ناشرون لبنانيون: القارئ فقد الثقة بالكتاب العربي والبديل هو المترجم

دور نشر تصدر 70 % من نتاجها منقولاً من لغات أجنبية (3 ـ 3)

حسن ياغي مؤسس «دار التنوير»
حسن ياغي مؤسس «دار التنوير»
TT

ناشرون لبنانيون: القارئ فقد الثقة بالكتاب العربي والبديل هو المترجم

حسن ياغي مؤسس «دار التنوير»
حسن ياغي مؤسس «دار التنوير»

إقبال القارئ العربي على الكتب المترجمة بشكل ساحق، ظاهرة لا ينكرها الناشرون؛ لكن لكل منهم تفسيره لها، ورؤيته لأبعادها وأسبابها، وإن كان أحد لا يرى فيها ظاهرة صحية. وإذا كان الخليجيون هم الأكثر شراء للمترجم من المؤلفات، فقد لحق بهم المصريون وقراء المغرب العربي والعراق، بحسب صاحبة «دار الآداب» رنا إدريس.
ولا يملك الناشر إلا أن يحقق رغبة الشراة، بتوفير أفضل ما يصدر باللغات الأجنبية، بانتظار أن تتغير الأمزجة. ويصل الأمر حد أن يصبح بيع الروايات المترجمة الوسيلة المتبقية لدعم الكتاب العربي الذي لا يجد له ما يكفي من القراء. وتشرح إدريس: «نحن بصدد إصدار 9 روايات عربية، حالياً، لن نستطيع أن نغطي خسائرها سوى من بيع الروايات المترجمة، مع أن هذه الأخيرة مكلفة، نسبة إلى الكتاب العربي، بسبب حاجتنا إلى دفع حقوق النشر وتكلفة الترجمة».
غير صحيح أن الكتب المترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، غير مدفوعة الحقوق. «هذا أمر كان يحصل في السابق. اليوم تغير الوضع»، بحسب ما يشرح لنا حسن ياغي، مؤسس «دار التنوير» في بيروت الذي يؤكد أن «زمن الفوضى في هذا المجال ولّى، والسوق ضُبطت. ثمة ضغط كبير الآن، والدور مضطرة لشراء حقوق نشر الكتاب الأجنبي، وهذا لصالح الكتاب والنشر؛ حيث يحدّ من الفوضى، ومن انتشار الترجمات السيئة التي كنا نراها». وعن التكاليف يقول: «حقوق نشر الكتاب الأجنبي ليست ذات تكلفة واحدة، منها ما يكلف ألف دولار، أو ألفين، ومنها ما يصل إلى 10 آلاف». ويشرح ياغي: «هناك كتب عادية، وأخرى مطلوبة، وغيرها شهيرة وذات مبيعات عالية، ومنها ما عليه منافسة كبيرة. وبالتالي على الناشر أن يدفع تكاليفها كي يحصل عليها. نحن في سوق عالمية، ومن مصلحة الناشر عدم سرقة الحقوق؛ لأن هذا يسهم في تراجع حركة التأليف. الكاتب يعمل سنوات طويلة على تأليف كتابه، ثم يأتي من يسرق جهده. هذا سبب أول في إضعاف حركة النشر».
الدور تتعامل مع جهات وبلدان مختلفة، ولكل منها أصولها وقواعدها وأسلوبها. رنا إدريس تنشر روايات مترجمة من لغات متعددة. النقل مكلف دائماً بالنسبة لها، تقول: «حين أحصل على عنوان مهم لرواية، أدفع مقدماً من 15 إلى 20 ألف دولار، ثم هناك حوالي 5 آلاف دولار تقريباً أتعاب المترجم، وبالطبع بعد ذلك هناك التصحيح وإعادة القراءة، والمراجعة، وهذا كله مدفوع ولا مهرب منه. لنقل إنني حصلت على حقوق ترجمة كتاب لموراكامي، لا بد من أن أدفع بين 10 و15 ألف دولار للدار، ثم لا بد من أن أدفع للمترجم، أضف إلى ذلك تكاليف التحرير والطبع والتدقيق ورسم الغلاف، وغيرها».
