من التاريخ : إنجلترا بين الصراع المذهبي والنسائي

إليزابيث الأولى
إليزابيث الأولى
TT

من التاريخ : إنجلترا بين الصراع المذهبي والنسائي

إليزابيث الأولى
إليزابيث الأولى

مات هنري الثامن كما تابعنا ولكن ليس قبل أن يغير هيكل الكنيسة الإنجليزية لينشئ الكنيسة الإنجليكية والتي رأسها بنفسه وأعقب ذلك تأميم الأديرة وبعض ممتلكات الكنيسة، ولكنه لم يمس أركان العقيدة الكاثوليكية تقريبًا فاستمرت على ما كانت عليه، خاصة وأنه كان من المؤمنين بثوابت الكاثوليكية، ولكن صراعه مع البابا كان سياسيًا بسبب رفض الأخير منحه الطلاق من زوجته فوجد في ذلك فرصته للتخلص من نفوذ بابا التاج البريطاني، ولكنه مات قبل أن يضع كل أسس الحركة البروتستانتية في البلاد وخلفه في الحكم ابنه إدوارد السادس في عام 1547 والذي كان لا يزال صبيًا، فآل الحكم الفعلي إلى خاله الدوق «سمرست» والذي كان متعصبًا للبروتستانتية فعقد العزم على نشر المذهب البروتستانتي في البلاد من خلال كبير الأساقفة «كرامنر» والذي أخذ على عاتقه تغيير الكثير من مظاهر الديانة وعلى رأسها القداس الإلهي وإلغاء الزخرفة الكاثوليكية من الكنائس مثل الشموع والماء المقدس وغيرهما من الأمور، ووضع ما عرف بـ«كتاب الصلاة للعامة» والذي نظم الصلاة باللغة الإنجليزية كما تمت ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية لفتح المجال أمام العامة لقراءته باللغة الإنجليزية بعد أن كانت مقصورة على اللاتينية في كل الدول الأوروبية حتى لا يمكن لأحد من العامة غير الكنيسة قراءتها لضمان السيطرة الدينية الكاملة على الرعية وإبقاءً لدور الكنيسة والبابا. وقد كتب «كرامنر» كتابه الثاني والذي ألغى فيه عددًا من أساسيات المذهب الكاثوليكي وعلى رأسها مسألة تحول الخبز والنبيذ إلى جسد ودم السيد المسيح وهو ما كانت تحرص عليه الكنيسة الكاثوليكية حرصًا شديدًا. ومع ذلك فإن الظروف السياسية تغيرت تمامًا بموت الملك إدوارد السادس، وهنا اضطر الساسة لأن يعرضوا التاج على أخته «ماري» الابنة الأولى لهنري الثامن من زوجته الأولى والتي كانت كاثوليكية الطبع والطابع، وكانت تكره الحركة البروتستانتية في إنجلترا لأنها كانت سببًا في طلاق أمها والتشكيك في شرعيتها هي، وعلى الفور لجأت هذه الملكة لتغير المذهب الإنجليكاني وإعادة البلاد للكاثوليكية وحظيرة البابا مرة أخرى، وقد استعانت الملكة على هذه العملية بالعنف المفرط وقامت بإلغاء كتب الصلاة وأعدمت «كرامنر» وسلمت البلاد إلى كبير أساقفة عينه البابا من روما، ولكنها لم تستطع استعادة أملاك الكنيسة مرة أخرى، كما أنها لم تستطع جذب تعاطف شعبها معها بسبب عنفها وتشددها للمذهب الكاثوليكي، ولكنها أقدمت على الانتحار السياسي عندما تزوجت من ملك إسبانيا العدو التقليدي لبلادها، وهو ما جعل البرلمان يتدخل لوضع القيود السياسية على هذه الزيجة، ولكنها أفقدتها التعاطف الكامل في الشارع والبرلمان معًا عندما تحالفت مع إسبانيا ضد فرنسا في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، مما جعلها تفقد مدينة «كاليه» لصالح فرنسا، ولكن القدر لم يمهلها الكثير فماتت بحسرتها في عام 1558 قبل أن تعمق جذور المتغيرات التي أدخلتها.
مرة أخرى وجد الشعب الإنجليزي نفسه في موقف حرج فاضطروا لتنصيب أختها الملكة «إليزابيث» الأولى، وهي ابنة آن بولين السبب الأساسي وراء قرار هنري الثامن بالانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، فكان الكاثوليك في البلاد ينظرون لها على اعتبارها ابنة غير شرعية بسبب عدم الاعتراف بطلاق والدتها الأولى، بينما توسم البروتستانت الخير على أيدي الملكة الجديدة والتي كانت تقارب الخامسة والعشرين، ولكن أحدًا لم يتوقع أبدًا أن تصبح هذه الشابة أعظم ملكة في تاريخ إنجلترا وواضعة أسس عظمة هذه الدولة، فلقد كانت حكيمة وذكية في آن واحد، ولم تتأخر كثيرًا في استيعاب دروس السياسية وإدارة الدولة، فاستعانت بمستشارين شهد لهم التاريخ بالكفاءة فحسمت المشكلات المذهبية بأن أعادت المبادئ التي وضعها أبوها وأخوها، فأصبحت الملكة ترأس الكنيسة رسميًا رغم أنها رفضت هذا اللقب نظريًا تحت حجج مختلفة واكتفت بلقب «الحاكم الأعلى»، ولكنها أقرت المبدأ ذاته، كذلك فقد أعيدت الصلاة في الكنائس باللغة الإنجليزية وأبقت على الطقوس البروتستانتية وعلى رأسها زواج القساوسة، وهو ما أدي إلى قيام البابا في روما بعزل الملكة كنسيًا ولكنها لم تأبه كثيرًا بهذه الخطوة فشددت قبضتها على الكاثوليكية ومعتنقيها في البلاد.
