الحلّ التكتيكي مقابل الخلل في موازين القوى

TT

الحلّ التكتيكي مقابل الخلل في موازين القوى

اللاتماثليّة (asymmetry) هي مفهوم يحكم كل العلاقات البشريّة تقريباً. فبين القوى العظمى، كما القوى الكبرى، هناك لا تماثليّة. وبين الرجل والمرأة هناك لا تماثليّة. وعندما تُرسم الاستراتيجيّات من قبل القادة العسكريين، تُؤخذ بعين الاعتبار نقاط القوة لمُعدّي هذه الاستراتيجيّة، ويتمّ التركيز على نقاط الضعف لدى العدو. اللاتماثليّة موجودة إذن.
إذا استطاع العدو التأقلم والهرب من نقاط ضعفه، يسقط مبدأ اللاتماثليّة. إذن، هناك نقاط ضعف لا يمكن الهروب منها. على سبيل المثال، يُعتبر العنصر البشري لدى إسرائيل من أهمّ نقاط ضعفها. ومن هنا تُرسم الاستراتيجيّات العسكريّة الإسرائيليّة بشكل يحمي العنصر البشري أوّلاً بأوّل.
وهناك نقاط ضعف تكتيكيّة يمكن الهروب منها بقرارات عسكريّة ميدانيّة تكتيكيّة.
وبين داود وجوليات حكمت اللاتماثليّة العلاقة ونتيجة الصدام المباشر، بين الثقل المُدجّج بالسلاح وعدم القدرة على الحركيّة والثقة الزائدة بالنفس لدى جوليات، وحركيّة داود وعدم القدرة على الهروب من الصراع، وحتميّة القتال بما توفّر. أطاح مقلاع داود بجوليات. (نعتقد أن هذه القصّة هي قصّة رمزيّة، وهي تمثّل حالة من حالات الطبيعة البشريّة الثابتة عبر الزمان والمكان، وليست حكراً على الساحل الفلسطينيّ؛ حيث يُقال إن الحادثة وقعت).
في الحروب لا تكفي إرادة القتال والمعنويّات فقط لربح الحرب، إذ يجب أن يكون هناك توازن بين هذه العوامل والوسائل المتوفّرة. أليس «السيف أصدق إنباءً من الكتب»؟
يُنظّر المفكّر البروسي كارل فون كلوزفيتز، حول حتميّة التوازن في الحرب بين الأهداف والوسائل. لكن الخلل بين الاثنين هو أمر حتميّ، وهو جزء أساسي من طبيعة العلاقة بين الأهداف والوسائل.
إن توفّر الوسائل بشكل كامل وشامل لتحقيق الأهداف الموضوعة، هو أمر منافٍ لخصائص الحرب وللفكر العسكريّ. وإذا حصل هذا الأمر، فهذا يعني موت الفكر الاستراتيجي والاستراتيجيّة بشكل عام. ألا تُوضع الاستراتيجية للتعويض عن الخلل في التوازن بين الأهداف والوسائل؟ وألا يُعتبر هذا الخلل جزءاً أساسياً من روحيّة اللاتماثليّة؟

الحرب على أوكرانيا في هذه المقاربة
في الحرب التي تدور في الدونباس، يُركّز الجيش الروسي على نقاط ضعف الجيش الأوكراني، سواءً في العديد أو الوسائل العسكريّة المتوفّرة.
وتتمثّل المعضلة الأوكرانيّة في أمرين مهمّين جدّاً، وهما:
الخلل في موازين القوى بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني بكل الأبعاد، البشريّة والعسكريّة.
إن نجاح الاستراتيجيّة الأوكرانيّة ضد الجيش الروسيّ، هو أمر متعلّق مباشرة بإرادة الغرب كلّه، وخصوصاً أميركا. وهكذا، تبدو الاستراتيجيّة الأوكرانيّة عرجاء، تفتقد إلى أهمّ ركيزة، ألا وهي الوسائل.

