«غيوم سوداء» في سماء البلطيق

TT

«غيوم سوداء» في سماء البلطيق

في اللاوعي الروسي، هناك مثلّث مُقدّس تقوم عليه الأمة، ألا وهو: الأرثوذوكسيّة والأوتوقراطيّة والقوميّة. وقد تكوّن هذا المثلث بسبب العامل الجغرافي، كما بسبب التهديدات الخارجيّة. تجاور روسيا أوروبا وتتفاعل معها، لكنها على تماس عن بُعد مع آسيا، ويُقال عنها أنها أوراسيّة، لكنها أكثر قرباً إلى القسم الأوّل من التسمية. وقد أتت المخاطر على روسيا من الشرق كما من الغرب: المغول من الشرق، ونابليون وهتلر من الغرب. وكلّ هذه التفاعلات نسجت ثقافة سياسيّة واستراتيجيّة لروسيا فريدة من نوعها. فهي، أي روسيا، دولة تعتبر حالة السلم سلماً، فقط بسبب غياب الحرب. ألم يقل فلاديمير لينين «إن السلم هو حالة غياب الحرب»؟
إن غياب الحرب مع المحيط لا يعني أبداً السلم، وإنما هي حالة من حالات الاستعداد للحرب. لذلك، تنكفئ روسيا مؤقّتاً كما النبّاض، لكن فقط للانقضاض والتمدّد بعد استكمال الجهوزيّة.
فتحت الحرب الأوكرانيّة كتاب التاريخ الروسي القديم على مصراعيه. ولم نرَ في هذه الحرب خصائص الحروب للقرن الحادي والعشرين، بل أعادتنا الحرب الأوكرانيّة إلى دمويّة حرب القرم (1853 - 1856)، كما إلى دمويّة حرب الخنادق العبثيّة في الحرب العالميّة الأولى. يقرأ الرئيس بوتين اليوم من كتاب القيصر بطرس الأكبر، وبالتحديد من صفحات عام 1704. وكما استردّ القيصر القديم الأراضي التي كانت له أصلاً من المحيط المباشر، يستردّ القيصر الحالي الأراضي التي سُلخت قسراً عن الإمبراطوريّة الروسيّة - السوفياتيّة. لا حلول وسط ولا تسويات مع القيصر الروسي، كائناً من كان. إما كلّ شيء، أو الخيار الشمشوني.
لقد عرّت الحرب الأوكرانيّة الجيش الروسي، وجعلته كتاباً مفتوحاً للدراسة لمن يرغب من الأعداء والمنافسين، كما ضربت هذه الحرب القطاعات التالية في روسيا: التكنولوجيا بسبب العقوبات على استيراد الرقاقات الذكيّة، وشبكات التجسّس الروسيّة في الغرب، وسلاح الطاقة، وأخيراً وليس آخراً، ضربت الأحلام القيصريّة لتبوّء مركز متقدّم في النظام العالمي المُنتظر. وإذا كان الرئيس بوتين قد أعلن مؤخراً نهاية الأحادية الأميركيّة، فمن سيضمن له أنه سيكون لروسيا دور مُهم في عالم متعدّد الأقطاب؟
إلى جانب أوكرانيا.. البلطيق وفنلندا والسويد