وعلى الرغم من القرارات الحاسمة للملكة في المسائل المذهبية فإن التوتر لم يختف في البلاد، ولكنه هدأ بشكل كبير، وكان على الملكة أن تبدأ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية لضمان الاستقرار بعد تهدئة الخلافات المذهبية، فعلى صعيد الشأن الداخلي نظمت الملكة صك العملة بشكل يضمن وجود نسب من الذهب أو الفضة في العملات تتوازى مع قيمتها الفعلية بعدما كان والدها هنري الثامن قد أخل بهذا التوازن بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة فكان يصك العملة بأقل من قيمتها مما خلق حالة من التضخم المريع في البلاد، وقد أعاد ذلك للاقتصاد الإنجليزي استقراره الذي كان في أشد الحاجة إليه، كذلك قامت بتنظيم سوق العمالة في البلاد من خلال القوانين المختلفة فأدخلت الحد الأدنى للأجور وقامت بعدد من الإصلاحات الاجتماعية امتصت من خلالها غضب الطبقات الفقيرة، كما وضعت هذه الملكة الشابة الأسس التجارية التي جعلت من بلادها فيما بعد القوة التجارية الأولى في العالم، وأسست لأول مرة «شركة موسكوفيا التجارية» لضمان التجارة مع روسيا في وقت لم تكن أوروبا قد وجهت أنظارها لروسيا، كما فتحت المجال أمام التوسع التجاري المنظم حول العالم.
وعلى الرغم من كل هذه الأعباء، فإن القدر وضع على كاهل هذه الملكة عبئًا إضافيًا، وهو علاقتها السيئة مع أحد أقربائها وهي «ماري ملكة اسكوتلندا» والتي كانت كاثوليكية المذهب وحاولت أن تستولي على إنجلترا وتطيح بالملكة إليزابيث بكل الوسائل خاصة بعد زواجها من ملك إسبانيا فأصبحت إنجلترا في خطر الزحف الاسكوتلندي البري والحصار البحري الإسباني، وقد جمعت «ماري» الجيوش ضدها ولكنها فشلت في هدفها بسبب الدسائس الداخلية، وانتهى بها الحال إلى ثورة شعبية أطاحت بها مما جعلها ترتمي في أحضان إليزابيث، فكان مأواها السجن ثم الإعدام بعد ذلك.
أما على صعيد العلاقات الخارجية فقد توصلت لاتفاقية صلح مع فرنسا تنازلت بمقتضاها عن الأراضي التي صارت تحت أيدي الأخيرة، ولجأت لسياسة توازن القوى للحفاظ على استقلال البلاد من ناحية وضمان عدم تكتل القارة الأوروبية ضدها، فتوازنت سياستها الخارجية بين فرنسا وإسبانيا بشكل دقيق للغاية، فأصبحت إنجلترا عنصرًا هامًا في المعادلة السياسية الدولية، وهو ما أثار حفيظة وحقد ملك إسبانيا والذي كان مصممًا على استعادة إنجلترا إلى الكاثوليكية مرة أخرى والقضاء على نفوذها التجاري الدولي، وهو ما دفعه في عام 1588 إلى محاولة غزو إنجلترا بحريًا من خلال أسطوله المهيب والمعروف «بالأرمادا»، فكان هذا أكبر تحد لهذه الملكة في حكمها، ولكنها استطاعت أن تستجمع قوى البلاد من المذاهب المختلفة والرافضة للاحتلال الإسباني، وبمساعدة الريح العاتية تمت هزيمة الأرمادا وهي المعركة التي غيرت مجرى التاريخ الدولي، فلقد ضعفت إسبانيا بعدها بحيث صارت إنجلترا بأسطولها القوة المؤثرة على المحيط الأطلنطي، وبدأت تتوسع في مستعمراتها.
وقد كان لهذه الملكة رؤيتها الثقافية فجاء ما عُرف في التاريخ بالعصر المنسوب إليها، إذ انتشر الأدب والشعر الإنجليزيان بشكل كبير، وبدأت حركة فكرية كبيرة تعم البلاد كان لها أكبر الأثر في الرقي الاجتماعي تدريجيًا، وقد دعمت الملكة هذا التوجه بشكل كبير سعيًا لتثبيت اللغة ومنح بلادها الميزة الفكرية والثقافية، وقد اهتمت الملكة شخصيًا بالمسرح والفنون. ومع كل هذه الأحداث فقد ظلت شخصية وحيدة، خاصة وأنها رفضت كل عروض الزواج والتي انهالت عليها من كل القارة الأوروبية ومن علية القوم الإنجليز تحت حجج مختلفة، ولكنها كانت تستخدم هذا السلاح إما لجذب الرجال لصالح التاج أو لتفريق المؤامرات الداخلية أو الخارجية، لهذا لم تتزوج وماتت الملكة بلا وريث لها في عام 1603، ولعل إرثها الحقيقي أنها كانت سيدة الدولة التي وضعت الأسس السياسية والاقتصادية والعسكرية للدولة الإنجليزية.



تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،