كيف يمكن التقليل من البصمة البيئية لقطاع البناء؟

كيف يمكن التقليل من البصمة البيئية لقطاع البناء؟
TT

كيف يمكن التقليل من البصمة البيئية لقطاع البناء؟

كيف يمكن التقليل من البصمة البيئية لقطاع البناء؟

يقضي البشر معظم أوقاتهم في أماكن مبنية، في البيت وفي المدرسة، أو في أماكن العمل والاستشفاء والترفيه. وقلّما يفكّر أحد في سلامة هذه البيئة المصطنعة، ومدى توافقها مع البيئة الطبيعية خلال دورة حياتها الكاملة، ابتداءً من البناء والتشييد، وأثناء الاستثمار والتشغيل، وانتهاءً بالهدم والإزالة.
- بصمة بيئية ضخمة
تحظى البيئة المبنية بما يقرب من نصف المواد الخام التي يستخرجها العالم، وتتسبب أعمال البناء بنحو ثلث كمية النفايات الإجمالية. وفي الولايات المتحدة، تقدّر وكالة حماية البيئة كمية النفايات الناتجة عن البناء والهدم بما يقارب 600 مليون طن سنوياً، أي ضعف كمية النفايات الصلبة البلدية الناتجة في البلاد.
ووفقاً لتقرير «جيو 6» الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) سيرتفع عدد سكان المناطق الحضرية من 50 في المائة حالياً إلى 60 في المائة في 2030 و66.4 في المائة في 2050. وعلى الرغم من أن نحو ثلثي مساحة البناء الموجودة حالياً ستظل قائمة في 2040، فإن مساحة الأراضي المبنية ستتضاعف بحلول 2060، وهذا يعني أن قدرة المدن على استيعاب الأعداد المتزايدة من السكّان ستتطلب زيادة في المساحات المبنية بمقدار 230 مليار متر مربع، أي ما يعادل إضافة مدينة جديدة إلى العالم بمساحة نيويورك كل شهر لمدة 40 سنة.
ويُعد قطاع البناء لاعباً أساسياً في التغيُّر المناخي، إذ إن عمليات البناء والإنشاء كانت مسؤولة عن 38 في المائة (13.1 مليار طن) من انبعاثات الكربون العالمية ذات الصلة بالطاقة في سنة 2015، ثم انخفضت انبعاثات هذا القطاع بمقدار 10 في المائة في سنة 2020 لتصبح 11.7 مليار طن. ويعزو تقرير «الحالة العامة للأبنية والتشييد 2021»، الصادر عن «يونيب»، أغلب هذا التراجع إلى تناقص الطلب على الطاقة نتيجة جائحة «كوفيد - 19»، وأيضاً إلى الجهود المستمرة في خفض الانبعاثات عالمياً.
وكانت 90 دولة أدرجت إجراءات لمعالجة الانبعاثات المتعلقة بالمباني أو تحسين كفاءة الطاقة في مساهماتها المحددة وطنياً بموجب اتفاقية باريس المناخية سنة 2015. وعام 2020، صرَّحت 136 دولة عن تخفيض في انبعاثات المباني ضمن مساهماتها المحددة وطنياً، رغم تباين الطموحات بين بلد وآخر.
ويُعدّ قطاع البناء مستهلكاً شرهاً للطاقة، ففي سنة 2015 بلغ إجمالي الاستهلاك في تشييد المباني وتشغيلها نحو 144 إكساجول، أو 38 في المائة من الطلب العالمي على الطاقة. وبحلول 2020، وصل استهلاك الطاقة إلى 149 إكساجول، أو 36 في المائة من الطلب العالمي على الطاقة. ويعكس هذا الانخفاض تأثير عمليات الإغلاق المرتبطة بالجائحة وتراجع الاستقرار في التزود بالطاقة وتراجع القدرة على تحمل نفقاتها من قبل العديد من الأُسَر والشركات.
- ما الذي يمكن فعله؟
