قمة أوروبية «جيوسياسية بامتياز» ترسم «مسار المستقبل» أمام المشروع الأوروبي

منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا تحولت أوروبا إلى رقعة شطرنج بالغة التعقيد، حيث لكل نقلة تأثيرها المباشر على مصير القارة ومستقبل توازناتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية.
هذا ما تبدى بوضوح أمس الخميس في اليوم الأول من أعمال القمة التي بها تختتم فرنسا رئاستها الدورية للاتحاد بعد الموافقة على طلب ترشيح أوكرانيا ومولدافيا لعضوية النادي الأوروبي، والتي وصفها رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي بأنها «قمة جيوسياسية بامتياز ترسم مسار المستقبل أمام المشروع الأوروبي».
وصرح رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال أن هذه القمة المخصصة لمنح أوكرانيا وجارتها مولدافيا وضع المرشحتين إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ستكون «لحظة تاريخية على المستوى الجيوسياسي». وأضاف «يجب اتخاذ خيار اليوم من شأنه تحديد مستقبل الاتحاد الأوروبي واستقرارنا وأمننا وازدهارنا». وقال مدير مكتب الرئاسة الأوكرانية أندري يرماك أمس: «ننتظر الضوء الأخضر»، مذكراً بأن «الهدف الواضح هو انضمام أوكرانيا بشكل كامل إلى الاتحاد الأوروبي»، غير أن هذه العملية قد تستغرق سنوات.
وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: «كما نناضل من أجل قرار إيجابي من الاتحاد الأوروبي بشأن ترشيح أوكرانيا، نكافح يوميا للحصول على شحنات من الأسلحة الحديثة». وواصل الرجل، الذي يردد منذ أسابيع أن جمهوريته السوفياتية السابقة تنتمي إلى «الأسرة الأوروبية»، «ماراثون الاتصالات الهاتفية» مع القادة الأوروبيين لانتزاع إجماع على قبول طلب انضمام أوكرانيا. ويمكنه الاعتماد على دعم رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي دعت القادة الأوروبيين إلى أن يكونوا «بمستوى المناسبة» عبر الموافقة على طلب كييف.
وفرضت الحرب في أوكرانيا هذا السيناريو الذي لم تكن تفكر فيه دول الاتحاد الأوروبي. لكن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تبقى طويلة جداً بالنسبة لأي دولة مرشحة.
وأفردت القمة في يومها الأول حيزاً لعقد «قمة داخل القمة» مع الدول المرشحة المدرجة منذ سنوات على لائحة الانتظار، ألبانيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا، من أجل تطمينها إزاء المخاوف من تهميش ترشيحاتها بعد القرار بقبول ترشيح أوكرانيا ومولدافيا في فترة قياسية لا تتجاوز الأشهر الثلاثة.
لكن الخطوة الأوروبية لعقد اجتماع مع هذه الدول لم يقتصر الهدف منها على إعطائها ضمانات بمساعدتها على إجراء الإصلاحات اللازمة لتسريع عملية الانضمام إلى الاتحاد، بل هدفت أيضا إلى ترسيم واضح لخط الجبهة في مواجهة مطامع موسكو التي تبدو عازمة على استغلال أدنى ثغرة في الجدار الأوروبي، كتلك التي تشكلها صربيا من خلال علاقاتها التاريخية الوثيقة مع روسيا.
وكان معظم القادة الأوروبيين قد شددوا في مداخلاتهم خلال اللقاء مع دول البلقان المرشحة لعضوية الاتحاد على ضرورة التزام صربيا رسمياً وبشكل واضح الانحياز إلى مبادئ الاتحاد ومواقفه، والتعهد بتبني العقوبات التي سبق أن فرضها الاتحاد على روسيا، وتلك التي يعتزم اتخاذها في المستقبل.
ومن جهة أخرى ترى بعض الدول الأعضاء في الاتحاد أن قبول ترشيح أوكرانيا سوف يساهم في تحريك عملية انضمام دول البلقان المجمدة منذ سنوات بسبب من تحفظات البعض وترددهم في توسيع دائرة العضوية.
وتجدر الإشارة إلى أن بين البلدان التي ما زالت تواجه تجميد عملية انضمامها إلى الاتحاد، ألبانيا ومقدونيا الشمالية، وذلك بسبب النزاع القائم بين هذه الأخيرة وبلغاريا التي ترفض تحريك ملف الانضمام قبل حسم خلافاتها اللغوية والتاريخية مع مقدونيا. وزاد في تعقيد هذا الملف الوضع السياسي المضطرب في بلغاريا حيث فقدت الحكومة أمس ثقة البرلمان، ما دفع بعض الدول الأعضاء في الاتحاد إلى اقتراح فصل الترشيحين والاكتفاء بمواصلة المفاوضات مع ألبانيا.
لكن دولاً أخرى أبدت تعاطفاً مع مقدونيا الشمالية التي بذلت جهوداً وتضحيات كبيرة لتسوية نزاعها مع اليونان، وقبلت بتغيير اسمها لكي تنضم إلى الاتحاد الأوروبي كما قال المستشار الألماني أولاف شولتس.
وكان رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما أعرب عن غضبه في أول تصريح له على باب المجلس الأوروبي حيث قال: «من العار أن تقوم دولة مثل بلغاريا، عضو في الحلف الأطلسي، بخطف عضوين آخرين في الحلف، ألبانيا ومقدونيا الشمالية، في خضم حرب مندلعة عند البوابة الخلفية للاتحاد الأوروبي، فيما الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد تراقب وتتفرج عاجزة». وقال راما ساخراً إن «مقدونيا الشمالية مرشحة منذ 17 عاما إذا لم أكن مخطئاً، وألبانيا منذ ثماني سنوات. أرحب بأوكرانيا»، مضيفا «إنه لأمر جيد أن تمنح أوكرانيا الوضع (الدولة المرشحة). لكنني آمل ألا يكون لدى الشعب الأوكراني الكثير من الأوهام».
أما الرئيس الصربي ألكسندر فوشيتش الذي كانت معظم الأنظار مركزة عليه خلال القمة، والذي كان حضوره مفاجأة بالنسبة لكثيرين، فقد أعرب عن أمله بأن تتخذ القمة قرارات جيدة لصالح دول البلقان، مضيفاً «لكن لا ضير إذا لم يحصل ذلك، فنحن نشعر بالامتنان العميق للاتحاد الأوروبي على الاستثمار في بلداننا».
وتجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من الدول الأعضاء في الاتحاد يرى صربيا على أنها حصان طروادة روسي، حيث إنها صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي، لكنها امتنعت حتى الآن عن تطبيق العقوبات الأوروبية ضد موسكو.
وتصر هذه الدول على أن تعلن صربيا موقفاً واضحاً من الحرب بتبنيها العقوبات كشرط لتحريك ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن لا يبدو أن صربيا على استعداد لتبني العقوبات الأوروبية، سيما وأن موسكو ضمنت لها «أفضل سعر للغاز في أوروبا» بموجب اتفاق تم تجديده مؤخراً كما قال الرئيس الصربي. ويذكر أن 75 في المائة من الصربيين يعتبرون أن مسـؤولية الحرب تقع على عاتق أوكرانيا والحلف الأطلسي وليس على عاتق موسكو، وذلك وفقاً لاستطلاعات محلية.