداة مع طلوع الفجر وطلوع آخر في حياله في تلك الساعة. وناء الشيء ينوء: أي مال إلى السقوط، ويقال: وما بالبادية أنوأ من فلان: أي أعلم بالأنواء منه». في حين ركز «الجوهري» في تعريفه الوارد بكتاب «الصحاح تاج اللغة» في تعريفه على منازل القمر ومدتها الزمنية، فقال: «والنوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته». وهو المنحى نفسه تقريباً الذي سلكه الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة»، فقال: «وناء النجم: سقط، وناء: طلع».
ويتبين من مطالعة التعريفات السابقة وتأملها، أن أغلب المصادر التي نقلت منها هذه المعاجم اللغوية تعريفاتها لمصطلح «نوء» تدور بين علمي الحديث واللغة، ولم نعرف أن أحداً استمد تعريفه لذلك العلم أو لذلك المصطلح من كتب علم الفلك مثلاً، والذي يعتبر علم الأنواء أحد فروعه لقرون طويلة، ولعل هذا يرجع لتأخر علم الفلك عند المسلمين.
ويكتسب المصطلح بعداً آخر لدى بعض علماء وباحثي الفلك القدامى، مثل أبي إسحاق الفزاري، فلكي الخليفة أبي جعفر المنصور، وأبي معشر البلخي المتوفى 272 هـ، في كتابه «الأمطار والرياح وتغير الأهوية»، بحسب ما ذكره المستشرق كارلو نيللينو، نقلاً عن «الفهرست» للنديم، و«تاريخ الحكماء» للقفطي، مروراً بكوشيار الجيلي، المتوفى 420 هـ، وابن سينا المتوفى 428 هـ، والبيروني المتوفى 440 هـ.
ويخلص المؤلف إلى أن معظم الإنتاج العلمي الذي كتبه هؤلاء الأعلام في مجال علم الفلك والتنجيم لم يصلنا، فالفزاري على سبيل المثال لم يصلنا شيء من كتابيه: «العمل بالإسطرلاب المسطح»، و«العمل بالإسطرلاب». ومن الملاحظ كذلك أن علم الفلك عند المسلمين قد اهتم بالقياس وليس بالرصد، فقد اهتم فلكيو المسلمين بمسألة القياسات المتعددة لحساب المسافة بين الكواكب وحركاتها ومواطن التقائها وطلوعها وغروبها، وما يستتبع ذلك من تغير في الظروف الجوية.
ويذكر المؤلف أن في مخطوط «كتاب السر» لأبي معشر البلخي، نجد حديثاً عن علم الأنواء، فيعقد فصلاً عن تفسير الرياح والأمطار وأسبابهما، وهما لب علم الأنواء، قائلاً: «أما الرياح والأمطار فإنها تكون من البخارين اللطيفين اللذين يرتفعان من البحار والأنهار قبل طلوع الشمس، فقد ترى تلك الساعة والبخار صاعد يشبه الدخان، فأحد البخارين يابس، وصعوده من قطر الأرض تنشأ منه الرياح ذات الرعود والبروق والهبوب والصواعق والشرر، وما يشبه هذا النحو. والبخار الثاني رطب، وصعوده من جوهر الرطوبة، ومنه ينشق الضباب والجليد والثلوج والأمطار».
وهذا التفسير الذي قدمه البلخي قريب جداً من الدائرة التي يهتم بها علم الأنواء عند العرب، فهو يربط حركة الرياح والأمطار بسقوط النجوم وطلوعها، ما يؤكد وجود صدى لعلم الأنواء في تلك المؤلفات التي كتبت في علم الفلك في تلك الفترة المبكرة من تاريخ حضارتنا الإسلامية، وهو الأمر الذي يؤكد أن هذه المؤلفات تعد من المصادر الحقيقية لعلم الأنواء عند العرب.