لكن بسام شبارو، رئيس مجلس إدارة «الدار العربية للعلوم ناشرون» يلفت النظر إلى أن بعض الدول تشجع الترجمة من لغاتها، وتدفع للدور التي تفعل ذلك، وهذا يسهل مهمة الناشر، ويوفر عليه جزءاً من التكاليف. فالحكومات التركية والروسية والكورية مثلاً، تساعد في تكلفة الترجمة. أما الاعتماد على البيع، فهو غير مجدٍ؛ لأنه في كل الأحوال قليل وغير كافٍ. يضيف شبارو: «أنا في المهنة منذ 35 سنة. كنا نطبع من الكتاب كمرحلة أولى 5 آلاف نسخة على سبيل التجربة، ثم نطبع غيرها وغيرها، أما اليوم فالتجربة تكون بألف نسخة لا أكثر، وبعض الدور تكتفي بـ500 نسخة. أمة من 350 مليون نسمة، لا نستطيع أن نطبع لها أكثر من هذا، وأحياناً هذه النسخ القليلة تتراكم ولا تنفد. ما بين الفيديو والموبيل ووسائل التواصل، شعبنا لا يقرأ ولا يستهلك الكتب، ولا يساعد على تحريك حركة الإنتاج».
هل رواج مبيع الكتاب المترجم في السوق العربية يعني أن الرواية العربية تراجعت وحلّت محلها روايات آتية من لغات أخرى؟ يجيب ياغي: «الرواية العربية لم تتراجع، ولم تتقدم. فهي لم تبلغ يوماً مبلغاً مهماً، ولم تفرز أسماء تنافس عالمياً، بالمعنى الحقيقي للكلمة». يضيف ياغي: «لا، بل أكثر من ذلك، التأليف في العالم العربي ضعف كثيراً؛ خصوصاً في المجال الفكري، بعد كتب نصر حامد أبو زيد، وعبد الله العروي، وغيرهما، وغياب محمد أركون. المستوى الأكاديمي انحدر، والتعليم عموماً، وكذلك النتاجات العملية. كما أن ثمة تغيراً في مزاج القراء الذين باتوا لا يحبذون الكتب الفكرية الصعبة، ويفضلون عليها الكتب الفلسفية السهلة والخفيفة، إضافة إلى الروايات المسلية».
الأرقام التي يعلن عنها الناشرون مؤرقة، في «الدار العربية للعلوم» حوالي نصف الكتب مترجم، والنصف الآخر لمؤلفين عرب. يقول شبارو: «من أصل 6 آلاف كتاب أصدرتها الدار، نصفها منقول من لغات أجنبية».
أما «دار الآداب» فمقابل 65 في المائة من الروايات المترجمة التي تنشر سنوياً، هناك 35 في المائة فقط من الروايات العربية. قبل عام 2010 كانت النسبة معكوسة، والرواية العربية هي الأساس عند القارئ؛ لكن الطلب تغير تدريجياً، وصارت الأمور تتسارع لتصل إلى ما هي عليه بحلول عام 2017. تقول إدريس: «أنا غالباً ما أستفيد من بيع الرواية المترجمة في معرض الكتاب، لأشرح للقارئ أن ثمة روايات عربية جميلة تستحق اهتمامه. أي أن الرواية المترجمة قد تتحول إلى مصيدة للتشجيع على قراءة المؤلف العربي. أقول للقارئ، مثلاً: لماذا لا تجرب قراءة الكاتبة الفلانية، إنها تكتب مثل إيزابيل الليندي، أو أنها تناولت مواضيع تشبه التي تكتب عنها أليف شافاك».