صورة الوضع الميداني حاليّاً
اعتقد البعض أنه بعد معركتي سيفيرودونيتسك وليسيشانسك، سوف تكون هناك وقفة عملانيّة روسيّة لإعادة تنظيم القوى، والاستراحة، وغيرها من الأمور.
وبالفعل، أعطى الرئيس بوتين أمراً للقوى في الشرق الأوكراني بالاستراحة والاستعداد للمعركة القادمة.
لكن الوقفة العملانيّة، (Operational Pause) في الحروب، هي أمر ضروري وخطير في الوقت نفسه. الوقفة ضروريّة لأن الحرب ليست عملاً مستمرّاً في الزمان والمكان. فالحرب تخدم هدفاً سياسياً. وبعد كل إنجاز، لا بد من وقفة لتقييم الإنجاز ومقارنته بالأهداف السياسيّة الموضوعة: ماذا تحقّق منها؟ وهل السلوك الاستراتيجي المُتّبع هو السلوك الصحيح أم يجب التعديل؟ يُضاف إلى كل هذه الأمور حتميّة «استراحة المقاتل».
لكن الوقفة خطيرة؛ لأنها قد تنقل زمام المبادرة إلى العدوّ وتعطيه الوقت الكافي للاستعداد للمعركة القادمة، وحتى إلى القيام بهجمات عكسيّة (Counter Attacks). من هنا أهميّة وحساسيّة حساب مدّة الوقفة العملانيّة زمنياً: هل هي أيام أم أسابيع؟ في الحروب الكبيرة، تُحسب الوقفة بالأسابيع، وحتى بالأشهر.
اعتمد الجيش الروسي بعد الانتهاء من المدينتين التوأمين (سيفيرودونيتسك وليسيشانسك) مقاربة مزدوجة تقوم على ما يلي:
- وقفة عملانيّة في محيط المدينتين؛ لكن مع استمرار القصف وجسّ النبض؛ خصوصاً في مدينتي سيفرسك وبخموت.
- الاستمرار في محاولة السيطرة على الطريق الدولي السريع E-40 الذي يربط مدينة خاركيف بمدينة سلوفيانسك (الهدف المستقبلي للجيش الروسيّ)، مروراً بمدينة أزيوم التي يسيطر عليها الجيش الروسيّ. ويُعتبر هذا الطريق الدولي الخطّ اللوجستي الأهم للجيش الروسي للمعركة القادمة.
- والهدف هو دائماً الاقتراب قدر الإمكان جغرافيّاً من مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك، لتثبيت قاعدة ناريّة مدفعيّة لا تبعد أكثر من 10-15 كيلومتراً عن المدينتين، وتكرار الخطّة التي اتُّبعت في مدينة سيفيرودونيتسك.
- أما فيما خصّ الجيش الأوكرانيّ، فهو انسحب دون معركة فاصلة من مدينة ليسيشانسك، وذلك بهدف الاقتصاد بالقوى وتنظيمها، وانتظار ما سيأتي من سلاح متطوّر؛ خصوصاً السلاح المدفعي من دول الغرب.
- ولأن موازين القوى هي لصالح الجيش الروسيّ، فما على الجيش الأوكراني إلا ابتكار حل تكتيكي للقتال بهدف التعويض.
في الختام، تكمن مأساة الجيش الأوكراني في أمرين جوهريين من أصل عدة أمور، وهما:
- قرار الحصول على السلاح النوعي ليس بيده.
- انتقال هذا الجيش من العقيدة القتاليّة والسلاح الشرقي إلى العقيدة الغربيّة والسلاح الغربيّ، وهو في أهمّ مرحلة مفصليّة من الحرب مع روسيا.


