2002... عندما شهد الدوري الإيطالي أعظم نهاية في تاريخه

شهد الدوري الإيطالي على مدار تاريخه الممتد لـ124 عاماً الكثير من الإثارة والمتعة والدراما؛ لكن لم تكن هناك إثارة أبداً أكثر مما حدث في الخامس من مايو (أيار) عام 2002. لقد بدأ ذلك اليوم في ظل منافسة شرسة من جانب 3 أندية على اللقب، وفي الطرف الآخر من جدول الترتيب، كانت 4 فرق تحاول البقاء في الدوري الذي كان آنذاك أقوى بطولة في العالم من دون أدنى شك.
وعندما أشرقت الشمس في صباح ذلك اليوم، كان إنتر ميلان -الذي كان يتولى قيادته المدير الفني الأرجنتيني هيكتور كوبر، ويضم كوكبة من النجوم، مثل الظاهرة البرازيلية رونالدو، وكريستيان فييري، وكلارنس سيدورف- يحتل صدارة جدول الترتيب برصيد 69 نقطة. وكان مالك النادي، ماسيمو موراتي، قد كسر الرقم القياسي العالمي لأغلى صفقة في العالم مرتين منذ استحواذه على النادي في عام 1995؛ لكن استثماراته الضخمة لم تكن قد ساعدت النادي بعد في الحصول على لقب الدوري.
كان إنتر ميلان يضم عدداً من اللاعبين البارزين في عالم كرة القدم، وكان يتصدر جدول الترتيب منذ أواخر شهر مارس (آذار)، وكانت مهمته في اليوم الأخير بسيطة وواضحة، وهي الفوز على لاتسيو على ملعب «أولمبيكو»، من أجل ضمان الحصول على لقب الدوري. لكن كان لا يزال هناك صراع ثلاثي حقيقي على اللقب.
وكان يوفنتوس -الذي باع زين الدين زيدان إلى ريال مدريد في الصيف السابق لكن كان لا يزال لديه خط هجوم قوي للغاية بقيادة ديفيد تريزيغيه وأليساندرو ديل بييرو- يحتل المركز الثاني برصيد 68 نقطة. وكان يوفنتوس سيواجه أودينيزي خارج ملعبه في الجولة الأخيرة من الموسم. في حين كان حامل اللقب روما، بقيادة المدير الفني فابيو كابيلو، والذي لم يخسر سوى مباراتين فقط في الدوري طوال الموسم، يحتل المركز الثالث في جدول الترتيب برصيد 67 نقطة. وكان روما سيواجه تورينو في الجولة الأخيرة من الموسم على ملعب ديلي ألبي.
أما فيما يتعلق بصراع الهروب من الهبوط إلى دوري الدرجة الأولى، فقد بدأ بريشيا ذلك اليوم وهو يبتعد بفارق نقطتين فقط عن منطقة الأمان، على الرغم من أنه كان يضم بين صفوفه النجم الإيطالي الكبير روبرتو باجيو وجوسيب غوارديولا ولوكا توني. وفوقهم بقليل وبرصيد 39 نقطة كان يوجد نادي بياتشينزا الذي قدم واحدة من أروع قصص النجاح في ذلك الموسم. وكان مهاجم الفريق، داريو هوبنر، البالغ من العمر 35 عاماً يبتعد بهدف واحد فقط عن تريزيغيه في قائمة هدافي المسابقة حتى اليوم الأخير من الموسم.
أخذ يوفنتوس زمام المبادرة في صراع الحصول على اللقب، وأحرز هدفاً في مرمى أودينيزي بعد دقيقتين فقط من بداية اللقاء. انطلق أنطونيو كونتي من الجهة اليمنى، وأرسل كرة عرضية مثالية لتريزيغيه الذي وضع الكرة في الزاوية السفلية للمرمى بسهولة. وكانت الجماهير التي احتشدت في الملعب وهي تحمل لافتات بكلمة «يوفنتوس» على وشك أن تقتحم ملعب المباراة. لقد كان الهدف الذي أحرزه تريزيغيه يعني تفوق يوفنتوس على إنتر ميلان في صراع الصدارة على اللقب، ويعني أيضاً تقدم المهاجم الفرنسي بفارق هدفين عن أقرب منافسيه في صراع الهدافين.
لقد كانت هذه بداية رائعة ليوفنتوس؛ بل وأصبحت الأمور أكثر روعة عندما صنع تريزيغيه هدفاً آخر لديل بييرو الذي سيطر على الكرة بلمسة أولى بارعة، ووضعها في الشباك في الدقيقة الحادية عشرة، ليتقدم يوفنتوس بهدفين دون رد ويتصدر جدول الترتيب.
