تعد فكرة الماضي الوردي فكرة مهيمنة على تفكير الكثيرين حتى ابتكر بعضهم مصطلح «الزمن الجميل» في إشارة لكل ما هو ماضوي ما يمنح كتاب «صفحات من التاريخ الأخلاقي لمصر» الصادر في القاهرة عن دار «ديوان العرب» فرادته حيث يرفض المؤلف د. محمد فتحي عبد العال هذا التوجه الماضوي مؤكداً أن التاريخ حمّال أوجه، الكل يرويه بعلم ومن دون، والكل يحنّ إلى الماضي السابق عليه، وإن لم يعايشه، ويحمّله ما لا يحتمل من المثالية المفرطة والأخلاق العالية! وفي سبيل التدليل على فكرته يذهب إلى مصادر تاريخية من صحف وكتب قديمة ليورد لنا من الوقائع ما يؤكد أن الماضي لم يكن دائماً وردياً على المستوى الاجتماعي والسلوكي والأخلاقي.
يضرب المؤلف مثالاً بواقعة شهيرة لمحصّل تذاكر القطار «الكمساري» الذي لم يراعِ الظروف المادية لراكب فقير وأصر على طرده من القطار حتى تدخلت سيدة بسيطة ودفعت قيمة التذكرة وهي الواقعة التي هزت الرأي العام في مصر، مؤكداً أن مصر شهدت قديماً وقائع مشابهة. في العدد الصادر من صحيفة «المؤيد» في 2 أغسطس (آب) 1896 هناك واقعة تؤكد ذلك، لكن ما هي صحيفة « المؤيد» التي توارت عن الظهور منذ زمن بعيد؟ هي إحدى المحطات الأولى للصحافة المصرية الوطنية، إذ أنشأها الشيخ علي يوسف في الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 1889 وهو الصحافي المقرب من الخديو عباس حلمي الثاني لتكون لسان حال الحركة الوطنية المطالبة بجلاء المحتل الإنجليزي ولتكون في مواجهة صحيفة «المقطم» المدعومة من المحتل.
خلاصة الواقعة التي تنقلها لنا الصحيفة في صورة شكوى أن مشادة وقعت بين الراكب حسن بك عبد الرحمن أباظة -القاصد بندر الزقازيق- وبين مفتش التذاكر حامد أفندي حلمي -الغيور على قوانين المصلحة والمكدِّر لصفو راحة الركاب، حسب وصف الصحيفة- ذلك أن الراكب من فرط تعجله ركب من محطة أبو الشقوق (التابعة لمركز كفر صقر بمحافظة الشرقية) دون تذكرة، فأراد المفتش تحصيل تذكرة «طاق ونصف» من المنصورة «غرامة مرة ونصف» فحاول الراكب بلطف إقناع المفتش بأنه ركب من محطة أبو الشقوق، مستشهداً بمصطفى أفندي رياض معاون محطة المنصورة والراكب معه، لكنّ المفتش رفض تفهم المسألة واحتدم الأمر وتطور إلى التطاول على مقام البك الراكب وعلى معاون محطة المنصورة بعبارات «السفه والوقاحة» من جانب المفتش، حسب الصحيفة وتم رفع الأمر إلى إسكندر بك فهمي مأمور إدارة السكك الحديدية (تولى رئاسة مجلس إدارة السكك الحديدية بعد ذلك في الفترة من 1898 - 1905).
ويعود الباحث إلى كتاب «مبادئ السياسة المصرية» الصادر عام 1942 لمحمد علي باشا علوبة والذي شغل منصب وزير المعارف عام 1936 ليؤكد أن أحوال التعليم والمعلم لم تكن وردية تماماً، مشيراً إلى أنه يكشف عن عوامل الفشل داخل المنظومة التعليمية بداية من المدارس الإلزامية التي بدأت منذ وقت مبكر عام 1917 حينما كان عدلي يكن باشا يشغل وزارة المعارف لمحو الأمية، فالمدارس تُبنى على عجل دون تدريب للمعلم وإعداد كافٍ له، ولأن هذه المدارس كانت تقدم الحد الأدنى من التعليم لطلابها الفقراء وبعدها ينطلقون لمساعدة أهلهم فإنها لم تنجح في إخراج هؤلاء الأطفال المساكين وهم سواد الأمة من وضعهم المزري إلى واقع مغاير، حسب المؤلف الذي ينقل عن وزارة المعارف تقريرها عن حالة هؤلاء الأطفال: «حالة مؤلمة ومثيرة للنفس لما يبدو على هؤلاء الأطفال من بؤس يبعثه الفقر والجوع والحرمان ويزيده ضعف البنية وتغلغل الأمراض الفتاكة».
ويذكر المؤلف أن هذه المدارس لم تكن تخصصية بالشكل الذي يواكب بيئة الطالب سواء أكانت صناعية أو زراعية أو تجارية حتى تفيده في حياته العملية، لذلك كان من رأي الوزير الأسبق إطالة مدة الدراسة لتكون من ثلاث سنوات لخمس سنوات «وتكون السنتان الأخيرتان للتخصص في المعلومات الأولية لبيئة الأطفال بما يعود بالفائدة على الطفل ووسطه».
كما يتحدث الوزير الأسبق عن فشل الوزارة في تقرير نظام محدد للتعليم الثانوي أسوةً باستقرار النظام الابتدائي وتحديد مدته ونظامه «فهو محل تجارب وعُرضة للتغيير والتبديل».
الماضي لم يكن وردياً دائماً
الكل يحنّ إليه وإن لم يعايشه
الماضي لم يكن وردياً دائماً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة