سعيد شبار: نقد أخطاء الفلاسفة أو أخطاء المتدينين لا يعني سحب الفلسفة أو الدين من الوجود

المفكر المغربي تحدث عن الدين والفلسفة ودورهما في عملية الإصلاح الثقافي

د. سعيد شبار
د. سعيد شبار
TT

سعيد شبار: نقد أخطاء الفلاسفة أو أخطاء المتدينين لا يعني سحب الفلسفة أو الدين من الوجود

د. سعيد شبار
د. سعيد شبار

اتسمت علاقة الفلسفة بالدين في العالم العربي الإسلامي، في غالب الأحيان، بالتوتر وسوء الفهم، سواء من طرف الفلاسفة أو رجال الدين. ويكفي التذكير بما قام به الإمام أبو حامد الغزالي (450هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م)، وهو المدقق في الفلسفة اليونانية، في كتابه ذائع الصيت «تهافت الفلاسفة»، حيث هاجم إلهية الفلسفة المشائية التي كان زعيمها المعلم الأول أرسطو بل تجرأ على تكفيرهم، وفي المقابل، نجد فيلسوف قرطبة ابن رشد (520هـ 595هـ / 1126م - 1198م) وهو الفقيه المتمكن، قد دافع عن الفلسفة، بل وجد لها سندا تشريعيا من القرآن الكريم. فقام بتأليف كتاب ردا على الغزالي بعنوان لافت هو «تهافت التهافت». وإذا كان هذا النقاش المحتدم قد حدث قديما، فهو لا يزال يعود إلى الظهور كل مرة، حتى في زماننا هذا، وإن بطريقة مختلفة. لمناقشة هذا الموضوع ومواضيع أخرى تخص النهوض الحضاري لمجتمعنا العربي والإسلامي، أجرت «الشرق الأوسط» حوارا مع الدكتور سعيد شبار الذي يتخذ موقفا وسطا في القضية. فهو يؤكد على أن تعطيل آليات الدين أو تعطيل آليات الفلسفة، يحرم الأمة العربية / الإسلامية من جناحي الفاعلية في الحياة. فيما يلي نص الحوار:
> صدر لك أخيرا، كتاب بعنوان «الثقافة والعولمة وقضايا إصلاح الفكر والتجديد في العلوم الإسلامية»، تقول فيه، فهمت قصدكم جيدا: إن التوقف عن إنتاج العلم والفكر والمعرفة في عالمنا العربي / الإسلامي، هو إعلان وفاة حضارية للذات، وهو ما يستدعي استئناف النظر من جديد قصد الإحياء. وفي الوقت نفسه تقول إن الحضارة الغربية الغالبة تتسم بالشراسة، فهي لا ترحم، وتعمل على سلب الحضارات الأخرى ونهبها وافتراسها خاصة في سياق العولمة، الذي لا تنكر محاسنه، لكن تنكر تلك القيم التي أفرزتها، والتي أدت إلى خلق الكارثة على الكثير من الأصعدة.على ضوء هذا النقد المزدوج للذات وللآخر، كيف يمكن أن تشرح ملامح المسؤولية الملقاة على عاتق الذات الإسلامية، لتدارك الأعطاب الداخلية والأعطاب الخارجية على حد سواء؟
- أعتقد أن هذه معادلة سليمة، وهي أن التوقف عن الإنتاج العلمي والمعرفي لا يعني شيئا غير إعلان الوفاة الحضارية. ولك أن تقارن بين عالمية الإسلام الأولى في إنجازها العلمي والحضاري والمعرفي والفلسفي، حين كانت تقود العالم، وحين كانت لغتها العربية هي لغة العلم العالمي، لا بد من تعلمها لطالب العلوم والمعارف الدقيقة، وبين عالمهم اليوم من التبعية والانسحاب من عالم الإسهام الحضاري والاكتفاء بالنسخ والتقليد بدلا من الإبداع والتجديد، وبالاستعارة والنقل للناجز والجاهز في عالم الأفكار، كما في عالم الأشياء، بدلا من الاجتهاد في توليد وبناء الحاجات الضرورية للحياة على الأقل. وقد قال فيلسوف الحضارة مالك بن نبي، رحمه الله، «الأمة التي لا تلد منتجاتها ليست بأمة»، أي أنها تبقى على حال من التبعية والاستلاب دون تحقيق ذاتها الحضارية. وكل هذا يدعو إلى ضرورة استئناف النظر وتفعيل كل الإمكانات الإبداعية في الأمة وهي كثيرة.
أما شراسة الغرب فهي أمر واضح منذ اختار الغرب فلسفته المادية العلمانية، ليست تمييزا بين المؤسسات الدينية والمدنية وحسب، بل استبعادا لقيم وأخلاق الدين ولعالم الروح والغيب، وفي الوقت نفسه، تمجيدا لقيم المتعة واللذة والاستهلاك. فكان طبيعيا، أن ينتج هذا الاختيار الغربي ظواهر مثل الاستعمار والنازية والفاشية والصهيونية، بحثا عن الهيمنة والتوسع لأنه النموذج المعرفي المشترك الموجه لتلك الظواهر. وهذا ما تفعله العولمة في جوانبها السلبية للأسف، إذ إننا نثمن عاليا كل منجزاتها الإيجابية، بل وكونها فرصة كانت ستفيد البشرية وتخدم الإنسانية في حل قضايا الفقر والصحة والتلوث والحروب. إلا أن المسار كان غير ذلك، ما جعلها تتعرض لسيل من النقد داخل الغرب وخارجه، والمسؤولية لم تبق محلية بقدر ما غدت كونية وجماعية. فنحن مدعوون للإسهام في حل مشكلاتنا التي هي جزء لا يتجزأ من مشكلات العالم. ومن ثم يتوجب على حلولنا واقتراحاتنا أن تكون في مستوى هذا التحدي حتى تجد لها مكانا في ساحة التدافع الكوني، وهذا ما يستوجب تأهيل الذات علميا وفكريا وحضاريا.