وسرعان ما شقت هذه الأخبار طريقها باتجاه الجنوب، لتصل إلى آلاف من مشجعي إنتر ميلان في ملعب أولمبيكو، عبر أثير الراديو الترانزستور الشهير. لقد كان إنتر ميلان بحاجة إلى الرد على ذلك، وبالفعل جاء الرد سريعاً. ففي الدقيقة الثانية عشرة، لعب لويغي دي بياجيو ركلة ركنية داخل منطقة الست ياردات، وأخطأ حارس مرمى لاتسيو، أنغيلو بيروتسي، في تقدير الكرة، لتسقط أمام فييري الذي وضع الكرة في الشباك، ومزق قميصه وانطلق بسرعة يحتفل باتجاه جماهير إنتر ميلان.
أصبح إنتر متقدماً بهدف دون رد، وعاد لصدارة جدول الترتيب؛ لكن لاتسيو لم يكن لقمة سائغة ولم يستسلم، وبالفعل نجح كاريل بوبورسكي في تسجيل هدف التعادل للاتسيو. لكن إنتر ميلان عاد لشن الهجوم من جديد، ونجح دي باجيو مرة أخرى في التسجيل لتصبح النتيجة تقدم إنتر ميلان بهدفين مقابل هدف. ومع ذلك، كانت كرة القدم الإيطالية قد عودتنا على الإثارة والمتعة في تلك الفترة الكلاسيكية من الدوري الإيطالي الممتاز، فعندما حاول الظهير الأيسر لإنتر ميلان، فراتيسلاف غريسكو، إعادة الكرة بالرأس إلى حارس مرماه في الدقيقة الأخيرة من الشوط الأول، قرأ بوبورسكي اللعبة جيداً، وقطع الكرة ووضعها في الشباك مسجلاً هدف التعادل. لقد كانت هذه ضربة قوية للغاية لآمال إنتر ميلان في الفوز باللقب، وقد جاءت في أسوأ وقت ممكن.
وفي ظل تعادل إنتر ميلان مع لاتسيو بهدفين لكل فريق، وفوز يوفنتوس على أودينيزي بهدفين دون رد، ألقى المدير الفني ليوفنتوس مارشيلو ليبي حديثه الأخير للاعبين في ذلك الموسم. وبغض النظر عما قاله آنذاك، فقد نجح الأمر؛ حيث خرج يوفنتوس للشوط الثاني بكل قوة، وبدا للجميع أنه عازم على إحكام سيطرته التامة على المباراة، وأنه لن يدع الفوز يفلت من بين يديه، وبالتالي كان يتعين على إنتر ميلان أن يحقق الفوز على لاتسيو.
وكان بريشيا أيضاً بحاجة إلى هدف في مباراته ضد بولونيا؛ لكن الأمور لم تكن تسير على ما يرام بالنسبة لباجيو أو بريشيا في الشوط الأول. وكان استمرار التعادل السلبي يعني هبوط بريشيا رسمياً لدوري الدرجة الأولى.
وبالعودة إلى العاصمة، بدأ إنتر ميلان الشوط الثاني بهدوء غريب. لقد كان إنتر ميلان يغرد منفرداً في صدارة جدول الترتيب بفارق 6 نقاط عن أقرب ملاحقيه قبل بضعة أسابيع؛ لكنه بدا الآن وكأنه مجرد ظل أو شبح لمستواه السابق. وعندما أحرز دييغو سيميوني -لاعب سابق لإنتر ميلان– هدف التقدم للاتسيو لتصبح النتيجة تأخر إنتر ميلان بثلاثة أهداف مقابل هدفين بعد مرور 10 دقائق من بداية الشوط الثاني، لم يكن الأمر مفاجئاً. لم يحتفل سيميوني بالهدف الذي أحرزه في فريقه السابق؛ لكن ذلك الأمر لم يكن سوى مجرد عزاء صغير لجماهير إنتر ميلان الذي تعقدت مهمته تماماً، وأصبح بحاجة إلى إحراز هدفين للفوز بالمباراة والحصول على اللقب.
وسرعان ما سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ بالنسبة لإنتر ميلان؛ حيث استفاق روما في مباراته أمام تورينو. سجل أنطونيو كاسانو هدفاً رائعاً ليمنح روما التقدم بهدف دون رد. وبالتالي، انتقل إنتر ميلان من صدارة جدول الترتيب إلى المركز الثالث في غضون 23 دقيقة فقط!