هناك الكثير من الخيارات التي يمكن اتباعها لخفض البصمة البيئية لقطاع البناء. فمن الممكن، على سبيل المثال، إقلال نفايات الهدم والبناء من خلال دعم نظم البناء المسبقة الصنع التي تقلل من الهدر الناتج عن أعمال البناء في الموقع، ولا سيما أن تصميم وتنفيذ هذه المنشآت يتم وفق أسس معيارية تخفّض الفاقد وتعزز كفاءة استخدام الطاقة. ومن ناحية أخرى، يمكن تفكيك الأبنية المسبقة الصنع وإعادة تركيبها في أماكن أخرى، ما يقلّل من نفايات الهدم.
ويُعد مفهوم «التصميم للتفكيك» هو الاتجاه الحالي في العمارة المستدامة، وهو يتبنى طرق بناء بسيطة باستخدام مواد متينة وعالية الجودة، ويسمح بفصل طبقات البنية التحتية للمبنى وجعلها مرئية. وكانت أولمبياد لندن 2012 تبنّت هذه الأفكار من خلال بناء أماكن إقامة مؤقتة تتسع لنحو 17 ألف رياضي، ثم أعيد استخدام هياكل هذه المباني لتصبح منازل مستدامة للسكان المحليين، بفضل التصميم الذي سمح بتغيير موضع القواطع وإعادة تكوين الفراغات.
كما يمكن تحسين قابلية المباني للتدوير من خلال التصميم الذكي الذي يأخذ في الاعتبار استخدام مواد صديقة للبيئة، ويراعي الظروف المناخية في التهوية والإنارة والعزل الحراري والمائي. وتفرض العديد من البلدان ضوابط (كودات) تخص الطاقة وكفاءتها في المباني؛ حيث كانت 62 دولة قد اعتمدت مثل هذه الضوابط قبل قمة باريس المناخية في 2015، وارتفع العدد حالياً إلى 80 دولة، إلى جانب جهود مماثلة تبذلها المدن والحكومات المحلية.
ويشهد الاستثمار في كفاءة استخدام الطاقة ارتفاعاً ملحوظاً؛ حيث وصل إلى أكثر من 180 مليار دولار في 2020 بالمقارنة مع 129 مليار دولار في 2015، ومع ذلك، جاءت معظم هذه الزيادة بفضل مبادرات عدد محدود من الدول الأوروبية. ومن دون استثمار أوسع، من غير المرجح أن يكون هذا النمو كافياً لمعالجة تحسينات الكفاءة على كامل مساحة سوق البناء العالمية.
إن ثلاث مواد فقط، هي الخرسانة والفولاذ والألومنيوم، مسؤولة عن 23 في المائة من إجمالي الانبعاثات العالمية، وتُستهلك مجملها في عمليات البناء والتشييد. ولذلك فإن التحولات الكبرى في تصنيع هذه المواد، كالابتكارات في الطاقة المتجددة التي تتيح تشغيل أفران الصهر والأفران الدوّارة، تعتبر خطوة مهمة لخفض الانبعاثات ومواجهة تغيُّر المناخ. كما يسهم استخدام مواد البناء البديلة، كالألياف الكربونية، في تحييد الكربون وتحقيق استدامة البناء.
ولخفض استهلاك الموارد، يجب تشجيع قطاع البناء على استرداد المعادن من مخلَّفات الهدم، وتوسيع أنشطة تدوير الأنقاض. ويوفّر سحق الكتل الإسمنتية إنتاج مواد تصلح كركام في أعمال الصب، كما يمكن سحق طبقات الإسفلت المزالة واستخدامها في الخلائط الإسفلتية لرصف الطرق الجديدة أو كطبقة ردم في الطرقات الثانوية والمؤقتة.
توجد تحديات مستقبلية كبيرة تواجه الوصول إلى انبعاثات صفرية وتعزيز كفاءة الطاقة ومرونة قطاع البناء والتشييد، خصوصاً في البلدان التي لا تتبنى أي قوانين تخص الطاقة في المباني، أو لديها أنظمة طوعية غير مُلزِمة. ومن المرجح أن يكون الانخفاض الأخير في الانبعاثات المرتبطة بالطاقة من المباني والتشييد قصير الأجل، وسيعاود الانتعاش في السنوات القليلة المقبلة مع خروج العالم من أزمة الجائحة. ولذلك يُعدّ التقليل الفوري والكبير لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري من قطاع البناء أمراً بالغ الأهمية لتحقيق أهداف اتفاقية باريس المناخية.


