غرائب وعجائب الحرب الأوكرانيّة

حربٌ، هي الأكثر دمويّة منذ حرب البلقان عام 1990، تُخاض على الأرض الأوروبيّة بين جبار وقزم، بالمعنى العسكري والاقتصاديّ. القزم يعي وجوده وكيانه على أنه مستقلّ وحرّ، والجبار يرفض حتى ذكر اسم عدوه. الجبار يدمّر ويقتل، على غرار الفيل في محلّ بيع الخزف. وإذا تجرّأ القزم على الاعتراض، يُنعت بالنازيّة والعنصريّة لتبرير قتله وإلغائه. وإذا أراد القزم الدفاع عن نفسه، وهذا حقّ طبيعيّ، اتُّهم بأنه معتدٍ، وبأنه يقصف المدنيين أو يتمترس وراءهم كدروع بشريّة.
وللدفاع عن القزم، يتعهّد جبار آخر بمهمّة الحفاظ على الحقوق. وهكذا يُصبح القزم غارقاً في المعضلة التالية: إذا انصاع للجبار الأول، فهو يفقد كيانه وصيرورته، وإذا لجأ للجبار الثاني، فهو يصبح أسيره، على غرار القول: «احتجْ إلى مَن شئت تكن أسيره».
وبعد خمسة أشهر على الحرب الروسيّة على أوكرانيا، توصّل الفريقان، بوساطة تركية ومواكبة من الأمم المتحدة، إلى اتفاق يسمح بتصدير القمح الأوكراني والروسي، كما السماد الروسي.
رابح وخاسر من الاتفاق
ربح الجياع برضا الجبار، وقبل الرئيس بوتين. لماذا؟ وهو الذي لقبه الكثيرون بالثعلب الجيوسياسيّ؟ فرحت أفريقيا المهدّدة بالمجاعة، ورحّب الغرب بحذر نظراً للتجارب السيئة السابقة مع بوتين.
الواقع الميداني فرض الآليّة. فالطريق الأسهل للتصدير هو عبر البحر الأسود المُغلق بأمر من قيصر القرن الحادي والعشرين فلاديمير بوتين. مدّة الاتفاق غير المُوقّع من الأفرقاء الأساسيين هي 120 يوماً، قابلة للتجديد. والهدف تصدير نحو 20 مليون طن من الحبوب التي بقيت من الموسم السابق، وذلك بمعدّل 5 ملايين طن شهريّاً. والمدة اللازمة على هذه الوتيرة هي أربعة أشهر.
إن تصدير هذه الكميّة سوف يؤمّن أهراءات وأماكن أوسع في أوكرانيا لتخزين حصاد هذا العام. ومركز القيادة والسيطرة المشترك موجود في إسطنبول، وفيه ممثّلون عن كلّ الأفرقاء، وضمنهم الأمم المتحدة.
وتنطلق السفن من 3 مرافئ أوكرانيّة هي (انظر الخريطة): يوزني وأوديسا وشورنومورسك. وجهة السفن نحو إسطنبول لتفريغ الحمولة، ومن ثمّ شحنها إلى حيث يجب. وتُفتّش هذه السفن عند وصولها ومغادرتها إسطنبول للتأكّد من خلوّها من الأسلحة. وقد تكون الأولويّة في التنفيذ للسفن التي هي أصلاً محجوزة قسراً منذ بدء الحرب في ميناء أوديسا. وتتبّع هذه السفن ممراً بحريّاً آمناً تحدّده البحرية الأوكرانيّة، بعد التعامل مع الألغام البحريّة. ولا مواكبة روسيّة للسفن، ولا ممثّل عن روسيا في أوديسا.
