خبر واحد.. لكن عقلاني أو عاطفي؟

«كولومبيا جورناليزم ريفيو»

خبر واحد.. لكن عقلاني أو عاطفي؟
TT

خبر واحد.. لكن عقلاني أو عاطفي؟

خبر واحد.. لكن عقلاني أو عاطفي؟

في آخر أعداد دورية «كولومبيا جورناليزم ريفيو» التي تصدرها كلية الصحافة في جامعة كولومبيا (نيويورك)، نتائج بحث علمي عن الطريقة التي يفكر بها الصحافي عندما يكتب خبرا (أو أي شخص، عندما يصف شيئا). وأوضحت نتائج البحث أن الصراع بين العقلانية والعاطفة يؤثر، ليس فقط على محتوى الخبر، ولكن، أيضا، على طريقة كتابة الخبر. كتبت نتائج البحث تيري واشنطن، مؤلفة كتاب «تيك أوف يور ماسك» (اخلع قناعك)، عن طريقة التفكير، والصراع بين العقلانية والعاطفة. وأجرى البحث جاك ماكيني، رئيس شركة تستعمل جهاز «إتش بي دي اي» لقياس هذا الصراع. واخترع الجهاز نيد هيرمان، خبير تكنولوجي في هذا الصراع.
اتفق الثلاثة على أن الصحافي، إذا يملك «سوبر باور» (قوة خارقة) أكثر من أي شخص آخر، فهي قدرة التواصل مع الآخرين. كتابة في صحيفة (أو في إذاعة، أو تلفزيون، أو فيديو).
وقالت واشنطن: «عادة، عندما يكتب صحافي خبرا، لا يفكر في تحليل طريقة الكتابة، وهل هي عقلانية أو عاطفية. وذلك لأنه، طبعا، مشغول بكتابة الخبر». وأضافت: «لكن، كشفت الأبحاث أنه يتأثر، ليس فقط بعقلانيته أو عاطفته، ولكن، أيضا، بعقلانية أو عاطفة الذين يكتب لهم».
وقال هيرمان، مخترع جهاز «إتش بي دي اي» (اختصار عبارة: جهاز هيرمان لاختبار قوة العقل)، إن الجهاز يكشف طريقة كتابة الخبر اعتمادا على طريقة التفكير. وتعتمد طريقة التفكير على أي من جانبي المخ يستعمله الصحافي أكثر من الجانب الثاني:
الجانب الأيمن: وصفي: يركز على الخيال والفنون والمناظر (عاطفي).
الجانب الأيسر: تحليلي: يركز على حل المشكلات والرياضيات (عقلاني).
للذي يقرأ هذا التقرير، أي نوع من الناس أنت؟
إذا قلت: «هذا تقرير ممل، وليس فيه أي شيء ممتع»، أنت من الجانب الأيمن، وتميل أكثر نحو الوصف العاطفي.
إذا قلت: «هذا تقرير مفيد، وفيه معلومات كثيرة»، أنت من الجانب الأيسر، وتميل نحو الوصف العقلاني.
وقال ماكفيني، رئيس شركة أبحاث «إتش بي دي اي»: «لعشرين عاما، أطوف من مدينة إلى مدينة، ومن جامعة إلى جامعة، ومن شركة إلى شركة، وأجرى أبحاثا عن ميول الناس العاطفية أو العقلانية. وجدت أن هذا موضوع شائك ومعقد. وفيه أشياء كثيرة لا نعرفها، أو لسنا متأكدين منها».
وقال إنه وجد الآتي:
أولا: لا يسيطر الشخص على عقله، ولكن عقله يسيطر عليه.
ثانيا: يوجد نوعان من التفكير: عاطفي أكثر، أو عقلاني أكثر.
ثالثا: يوجد نوعان من العقل: واع، وغير واع.
وأضاف: «يوضح هذا أننا، حقيقة، لا نعرف الأشياء كما نعتقد أننا نعرفها».
لكن، طبعا، لم يمنع هذا ماكفيني من البحث عن حقيقة الأشياء.
فعلا، أجرى هذا البحث عن كيف يصف صحافيان نفس الخبر:
كتب الأول: «بعد حادث تصادم سيارتها، وبداخلها أطفالها الصغار، بسيارة شخص مخمور، خرجت المرأة من سيارتها، وتركت أطفالها الصغار داخل السيارة، وهي تصرخ، ودموع تسيل من عينيها، وتلعن السائق المخمور، وتكاد تهجم عليه، لولا أن منعتها الشرطة. في نفس الوقت، تجمهر بعض الناس حول المكان وهم غاضبون، أيضا، على السائق المخمور».
وكتب الثاني: «في الساعة الثالثة والنصف ظهر أمس الثلاثاء، وعلى الطريق البري رقم 9، على مسافة 15 ميلا شمال كولمبس، صدمت سيارة سوداء، موديل 1978، كانت تسير بسرعة 75 ميلا في الساعة، سيارة فيها أم وأولادها..».
حسب تحليل ماكفيني:
الصحافي الأول: يبدو أكثر عاطفية. (أيضا، يريد أن يخاطب عواطف القراء).
الصحافي الثاني: يبدو أكثر عقلانية. (أيضا، يريد أن يخاطب عقول القراء).
وقالت تيري واشنطن، مؤلفة كتاب «اخلع قناعك»:
«إذا يكون الصحافيون دولة عظمى، ستكون دولة قادرة أكثر من غيرها على التواصل. وستستعمل أحدث التكنولوجيا ليكون التواصل بسرعة البرق. تقدم الأفكار في اجتماعات التحرير، ويهرع الصحافيون لجمع المعلومات، ويكتبون ويعيدون الكتابة، ويراجعون ويعيدون المراجعة، وينسقون ويخرجون، وينشرون في وقت معين كل يوم. وهم يفعلون ذلك، يحرصون على أن يوفي الخبر متطلبات القواعد الخمسة المقدسة: من؟ ماذا؟ متي؟ أين؟ لماذا؟ لكن، وسط هذا الضباب من المحتويات، وبسرعة البرق هذه، ينسى الصحافيون الدوافع التي تدفعهم. هل يميلون نحو عاطفتهم وعاطفة قرائهم؟ أو نحو عقلانيتهم، وعقلانية قرائهم؟»
وأضافت: «وسط ضباب آخر، ضباب الإنترنت، والتطبيقات، والتجميع، والنشر الإلكتروني، يجدر بنا أن نتذكر أن مستقبل الصحافة يرتبط بمفهوم أساسي من الماضي: التواصل مع الآخرين. ويرتبط بمفهوم أساسي من المستقبل: كشف طريقة تفكيرنا (الواعي وغير الواعي)».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.