مقالات ذات صلة

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

الاقتصاد جانب من المؤتمر الصحافي الختامي لمؤتمر «كوب 16» بالرياض (الشرق الأوسط)

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

يترقب المجتمع البيئي الإعلان عن أهم القرارات الدولية والمبادرات والالتزامات المنبثقة من مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16).

عبير حمدي (الرياض)
الاقتصاد رئيس وزراء منغوليا يتحدث إلى الحضور خلال «كوب 16» في الرياض (الشرق الأوسط)

رئيس وزراء منغوليا من الرياض: مشاريع سعودية تستهدف الانتقال للطاقة النظيفة

أوضح رئيس وزراء منغوليا أويون إردين لوفسانامسراي أن مؤتمر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر «كوب 16» المنعقد حالياً في الرياض يتمحور حول مستقبل الأرض.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد إحدى المناطق الخضراء في السعودية (الشرق الأوسط)

العبد القادر لـ«الشرق الأوسط»: «كوب 16» سيدعو إلى تبني استراتيجيات تكافح التصحر

أكد الرئيس التنفيذي للمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر السعودي، الدكتور خالد العبد القادر، أن مؤتمر «كوب 16» سيدعو إلى تبني استراتيجيات للتصحر.

آيات نور (الرياض)
يوميات الشرق الصورة المصاحبة لبوستر الفيلم الوثائقي (نتفليكس)

«اشترِ الآن!»... وثائقي «نتفليكس» الجديد يكشف دهاليز مؤامرة التسوق

تُغري عبارة «اشترِ الآن» ملايين المستهلكين من حول العالم، لتبضع الكثير من السلع الاستهلاكية التي غالباً لا يحتاجون إليها، خصوصاً في فترة نهاية العام.

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق عرض جزيئات بلاستيكية دقيقة تم جمعها من البحر باستخدام مجهر بجامعة برشلونة (أرشيفية - رويترز)

أنشطة منزلية تزيد من تعرضك للجزيئات البلاستيكية الضارة... تعرف عليها

حذر علماء من أن الأنشطة المنزلية اليومية مثل طي الملابس والجلوس على الأريكة قد تنبعث منها سحب من البلاستيك الدقيق.

«الشرق الأوسط» (لندن)

السعودية تستهدف تحويل 60 % من مناطقها إلى «غابات مُنتجة»

TT

السعودية تستهدف تحويل 60 % من مناطقها إلى «غابات مُنتجة»

الاستفادة من التقنيات الحديثة في تشجير البيئات الجافة واستعادة الأراضي المتدهورة من أهداف المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (تصوير: تركي العقيلي)
الاستفادة من التقنيات الحديثة في تشجير البيئات الجافة واستعادة الأراضي المتدهورة من أهداف المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (تصوير: تركي العقيلي)

يواصل «المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير» استقبال الحضور اللافت من الزوّار خلال نسخته الثانية في العاصمة السعودية الرياض، بتنظيم من المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، في منطقة «COP16» بالرياض.

وفي الإطار، وقّع، الخميس، المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، مذكّرة تفاهم مع مركز البحوث الزراعية والغابات الدولية (CIFOR-ICRAF)، للتعاون بهدف استغلال الزراعة الحراجية لإدارة الأراضي المستدامة.

اهتمام مجتمعي كشفه مستوى الحضور إلى المعرض. (تصوير: تركي العقيلي)

وخلال جولة «الشرق الأوسط» في المعرض، كشفت أميرة العبدلي، مديرة الغابات الاجتماعية في المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، أن الزراعة الحراجية تستهدف «الغابات المنتجة للغذاء» أو أراضي الغطاء النباتي المنتجة التي تسمى أيضاً «الغابات المدمجة».

 

الزراعة الحراجيّة

وأكدت العبدلي أن هذه الشراكة تأتي لتحقيق مستهدفات المركز في خطة يجري بناؤها الآن للزراعة الحراجية إلى عام 2030، وأضافت: «نستهدف خلالها تحويل 50 إلى 60 في المائة من مناطق السعودية إلى غابات منتجة».

