للخيال الجانح حدود يتوقف عندها. مثلاً نستطيع قبول هبوط طائرة فوق سطح الماء وحولها تماسيح، لكن لا نستطيع أن نقبل أن تحط الطائرة في ألاسكا لتجد أنها محاطة بالتماسيح. الدبب والذئاب نعم، لكن التماسيح؟
نستطيع أن نقبل مشهداً لمركبة مبتدعة تطير فوق الأرض بفارق نصف متر (كما في بعض أفلام «ستار وورز») لكن لا نستطيع تخيّل أن يمشي رجل كيلومترات فوق حجارة الغابة وأشواكها حافياً من دون ألم أو جروح.
في «جوراسيك وورلد دومينيون» (أحدث إنتاجات سلسلة الصدامات الكبيرة بين وحوش ما قبل التاريخ والبشر) هناك خيالات ضرورية، مثل أن عصر الديناصورات لم ينته بعد، لكنها مُعالجة على نحو لا يصلح للتطبيق.
عندما يمد أووين برادلي (كريس برات) يده إلى الأمام ليهدأ من روع الدينوصورات فإن المشهد مضحك من حيث لا يريد لأن التواصل الذهني مقطوع أساساً بين وحوش تي ركس أو الإيروثولوس أو سيراتوروس أو غيرها. مما يعني أن الفيلم يُعامل تلك الوحوش كما لو كانت أليفة تفهم مراد الإنسان بينما كل ما تراه واقفاً على قدميه هو طعام جاهز للبلع.
ومن يعرف القليل عن الجياد يدرك تماماً أنها لن تؤمن لحيوان ديناصوري يركض بجانبها مهما كانت الإغراءات بل سيهرب منها بعيداً قدر المستطاع. ثم ماذا عن تي ركس صغير يقفز من علٍ ليحط وراء راكب الدراجة النارية؟ أو الممثلة لورا ديرن وهي تربّت بحنان على جبهة أحد الحيوانات المفترسة كما لو كانت تداعب كلبها؟
سام نيل إيزابيل سرمون وكريس برات في مشهد من «جوراسيك بارك دومينيون»
بين ديكنز ودويل
«جوراسيك وورلد دومينيون»، الجزء السادس من سلسلة «جوراسيك بارك» التي دلفت إلى عنوان جديد هو «جوراسيك وورلد» بدءاً من 2015، مليء بمثل هذه المشاهد التي لا تميّز كثيراً بين جنوح الخيال لتأكيد أن الديناصورات (طائرة ومائية وأرضية) تعيش بيننا وبعضها مسالم وبعضها الآخر فتّاك، وبين المشاهد التي يُطلب فيها من تلك الديناصورات أن تمثّل أدواراً غير معقولة.
لكن فليكن. «جوراسيك وورلد دومينيون» يحط من اليوم (العاشر من الشهر الحالي) بكل ثقله على شاشات أكثر من 3 آلاف صالة أميركية ومثيلها تقريباً حول العالم (باستثناء روسيا وأوكرانيا) ليسرد حكاية أخرى حول الصراع بين الوحوش النادرة والبشر الممعنين في طَرق أبواب المجهول ومواجهة الرد.
في الأساس، لا يختلف وضع هذه السلسلة عن وضع سلسلة «كوكب القردة»، هي أيضاً من وحوش الأمس التي تستولي على الأرض خلال وبعد صراع مستميت مع الإنسان للسيطرة عليها. الفارق هو أن القردة عانت كثيراً من هيمنة البشر فقررت أن ترث الأرض وتحد من سطوته.
تلتقي سلسلة «جوراسيك»، التي كان ستيفن سبيلبرغ أخرج أول فيلمين منها (في 1993 و1997) قبل أن يكتفي بدوره كمنتج، مع فيلم «كينغ كونغ» من خلال محاولة الإنسان استغلال الوحش النادر لتحويله إلى فرجة مدفوعة الثمن يؤمها البشر محققين لصاحب المشروع ثروة كبيرة. كذلك تلتقي مع مفهوم أفلام «غودزيللا» اليابانية (والأميركية لاحقاً) التي صوّرت خروج وحش عملاق غريب من تحت الماء ليدمر كل ما يواجهه.
على ذلك، السلسة ذاتها نجحت في أن تصبح كياناً منفصلاً بحد ذاتها حقق مليارات الدولارات وهو ما لم تحققه الأفلام الأخرى منفردة.
الرواية الأشهر في مجال سينما الدينوصورات كانت «العالم المفقود» (The Lost World) التي تنتمي إليها فكرة سلسلة «جوراسيك» أكثر من انتمائها إلى أي إلهام آخر.