لكن العقوبة لم تنتهِ بالنسبة لإنتر ميلان، ففي الدقيقة 73 من عمر اللقاء، عزز سيموني إنزاغي –المدير الفني الحالي لإنتر ميلان- تقدم لاتسيو ليتأخر إنتر ميلان بأربعة أهداف مقابل هدفين. وبعد ذلك بوقت قصير، تم استبدال النجم البرازيلي رونالدو الذي جلس على مقاعد البدلاء والدموع تنهمر من عينيه وتسيل من بين أصابعه، بينما كانت أحلام إنتر ميلان في الفوز بلقب الدوري تتبخر. ولا تزال تلك الصورة واحدة من أكثر الصور شهرة في تاريخ الدوري الإيطالي الممتاز؛ خصوصاً أن هذه كانت المباراة الأخيرة لرونالدو مع إنتر ميلان.
وبينما كان الإنتر ينهار، بدأ لاعبه السابق روبرتو باجيو يحالفه بعض الحظ مع بريشيا؛ حيث أحرز جوناثان باتشيني هدف التقدم لبريشيا في وقت مبكر من الشوط الثاني، ثم تعرض باجيو لتدخل قوي من ماسيمو تارانتينو ليحتسب الحكم الإيطالي الشهير بيرلويغي كولينا ركلة جزاء. نجح جانلوكا باجليوكا في التصدي لركلة الجزاء التي سددها باجيو في البداية؛ لكن الكرة عادت إلى باجيو مرة أخرى ليضعها في الشباك، وتصبح النتيجة تقدم بريشيا بهدفين دون رد. وسجل لوكا توني الهدف الثالث لبريشيا، ليضمن النادي البقاء في الدوري الإيطالي الممتاز.
كان بقاء بريشيا يعني أن باجيو سيلعب في الدوري الإيطالي الممتاز لمدة عام آخر على الأقل. كان اللاعب البالغ من العمر 35 عاماً قد تعافى من إصابته بقطع في الرباط الصليبي خلال 77 يوماً فقط، لكي يكون متاحاً للانضمام لقائمة منتخب إيطاليا في نهائيات كأس العالم 2002؛ لكن جهوده باءت بالفشل؛ حيث استبعده المدير الفني لمنتخب إيطاليا، جيوفاني تراباتوني، من مونديال كوريا الجنوبية واليابان.
وبينما كان مشجعو يوفنتوس يغنون ويحتفلون بتقدم فريقهم على أودينزي، ومشجعو إنتر ميلان يشعرون بالصدمة بعد تعرض فريقهم لأحد أكبر الانهيارات في الرياضة الحديثة، كانت هناك خاتمة غريبة لهذه القصة الملحمية. فعندما سجل هوبنر ركلة جزاء لبياتشينزا ليمنحه التقدم بهدفين دون رد أمام فيرونا، أصبح اللاعب على بُعد هدف واحد فقط من تريزيغيه في معركة الحصول على الحذاء الذهبي. لقد كان الفوز كافياً لإبقاء بياتشينزا في الدوري الإيطالي الممتاز؛ لكن هل سيتمكن هوبنر من التسجيل مرة أخرى ليلحق بتريزيغيه؟
وقبل 6 دقائق من نهاية المباراة، وجد المهاجم المخضرم نفسه أمام مرمى فيرونا ليراوغ حارس المرمى، ويضع الكرة في الشباك من الزاوية الضيقة، ليتقاسم اللاعب البالغ من العمر 35 عاماً جائزة هداف الدوري الإيطالي الممتاز مع تريزيغيه. خلع هوبنر قميصه وزأر احتفالاً بهذا الإنجاز التاريخي.
وعندما انطلقت صافرات نهاية مباريات الجولة الأخيرة في جميع أنحاء البلاد، كان يوفنتوس بطلاً لإيطاليا، وكان روما في المركز الثاني، وتراجع إنتر ميلان إلى المركز الثالث. وبعد ذلك، احتفظ يوفنتوس بلقب الدوري ووصل إلى المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا في العام التالي؛ وفاز إنتر ميلان أخيراً بلقب آخر للدوري الإيطالي الممتاز في عام 2007؛ بينما لا يزال روما ينتظر حتى الآن الحصول على لقب سكوديتو آخر.
وإذا نظرنا إلى الوراء في الخامس من مايو 2002 -وهو اليوم الذي شهد الكثير من الدراما التي يتمناها أي عاشق لكرة القدم- فإن الحزن الوحيد هو أن هذا ربما كان اليوم الأخير من إمبراطورية الدوري الإيطالي المجيدة التي هيمنت على كرة القدم العالمية لمدة عقدين من الزمن.