ونوّهت العبدلي إلى أن «الزراعة الحراجية» تُعد محوراً رئيسياً ضمن مبادرة السعودية الخضراء.

المعرض استقطب حضور دولي للإطلاع على كافة الأجنحة والأركان. (تصوير : تركي العقيلي)

وفي إطار متّصل، كشفت العبدلي لـ«الشرق الأوسط» عن البدء في حصر الأشجار المعمِّرة في السعودية وشرحت: «استندنا في رحلتنا لحصر الأشجار المعمِّرة إلى المعرفة لدى المجتمعات المحلية بالأشجار الموجودة في المنطقة»، وحول عدد الأشجار التي حُصرت، أفادت العبدلي بأنه «خلال المرحلة الأولى استطعنا حصر 383 موقعاً لأشجار معمِّرة في مناطق عسير وجازان والباحة، ووضعنا لها لوحات تعريفية بالإضافة لعمل حماية لها، وأنهينا المرحلة الأولى بإنجاز بنسبة 100 في المائة».

شجرة معمِّرة تفاعلية على هامش المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (الشرق الأوسط)

وعن المرحلة الثانية من الحصر، أشارت العبدلي إلى أنها ستركِّز على إدارة الغابات، و«نستهدف أن تكون لدينا قاعدة بيانات رقمية بحيث يمكن معرفة موقع ومعلومات الشجرة عن طريق الإنترنت».

 

جازان وعسير والباحة في المرحلة الأولى لحصر الأشجار المعمِّرة

وبالسؤال عن أين توجد أغلب الأشجار المعمِّرة في السعودية، أفادت العبدلي بأن أغلب الأشجار المعمِّرة «موجودة في المنطقة الجنوبية في الغابات الجبلية، حيث رصدنا في جازان 208 أشجار معمَّرة، وفي عسير 80 شجرة معمِّرة، وفي الباحة 60 شجرة معمِّرة، وهذه الأرقام في طور الزيادة».

وسلّطت العبدلي الضوء على المساهمة البيئية لهذه الأشجار، معتبرةً أنه في ظل الحديث عن الكربون وكيفية تخزينه «فكلما كبُر عمر الشجرة كان تخزينها للكربون أكبر، إلى جانب أنها تعدّ نظاماً بيئياً متكاملاً يحمي الكائنات الحيّة ويحمي التربة من الانجراف ويسهم في الحماية من التغيّرات المناخية».

 

مشاركة المجتمعات المحلّية

ويربط بين الأشجار المعمِّرة والغابات المنتجة للغذاء مشاركة المجتمعات المحلّية، وكان المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، قد وجّه دعوة لأفراد المجتمع المحلي للمشاركة في تحديد مواقع الأشجار المعمرة والنادرة؛ لإدراجها ضمن قاعدة بيانات مخصصة، وتأهيلها وفق معايير علمية عالية.

ولفت المركز إلى أن ذلك يأتي انطلاقاً من المسؤولية المشتركة نحو حماية ورعاية الغطاء النباتي، والحفاظ على الثروات الطبيعية للبلاد.

شجرة معمِّرة تفاعلية على هامش المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (الشرق الأوسط)

 

«بُعد أخضر»

وعلى الهامش تستمر حملة «بُعد أخضر» للتعريف بأهداف وتطلعات النسخة الثانية من المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير، وأكد المسؤولون عن الحملة أنها جاءت في ظل اهتمام كبير تحظى به النسخة الحالية من المعرض والمنتدى، إذ تُقام بالتزامن مع انعقاد مؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر «COP16»، الذي يُعقد للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، وتسعى إلى إبراز جهود السعودية في حماية البيئة ومكافحة التصحر والجفاف على المستوى العالمي، فضلاً عن تعزيز الاهتمام المتزايد بالغطاء النباتي، الذي يعدّ من الركائز الأساسية للاستراتيجية الوطنية للبيئة، إلى جانب دعوة المهتمين إلى زيارة مقر الفعالية التي تحتضنها المنطقة الخضراء في «COP16» في العاصمة السعودية الرياض.