> أريد أن أطرح معك قضية أخرى تشغل بال الباحثين، وهي الحيرة حول نقطة الانطلاق لاستئناف المسير الحضاري الذي توقفت عجلته منذ زمن طويل، خاصة وأننا نجد، أحيانا، تضاربا بين نماذجنا من المفكرين. فإذا أخذنا الراحل عابد الجابري مثلا، فقد عول على عقلانية ابن رشد كمنطلق، ووهب حياته لهذا الأمر، لكن في مقابل ذلك، نجد طه عبد الرحمن يحط من قيمة ابن رشد ويجعله من المقلدة. كيف ترون ذلك؟
- لا أعتقد أن هناك نقطة واحدة للانطلاق واستئناف المسير. فمداخل التصحيح والإصلاح كثيرة ومتعددة بعدد مداخل الأزمة والتخلف. والأزمة الشاملة لا يسعف فيها الإصلاح الجزئي أو الموضعي. ولا بد من تحريك كل المداخل الممكنة في نسق تكاملي لا تقابلي، والاستفادة من كل الإرث والفكر الفلسفي والعلمي في تراثنا. والنموذجان اللذان ذكرتهما. فكل منهما اشتغل من زاوية نظره واهتمامه بالموضوع، ولكن كانا متقاربين. والمطلوب منا الاستفادة منهما معا. فنحن بحاجة إلى التفاعل الإيجابي مع كل المشاريع، وتركيب هذه الجهود بعضها مع بعض لتكوين الصورة أو النموذج الأمثل أو الأقدر على الإصلاح. ففي كل مشروع نجد جوانب مشعة ومضيئة هي عناصر الإبداع والتجديد فيه، كما نجد فيه جوانب ضعف هي الرأي والانطباع الخاص. وإن كنت أعتبر الدكتور الجابري والدكتور طه عبد الرحمن، من أصحاب المشاريع النموذجية القليلة جدا، بل والمتفردة في بنائها الموضوعي والمنهاجي في عالمنا العربي والإسلامي.
> كيف ترى الدور الذي يمكن للفلسفة أن تلعبه في عملية الإصلاح الثقافي، خاصة وأنت تشتغل في حقل العلوم الإسلامية، وتعلم ما تلقته الفلسفة، أحيانا من هجوم وإسكات. ولعل الغزالي كان أحد مؤشرات ذلك بكتابه ذائع الصيت «تهافت الفلاسفة»؟
- للأسف هيمن التداول التاريخي على كثير من المفاهيم حتى أفقدها روحها وجوهرها، وسلب منها إمكانات وعناصر قوتها. فالإساءة في بعض التجارب إلى مفهوم، ليس معناه سحب المفهوم من الأعمال والتداول، فهذا أمر قريب من المثال الذي ضربه ابن رشد، بالسكين في يد القاتل وفي يد غيره ممن ينتفع به، فليس لأن مجرما طعن به آخر ينبغي أن يسحب من أيدي الناس، حيث تتعطل كثير من المنافع الحاصلة به.
> ما المطلب العلمي في هذه الحالة؟
- المطلوب تقويم الاستعمال وترشيده، وليس سحب أو تعطيل الوظيفة. فالفلسفة قديما كالحداثة راهنا. والذين وقفوا منهما موقفا رافضا، إنما نظروا إلى زوايا من التداول دون أخرى، أي زاويا مقابلتهما للدين وللقناعات في الاستعمالات الضيقة والمتحيزة لدى كثيرين من متعاطي الفلسفة والحداثة. هذا علما بأن أصحاب الرفض يضيقون كذلك، من مجال فهمهم للدين ويحصرونه في مفاهيم محدودة تحول دون التحقق بأبعاده الإنسانية والكونية. فالمطلوب أولا تحرير المفاهيم من التحيزات والتقييدات المضروبة عليها دينا وفلسفة، حينها ستمتد جسور التواصل. فليست مقاصد الدين وأبعاده المعرفية إلا فلسفة، وليست الفلسفة إلا كشفا متواصلا عن الأبعاد النظرية المؤطرة للوجود والإنسان والحياة. ونقد الفلاسفة فيما أخطئوا هو كنقد المتدينين فيما أخطئوا فيه. ولكن ذلك لا يعني سحب الفلسفة أو الدين من الوجود. هذا طبعا مع اعتبار الفارق: الدين هو وحي من السماء، معطى إلهي. بينما الفلسفة هي نظر وتأمل وتفسير للظواهر. والذين سحبوا هذا أو ذاك إنما عطلوا عنصرا مهما من عناصر الفاعلية والتقويم في الحياة.

د. سعيد شبار

> أستاذ للفكر الإسلامي وتاريخ الأديان، ورئيس مركز دراسات المعرفة والحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة المولى سليمان - بني ملال / المغرب.
له عدد من المؤلفات نذكر من بينها: كتاب «النص الإسلامي في قراءات الفكر العربي المعاصر»، كتاب «المصطلح خيار لغوي وسمة حضارية»، وكتاب «الحداثة في التداول الثقافي العربي الإسلامي.. نحو إعادة بناء المفهوم»، وكتاب «النخبة والآيديولوجية والحداثة».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.