الوضع في «دار التنوير» أكثر دلالة، إذ أصبحت الكتب المترجمة تصل إلى نسبة ساحقة هي 70 في المائة من مجمل نتاجات الدار السنوية، ولا تحتل الكتب العربية سوى 30 في المائة من الإصدارات. وهذا رقم مخيف بالفعل. نسأل مؤسس الدار حسن ياغي: هل معنى هذا أن الكاتب العربي قد انقرض، أو في طريقه إلى الانقراض؟ يجيب: «نعم، قد يكون الكاتب العربي في طريقه إلى الانقراض. المجتمع لم يعد قادراً على أن يفرز كاتباً، ويقرأه، وينقده، ويروج له، ويعرّف به. حتى القراء يرون في (أمازون) مرجعيتهم لمعرفة الكتاب الأجود والأشهر، وليس أي مرجعية عربية. (أمازون) كموقع يفرض نفسه في العالم أجمع، وله مصداقية، ومراجعات وآراء القراء تنال ثقة المشترين. وهذا ما يبحث عنه القارئ، يريد مرجعاً يوليه ثقته».
رنا إدريس تعزو الصدود تجاه الكتاب العربي إلى عدة أسباب، منها: «عدم ثقة القراء بمستوى الكاتب العربي. وهذا ظلم لروائيين يُقرأون في العالم أجمع؛ لكن أبناء لغتهم لا يريدون قراءتهم، ولا يقدرون موهبتهم». وتعتبر إدريس أننا «نعيش مرحلة انعدام الثقة. لا ثقة لنا بحضارتنا، أو ثقافتنا أو كتّابنا. هناك انعدام ثقة باللغة العربية نفسها، بأنها قادرة على تأدية واجبها تجاه أبنائها. يضاف إلى ذلك انعدام النقد الجدي، في الصحف ووسائل الإعلام الذي يكون في العادة الوسيط بين القارئ والكاتب؛ خصوصاً بعد أن تحول بعض النقاد إلى مجرد مدّاحين ومداهنين». تأسف إدريس لأن الفرق شاسع بين جدية النقد الذي يمكن أن يركن إليه في «نيويوركر» مثلاً، وما نقرأه في بعض المطبوعات العربية. هذا كله يسهم في تراجع الكتب العربية، ويعزز رواج بعض الكتاب المحليين الصغار الذين ينشرون الشذرات التي يضعونها على «تويتر»، أو كتابات فيها رعب أو إثارة، تلعب على ميول القراء.
لا يريد بسام شبارو أن يقلل من خطر القرصنة على مجمل النتاج العربي، وعمل الناشرين عموماً. فإذا ما طلبنا على غوغل «كتب عربية»، سنرى عشرات آلاف الكتب العربية المعروضة للتنزيل مجاناً، وهذا ما لا تسمح به دول غير عربية، تفاوضت مع «غوغل» وقوننت النشر الإلكتروني، ووضعت حداً لهذه الممارسات. ويضيف شبارو: «في الحقيقة، نحن لا نعرف، في العمق، ما نبيع وما لا نبيع؛ لأن سوق التزوير أكبر من الناشرين، ومنشوراتنا مستباحة. فكتبنا تقرصن بسرعة، ونحن نهرع لنبيع عدداً من النسخ قد لا تصل إلى 3 أو 4 آلاف نسخة، قبل أن يصبح الكتاب منشوراً بالمجان، ويجده القارئ بالبحث على (غوغل). لهذا نقول إن الكتب العربية منتهَكة، وهو ما تحاول نقابة الناشرين العرب معالجته، ونرجو أن يوفَّقوا فعلاً إلى حلّ هذه المشكلة».
ومع ذلك، يصر شبارو على أنه لن يتجاهل كتاباً مهما باع 700 مليون نسخة، ولن يعفّ عن ترجمته ونشره باللغة العربية، فقط لأنه خائف من التزوير ومن غدر القرصان. فالمسيرة مستمرة.
«ليست القرصنة وحدها التي تؤرق الناشرين العرب. نحن جزء من حركة الكتابة والنشر في العالم، هذا صحيح» يقول حسن ياغي: «لكننا غير مؤثرين في هذه الحركة العالمية. ضعف النقد ذي المصداقية أدى بشكل مباشر إلى ضعف النشر، وضعف الثقة بالكتاب العربي من قبل القارئ. نحن جزء من سوق كبيرة، الحضور العربي فيها هزيل، وهزيل جداً».



هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».