أحيت الحرب الأوكرانيّة المخاوف القديمة لدول الجوار الروسيّ، فكان ملجأ أكثرها في الانضمام إلى حلف «الناتو» أو الاتحاد الأوروبي، وذلك تحت شعار «الأمن من ضمن القطيع» (Herd Security)؛ خصوصاً دول البلطيق. وتتميّز هذه الدول بهشاشة أمنيّة عالية، كما لا تتمتّع بإمكانات كافية لدرء الخطر الروسي عنها، إذ لا عمق استراتيجيّاً لها. وهي، في حالة أي هجوم روسي على أوروبا، ستكون الممر الأساسي ونقطة الانطلاق، وحتى إن تركيبتها الإثنية مختلطة وفيها مجموعات كبيرة من أصل روسي. ففي إستونيا 24.8 في المائة من أصل روسي، وفي لاتفيا 26.9 في المائة، أما في ليتوانيا فنسبة الروس هي 5.8 في المائة.
وإذا أدخلنا السويد وفنلندا في المعادلة الأمنيّة المُستجدة، فقد يمكن القول إن بحر البلطيق سيكون بحيرة لـ«الناتو» بامتياز، مع دول أعضاء تتمتّع بإمكانات عسكريّة متطوّرة؛ خصوصاً السويد. وهذا الأمر سوف يُحرج روسيا لأن مخرجها المائي إلى الأطلسي هو عبر بحر البلطيق.
إقليم كاليننغراد ـ أي سلوك متوقع من روسيا؟
إقليم كاليننغراد هو إقليم روسي ألماني أصلاً، ومعزول عن موسكو على مسافة 1500 كلم، ولا تتجاوز مساحته 223 كلم مربع. ويفصل الإقليم عن الحليف البيلاروسي فجوة سوالكي (Suwalki Gap) بعرض 100 كلم تقريباً. وهو مسقط رأس الفيلسوف إيمانويل كانط، وفيه قيادة أسطول بحر البلطيق، مع شاطئ بطول 145 كلم، كما فيه صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نوويّة. ومنه يمكن تهديد قلب أوروبا، عبر بولندا، كما يمكن تهديد خطوط الملاحة في بحر البلطيق؛ خصوصاً بالاتجاه السويدي. وللوصول إليه يجب عبور بيلاروسيا أولا، ثم الأراضي الليتوانية. ويُشحن 50 في المائة من البضائع إلى الإقليم عبر سكك الحديد التي تمر في ليتوانيا. ومؤخراً، منعت ليتوانيا مرور البضائع الروسيّة عبر أراضيها، وبالتحديد البضائع التي تخضع للعقوبات الغربيّة، مثل الفحم والمعادن ومواد البناء والتكنولوجيا المتطوّرة. وهدّدت روسيا، وبدأت مناورات افتراضيّة على حدود إستونيا، كما خرقت طوّافة روسيّة الأجواء الإستونيّة. ويمكن لروسيا تحريض الإثنيات من أصل روسي على دولها، ومن بعدها، وتحت نفس الحجج التدخّل لحماية كلّ شخص من أصل روسي أينما كان.
هذه السياسة بدأت مع القيصر كاترين الكبرى، ولا تزال سارية المفعول مع الرئيس بوتين في إقليم دونباس. فهل لدى روسيا القوات العسكريّة الكافية لعمل عسكريّ، وهي الغارقة في المستنقع الأوكراني، وتعاني أوّل ما تعاني من النقص في العديد واللوجستيّة؟ وهل ستجرؤ روسيا على تحدّي دولة منضمة إلى حلف «الناتو» مباشرة، وبالقوّة العسكريّة؟ وهل ستلجأ إلى المنطقة الرماديّة في الحروب التي جرّبتها خصوصاً في القرم عام 2014؟ وهل تضمن روسيا تجاهلاً غربياً - أميركياً على تهديدها لدولة في حلف «الناتو»؟ وهل يمكن ربط ما يجري في ليتوانيا بالغارة الروسيّة على قاعدة التنف المدعومة أميركيّاً؟
إن غداً لناظره قريب.