وضع «العالم المفقود» آرثر كونان دويل الذي اشتهر برواياته البوليسية التي قادها شارلوك هولمز، وهذا في سنة 1912 واصفاً رحلة إلى مجاهل الأمازون يقوم بها بروفسور كان حاول إقناع المحفل العلمي بأن حيوانات ما قبل التاريخ ما زالت حيّة. تشبه هذه المحاولة تلك الواردة في رواية جول فيرن «حول العالم في 80 يوماً» (المنشورة سنة 1872) وهو يؤكد أنه يستطيع السفر حول العالم في شهرين وعشرة أيام وبعد تحدي المجمع العلمي له يقوم بتلك الرحلة ومغامراتها بالفعل.
في «العالم المفقود» لا يقتنع المحفل العلمي بنظريّة البروفسور، مما يدفعه ومعه فريق صغير، للسفر إلى الأمازون... وها هم - بعد أيام هادئة - يواجهون ديناصورات من نوع ميغالوسيروس وتوكسودون وفوروساهوكس تهدد حياتهم.
عن هذه الرواية تم صنع فيلمين، الأول سنة 1925 من إخراج هاري أو. هويت مع مؤثرات خاصّة كانت عبارة عن تحريك الوحوش لقطة - لقطة (Stop Motion) والآخر سنة 1960 الذي حققه إروين ألن ناقلاً الأحداث إلى فنزويلا.
«كبّة نيّة»
سادت الديناصورات وحيوانات ما قبل التاريخ الشاشة مرّات عدة بعد ذلك ولو أنها لم تؤسس لنوع متداول كباقي أنواع سينما الرعب أو الخيال العلمي. هناك فيلمان في الثمانينات أحدهما شهد بعض النجاح عنوانه «الأرض قبل الزمن» (The Land Before the Time). هذا الفيلم كان من نوع الأنيميشن وربما الإلهام الأول للمخرج سبيلبرغ الذي قام وجورج لوكاس (مخرج ومنتج سلسلة «ستار وورز») بإنتاجه.
في عام 1993. وبعد 3 سنوات من التحضير، قام سبيلبرغ باستلهام رواية مايكل كريتون «جوراسيك بارك» لفيلم من إخراجه. ثلاثة من ممثلي هذا الفيلم موجودون في الجزء الجديد وهم سام نيل ولورا ديرن وجف غولدبلوم.
روايات كريتون، ومنها «كاري تريتمنت» (1972) و«وستوورلد» (1973) و«كوما» (1978) وكلها تحوّلت إلى أفلام، تتطرق إلى التأثير السلبي للعلم عندما يحاول العبث بالحياة كما نعرفها. في «وستوورلد» الذي قام هو بإخراجه، نتابع كيف أن العلم خلق روبوتس في مدينة ألعاب تتقمص شخصيات شهيرة من التاريخ الغربي. وكيف أن هذه الآلات الممنهجة تمرّدت على برامجها الإلكترونية وأخذت تقتل السيّاح والراغبين في مزاولة لعبة الانتقال إلى الأمس.
هذا شأن «جوراسيك بارك» حيث يسعى هاموند (الراحل رتشارد أتنبوره) لاستغلال اكتشاف الديناصورات لتحويل محميتها إلى جزيرة سياحية. هذه الغاية تستمر في الجزأين الثاني والثالث وهما «العالم المفقود: جوراسيك بارك» (ستيفن سبيلبرغ (1997) و«جوراسيك بارك - 3» (جو جونستون) وتتطور وتزداد تعقيداً في الجزأين الرابع والخامس وهما «جوراسيك وورلد» (كولين تروفوروف، 2015) و«جوراسيك وورلد: فولن كينغدوم» (ج. بايونا (2018)،
في الجزء الثاني مثلاً، نتابع حكاية دكتور مالكولم والثري جون هاموند لتشغيل متنزه ديناصوراتي تم ابتداع وحوشه عبر جينات مزروعة. كل شيء يبدو على ما يرام إلى أن يكتشف العالم رولاند (بيت بوستلوايت) وجود تايرانوسوروس ركس صغير فيحاول عبر الاحتفاظ به اصطياد أمّه، لكن أمه هي التي تصطاده وبذلك يتحوّل الهدف إلى كارثة تلاحق كل من وصل إلى المتنزه حالماً بعالم الأمس.
بعد ذلك، يدمج الجزء الثالث «جوراسيك بارك: العالم المفقود» الناحية الإنسانية: لقد ضاع ولد دكتور غراند (سام نيل) ومطلقته (لورا ديرن) في الغابات الخطرة وعليهما استعادته قبل أن يتحول إلى «كبّة نيّة» في بطن الوحش. في كل الأحوال، وظّفت هذه الأفلام العواطف الجاهزة لجلب النجاح عبر حكايات الصدام بين البشر وحيوانات ما قبل التاريخ.