مقالات ذات صلة

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أوروبا جندي أوكراني على خط المواجهة مع القوات الروسية في منطقة دونيتسك (رويترز)

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أعلنت روسيا، الأحد، أن قواتها سيطرت على بلدات في منطقتين رئيسيتين تقعان على خط الجبهة في شرق أوكرانيا، فيما يتقدم جيشها باتجاه مدينتين استراتيجيتين.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا أرشيفية لأحد مباني مدينة بيلغورود الروسية عقب استهدافها بمسيرة أوكرانية (إ.ب.أ)

 روسيا تعلن تدمير 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل

قالت وزارة الدفاع الروسية، اليوم (الأحد)، إن أنظمة الدفاع الجوي الروسية دمرت 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أميركا اللاتينية قوات روسية بمنطقة كورسك على الحدود مع أوكرانيا (أ.ب)

زيلينسكي: هناك مزيد من الجنود الكوريين الشماليين يقاتلون في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن الجيش الروسي بدأ في نشر المزيد من الجنود الكوريين الشماليين خلال الهجمات على كورسك بالقرب من الحدود الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يصدر تعليمات لإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه أصدر تعليمات لحكومته بإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا بالتعاون مع المنظمات الدولية في أعقاب سقوط نظام الأسد.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عربة عسكرية أوكرانية تحمل أسرى يرتدون الزي العسكري الروسي بالقرب من الحدود مع روسيا (أ.ف.ب) play-circle 00:45

زيلينسكي: روسيا تنشر مزيداً من القوات الكورية الشمالية في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، السبت، إن موسكو بدأت إشراك «عدد ملحوظ» من القوات الكورية الشمالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
TT

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)
عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)

وجهت الشرطة الفيدرالية الأسترالية اتهاماً لرجل يبلغ من العمر 36 عاماً بعرض رمز منظمة مصنفة «إرهابية» علناً، وذلك خلال مظاهرة في منطقة الأعمال المركزية بمدينة ملبورن في سبتمبر (أيلول) الماضي.

الرجل، المقيم في منطقة فيرنتري غولي، سيمثل أمام محكمة ملبورن الابتدائية في 6 مارس (آذار) المقبل؛ حيث يواجه عقوبة قد تصل إلى 12 شهراً من السجن إذا ثبتت إدانته، وفقاً لصحيفة «الغارديان».

جاءت المظاهرة ضمن فعاليات يوم وطني للعمل من أجل قطاع غزة، الذي نظمته شبكة الدعوة الفلسطينية الأسترالية في 29 سبتمبر الماضي، وشهد تنظيم مسيرات مماثلة في مختلف أنحاء البلاد احتجاجاً على التصعيد المتزايد للعنف في الشرق الأوسط.

وأطلقت الشرطة الفيدرالية الأسترالية بولاية فيكتوريا عملية تحقيق تحت اسم «أردفارنا»، عقب احتجاج ملبورن؛ حيث تلقت 9 شكاوى تتعلق بعرض رموز محظورة خلال المظاهرة.

ووفقاً للشرطة، تم التحقيق مع 13 شخصاً آخرين، مع توقع توجيه اتهامات إضافية قريباً. وصرح نيك ريد، قائد مكافحة الإرهاب، بأن أكثر من 1100 ساعة قُضيت في التحقيق، شملت مراجعة أدلة من كاميرات المراقبة وكاميرات الشرطة المحمولة، إضافة إلى مصادرة هواتف محمولة وقطعة ملابس تحتوي على رمز المنظمة المحظورة.

تأتي هذه الإجراءات بعد قرار الحكومة الفيدرالية الأسترالية في ديسمبر (كانون الأول) 2021 بتصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، ومع التشريعات الفيدرالية الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) 2024، التي تحظر عرض رموز النازيين وبعض المنظمات.

وقالت نائبة مفوض الأمن القومي، كريسي باريت، إن الادعاء يحتاج إلى إثبات أن الرمز المعروض مرتبط بمنظمة إرهابية وأنه قد يحرض على العنف أو الترهيب.

المظاهرة، التي استمرت في معظمها سلمية، جاءت بعد إعلان مقتل قائد «حزب الله» حسن نصر الله في غارة جوية إسرائيلية، وهو ما اعتبره العديد تصعيداً كبيراً في الصراع المستمر في الشرق الأوسط.

وفي وقت لاحق، نُظمت مظاهرات أخرى في سيدني وملبورن وبريزبين، وسط تحذيرات للمتظاهرين بعدم عرض رموز محظورة.