مقالات ذات صلة

روسيا تعلن اعتراض 8 صواريخ أميركية الصنع أُطلقت من أوكرانيا

أوروبا صورة تظهر حفرة بمنطقة سكنية ظهرت بعد ضربة صاروخية روسية في تشيرنيهيف الأوكرانية (رويترز)

روسيا تعلن اعتراض 8 صواريخ أميركية الصنع أُطلقت من أوكرانيا

أعلن الجيش الروسي اليوم (السبت)، أنه اعترض 8 صواريخ أميركية الصنع أطلقتها أوكرانيا في اتجاه أراضيه.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا رجال إنقاذ أوكرانيون في موقع هجوم مسيّرة روسية بكييف (إ.ب.أ)

مقتل 5 أشخاص على الأقل بهجمات متبادلة بين روسيا وأوكرانيا

أسفرت هجمات روسية بمسيّرات وصواريخ على أوكرانيا، يوم الجمعة، عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقلّ، في حين قُتل شخصان في ضربات أوكرانية طالت مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)
أوروبا ترمب وزيلينسكي (أ.ف.ب)

زيلينسكي: ترمب قادر على وقف بوتين

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمس الخميس إن بمقدور الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب أن يحسم نتيجة الحرب المستعرة منذ 34 شهرا مع روسيا،

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناة تلغرام)

زيلينسكي: عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترمب قد يساعد في إنهاء حرب أوكرانيا

اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الخميس أن عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب قد يساعد على إنهاء الحرب مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف )
أوروبا صورة من مقطع فيديو نشرته وزارة الدفاع الروسية 7 نوفمبر 2024 يُظهر جنوداً من الجيش الروسي خلال قتالهم في سودجانسكي بمنطقة كورسك (أ.ب)

روسيا: كبّدنا القوات الأوكرانية خسائر جسيمة على محور كورسك

أعلنت وزارة الدفاع الروسية، في بيان، اليوم الخميس، أن الجيش الروسي استهدف القوات المسلحة الأوكرانية بمقاطعة كورسك، وكبّدها خسائر فادحة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

مونتينيغرو تسلم «دو كوون» مؤسس العملات الرقمية المشفرة إلى أميركا

مؤسس العملات الرقمية الكوري الجنوبي دو كوون (رويترز)
مؤسس العملات الرقمية الكوري الجنوبي دو كوون (رويترز)
TT

مونتينيغرو تسلم «دو كوون» مؤسس العملات الرقمية المشفرة إلى أميركا

مؤسس العملات الرقمية الكوري الجنوبي دو كوون (رويترز)
مؤسس العملات الرقمية الكوري الجنوبي دو كوون (رويترز)

قامت جمهورية مونتينيغرو (الجبل الأسود)، اليوم الثلاثاء، بتسليم مؤسس العملات الرقمية الكوري الجنوبي دو كوون «ملك العملات الرقمية المشفرة» إلى الولايات المتحدة، بعد القرار الذي اتخذته وزارة العدل في وقت سابق من الشهر الجاري بقبول طلب أميركي، ورفض طلب التسليم الكوري الجنوبي، حسبما قالت السلطات في الدولة الواقعة بمنطقة البلقان.

وقالت الشرطة إن ضباط المكتب المركزي الوطني للإنتربول في مونتينيغرو سلموا دو كوون، مؤسس شركة العملات المشفرة السنغافورية «تيرافورم لابس»، إلى ضباط مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) عند المعبر الحدودي بمطار بودجوريتشا.

وقال بيان للشرطة نقلته وكالة «أسوشييتد برس»: «اليوم، في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2024، تم تسليمه (دو كوون) إلى سلطات إنفاذ القانون المختصة في الولايات المتحدة ورجال مكتب التحقيقات الاتحادي».

يذكر أنه بعد صراع قانوني طويل، تقدّمت كوريا الجنوبية، وطن كوون الأصلي، والولايات المتحدة بطلبين لتسليم كوون.

ويتهم الادعاء في كلا البلدين كوون بالاحتيال من بين تهم أخرى. وقد تم اعتقال كوون في مونتينيغرو في مارس (آذار) 2023.

ومؤخراً، قضت المحكمة العليا في مونتينيغرو بأن طلبي التسليم صحيحان من الناحية القانونية، الأمر الذي ترك لوزير العدل مهمة الاختيار بين البلدين طالبي التسليم.

وكان كوون قد أنشأ العملتين المشفرتين «تيرا» و«لونا» في سنغافورة. ومع ذلك، انهار نظام العملتين بشكل مدو في مايو (أيار) من العام الماضي، ما ترك المستثمرين «بلا شيء».

وتردد أن الإفلاس تسبب في خسائر بلغت 40 مليار دولار.

ثم اختفى كوون. وأصدر الإنتربول «منظمة الشرطة الجنائية الدولية» مذكرة اعتقال دولية بحقه في سبتمبر (أيلول).

وفي مارس 2023، تم اعتقال كوون وشريكه التجاري هون تشاند يون في بودجوريتشا، أثناء محاولتهما السفر إلى دبي بجوازي سفر مزورين من كوستاريكا.

وحُكم عليهما بالسجن في مونتينيغرو لعدة أشهر بتهمة تزوير وثائق، وفي وقت لاحق تم احتجازهما في انتظار تسليمهما.