ويذهب جورجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»، إلى أن المراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعاً من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها، أي نهوضها، وسموا تأثير الطلوع بارحاً وتأثير السقوط نوءاً. ومن ذلك قول أحدهم في قصيدة:
«والدهر فاعلم كله أرباعُ
لكل ربع واحدٌ أسباعُ
وكل سبع لطلوع كوكبِ
ونوءُ نجم ساقط في المغرب»
وجاء في كتاب ابن قتيبة «الأنواء في مواسم العرب»: «من خواص الجنوب أنها تثير البحر حتى تسوده، وتظهر كل ندى كامن في بطن الأرض حتى تلين الأرض، وإذا صادفت بناء بُني في الشتاء أظهرت نداه وجعلته يتناثر، كما أنها تطيل الثوب القصير، ويضيق لها الخاتم في الإصبع. تقول العرب إن الجنوب قالت للشمال إن لي عليك فضلاً، أنا أسري، أي أسير بالليل، وأنت لا تسرين، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري».
ويعد كتاب «الأنواء» لأبي يحيى محمد بن عبد الله كناسة الكوفي، المتوفى 207 هـ، من المؤلفات المبكرة التي ألفت حول علم الأنواء عند العرب، والتي لو وصلت إلينا -بحسب المؤلف- لاستطعنا من خلالها أن نرصد طبيعة البدايات الأولى للتأليف في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ تراثنا العربي.
وقد أورد ابن قتيبة عن ابن كناسة ثمانية مواضع للقمر والكواكب على علاقة وثيقة بالرياح والأمطار، ولكن هناك أمراً مهماً آخر تشير إليه تلك النقول الموجودة عن ابن قتيبة ونسبها إلى ابن كناسة، وهي أنها مذهب على مذهب العرب في معرفة علم الأنواء، وهي معرفة عملية قائمة على مشاهدة السماء أو على عملية الرصد لا القياس الذي مثل علامة كبرى في علم الفلك عند علماء المسلمين فيما بعد.
ويكاد يكون كتاب «الأنواء في مواسم العرب» لابن قتيبة الدينوري، المتوفى 276 هـ، كتاباً في علم اللغة؛ إلا أن المساحة التي شملها في حديثه من علم الأنواء أوسع بكثير، ما يدل على أن هذا العلم قد شغل مساحة لا بأس بها من العقلية العربية.
يبدأ ابن قتيبة بعد بيان المقدمة التي وضح فيها الغرض من تأليفه هذا، بذكر منازل القمر، وهو أمر مرتبط تمام الارتباط بقضية الأنواء؛ حيث يقول: «ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، من مهله إلى ثمانٍ وعشرين ليلة، فإن كان الشهر تسعاً وعشرين استسر ليلة ثمانٍ وعشرين ليلة تمضي من الشهر، وفي السِّرار نازل بالمنازل، فإذا بدا من الشهر الثاني هلالاً طلع وقد قطع ليلة السِّرار منزلاً من هذه المنازل». ثم يذكر فقرة مهمة تعكس بحق أن معارف العرب التي اعتمد عليها ابن قتيبة من علم النجوم وما يرتبط بها من أنواء، قد وصلت إلى مرحلة لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بها أو التقليل من شأنها، مع الأخذ بالحسبان أن العرب لم يكن لديهم أجهزة رصد، وإنما كانوا يعتمدون على العين المجردة. يقول ابن قتيبة: «وهذه المنازل الثمانية والعشرون تبدو للناظر منها في السماء أربعة عشر منزلاً، وتخفى عنه أربعة عشر منزلاً، وكذلك البروج وهي اثنا عشر برجاً، كل برج منزلان وثلث من هذه الثمانية والعشرين، وإنما يبدو لك منها ستة بروج، وهذا يدل على أن الظاهر لنا من السماء لأبصارنا نصفها، والله أعلم».
يقع الكتاب في 163 صفحة من القطع الكبير، ورغم طرافة وتشويق الموضوع فإن التزام المؤلف بالمنهج العلمي الأكاديمي جعل لغته جافة أحياناً.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.