لماذا قبل بوتين؟
> إفهام العالم أنه هو مَن يقرّر من يأكل ومن يجوع. إنه «البرستيج». وهناك من يقول إنه وافق بسبب الضغط من بعض الدول الصديقة، كتركيا ومصر. هذا إلى جانب ضغط الكثير من دول القارة الأفريقيّة الأكثر تضرّراً من أزمة الغذاء؛ حيث لروسيا مصالح مهمّة، تبدأ من بيع السلاح، وتصل إلى الاستثمار بالطاقة والثروات الطبيعيّة. أليست جنوب أفريقيا في مجموعة «البريكس»؟
> يقول بعض الخبراء إن العمليّة العسكريّة الخاصة الروسيّة في أوكرانيا بدأت تخسر من اندفاعتها، وذلك بسبب النقص الكبير لدى الجيش الروسي، في العتاد والعديد. إذاً، لا بد من الذهاب إلى مكان آخر يشغل العالم، بعيداً عن ساحة المعركة. فهل هناك موضوع أهمّ من أزمة الغذاء؟
> هل قبل بوتين بالاتفاق لأنه خسر البارجة موسكو، أو لأنه خرج من جزيرة الأفعى، أو لأنه أصبح لدى أوكرانيا سلاح غربي جديد برّ - بحر، مثل «الهاربون» الذي يهدّد السفن الحربيّة الروسيّة؟
> يعرف الرئيس بوتين جيّداً أن العقوبات الغربيّة لا تنفّذ على القمح والسماد وعلى غيرهما من الحبوب. فلماذا لا يستغلّ هذه المناسبة لقبض بعض العملات الصعبة التي سوف تلتهمها نار الحرب في مرحلة لاحقة؟
> أخيراً وليس آخراً، هل استبق الرئيس بوتين إمكانيّة شحن الحبوب الأوكرانيّة عبر طرق بديلة عن البحر الأسود، سواءً في البرّ أو البحر، عبر الدانوب؟ وهذه عمليّة ستكون خارج سيطرته كلّياً.
ماذا يريد إردوغان؟
> إن مروحة أهداف إردوغان واسعة جدّاً. فهو الوحيد القادر حالياً على التواصل مع كلّ من بوتين وبايدن ورئيسي وزيلينسكي، وغيرهم من قادة العالم. وهو في «الناتو» ولديه استراتيجيّة تتعارض مع استراتيجيّة حلف «الناتو». وهو يضع «فيتو» على انضمام كلّ من فنلندا والسويد إلى حلف «الناتو»، إلا إذا تحققت أهدافه في شمال سوريا ضد الأكراد.
> وقع تركيا الجغرافي يعطيها حالياً هذا التأثير. فهي تطلّ على 3 بحار: المتوسّط، والأسود حيث الحرب على أوكرانيا، وقزوين، لكن بالواسطة عبر أذربيجان، خصوصاً بعد حرب نوغورنو كاراباخ. وأخيراً، تتحكم تركيا بمداخل ومخارج البحر الأسود عبر اتفاقيّة مونترو (Montreux)1936.
> إن مركز إدارة شحن الحبوب هو في إسطنبول؛ حيث تتجّه كل أنظار العالم اليوم، وفيه ممثّل عن روسيا. لكن إردوغان يبيع مسيّرات «البيرقدار» للجيش الأوكراني التي تقتل العسكر الروسيّ.
في بعض المتفرّقات والثغرات
> عودة الأمم المتحدة كراعٍ، ولكن ليس كمبادر لحلّ الأزمات التي تهدّد الأمن والسلم العالميين، أرادها إردوغان إلى جانبه لأنها تعطيه شرعيّة عالميّة.
> إن عملية الشحن من أوديسا تعني الاستقرار في أوديسا. فهل سيكون الاستقرار في المرفأ أو المحافظة؟ هذا مع التذكير بأن ضرب المحافظة يعني توقّف العمل في المرفأ.
> هل سيتزامن الشحن مع استكمال العمليّة العسكريّة الروسيّة في إقليم دونيتسك؟ وهل يمكن أن يحلّ الصيف والشتاء على السطح نفسه وفي الوقت نفسه؟ وهل سيشمل وقف النار في البحر الأسود، كلّ البحر الأسود؟
> ماذا سيكون موقف شركات التأمين للسفن؟ وما هي الكلفة؟