علياء مطر: أنصح بشراء لوحات فنانين موهوبين مبتدئين قبل ارتفاع أسعارها

«الفن التشكيلي العربي» يدخل الأسواق العالمية من أبوابها العريضة

TT

علياء مطر: أنصح بشراء لوحات فنانين موهوبين مبتدئين قبل ارتفاع أسعارها

خلال أقل من عشر سنوات تحولت الأعمال التشكيلية العربية المعاصرة من لوحات مجهولة في السوق العالمية للفن، إلى قطع مطلوبة تقام لها المزادات. ففي عام 2006، مثلا، كان من الصعب في دبي بيع لوحة لفنان عربي بـ2000 دولار، بحسب علياء مطر الخبيرة في المجال الفني، وصاحبة «ثي غاليريست» في بيروت، التي كانت تعمل حينها هناك. ولكن عام 2008، وفي مفاجأة للجميع، بيعت لوحة للفنان السوري المعروف فاتح المدرس، بمبلغ 300 ألف دولار، ووصلت أسعار لوحات لفنان سوري آخر هو لؤي كيالي، إلى سعر مشابه.
أما اليوم فنرى أعمالا لفنانين شباب تباع بمبالغ لم تكن متوقعة منذ سنوات فقط. فمنذ شهرين وصل سعر إحدى لوحات الفنان اللبناني الشاب أيمن بعلبكي، وتحمل اسم «برج بابل»، إلى 485 ألف دولار، وهو الذي كانت لوحاته مسعرة منذ سنوات قليلة بـ4 آلاف دولار، فيما بيعت لوحة «فرحة النوبة» للفنانة المصرية تحية حليم، التي رحلت عام 2003، بمبلغ 749 ألف دولار أميركي، وهو ما لم يكن يحلم به أي فنان عربي.
ثمة من يعزو هذا الاهتمام المفاجئ بالفن العربي إلى ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث التفتت الأنظار إلى المنطقة وما يدور فيها من أحداث وكيف يتفاعل الفنانون معها. لكن في المقابل، هناك أصحاب غاليريات عرب ومهتمون بالفن قاموا بجهود مضنية، من بين هؤلاء، على سبيل المثال، أندريه صفير زملر، صاحبة الغاليري الذي يحمل اسمها في بيروت، ولها غاليري مواز في هامبورغ في ألمانيا، واستطاعت أن تعرف بالفن العربي وتجلب العديد من المهتمين الغربيين إلى بلدها.
علياء مطر مناضلة أخرى، ميزتها عن غيرها أنها تخصصت في مجال الفن التشكيلي العربي والشرق أوسطي. «ثي غاليريست» هو اسم الغاليري الذي افتتحته في منطقة السوديكو ببيروت منذ ست سنوات، كي يكون همزة وصل بين فناني المنطقة والمجمّعين الراغبين في اقتناء أعمال قيّمة. عملت في دبي، قبل ذلك حين لم يكن هناك أكثر من غاليريين اثنين، وأصبح هناك ستون اليوم.
هذه الفورة تعزوها علياء إلى افتتاح المتاحف وعلى رأسها «المتحف العربي للفن المعاصر» في قطر، «والذي أبرز من خلال مجموعته الكبيرة والثمينة»، وكذلك من خلال الأعمال البديعة للفنانين العراقيين الذين كانوا قد استضيفوا في قطر بعد الغزو العراقي، كم أن النتاج العربي متنوع ويستحق التقدير. وتضيف: «هناك أيضا متحف الشارقة للفنون، ومتحف جديد يتم العمل عليه في بيروت بعد أن تبرعت الجامعة اليسوعية بالأرض وبعض الفنانين بلوحات لهم».
ارتفاع أسعار اللوحات العربية ترافق مع افتتاح مؤسسات عالمية معنية بالفن مكاتب لها في المنطقة، مثل «دار كريستيز» التي بدأت عملها في دبي عام 2005، وشدت المستثمرين باسمها البراق إلى الشراء بسخاء، وكذلك دار «بونهامس» ودار «سوذبيز»، التي افتتحت لها فروعًا في الدوحة. وتقول علياء مطر: «بدأت (كريستيز) في دبي بأسعار سرعان ما قفزت بسرعة، مثل لوحة للفنان الإيراني المعروف فرهد موشري اشتريت بخمسة آلاف دولار، لكن اللوحة ذاتها سرعان ما وصل سعرها إلى مليون دولار خلال فترة قياسية».
تحولت دبي تدريجيا، ومع التنظيم السنوي لـ«آرت دبي» الذي وصل إلى دورته التاسعة، إلى مركز رئيسي للفن التشكيلي في الشرق الأوسط، ولم تلبث الفرنسية لور دوهوتفيل، التي تنشط في مجال تنظيم المعارض الفنية في لبنان منذ نهاية القرن الماضي، أن بدأت بتنظيم «بيروت آرت فير»، معتمدة بذلك مع نقص التمويل على مهارات الفنانين اللبنانيين وما لهم من سمعة، وما لبيروت من مكانة في قلوب الفنانين في العالم.
الحركة مستمرة، على الرغم من صعوبة الظروف في المنطقة، والفن ليس منفصلا عن الاقتصاد ولا الحروب. علياء مطر تشرح أن «الأزمة المالية عام 2008، والشح الذي ضرب الأسواق، أعاد الأسعار إلى شيء من الهدوء. الحرب في سوريا دفعت إلى اهتمام شديد بالأعمال الفنية السورية، التي ارتفعت أسعارها بشكل مفاجئ، لكن كثافة الأعمال وتشابهها والفوضى التي استشرت، جعلت الأسعار تنخفض من جديد. سئم الشراة من الوجوه المتعبة، ومن الألم المتكرر في اللوحات».
كخبيرة في المجال، وصاحبة «غاليري» وسيط بين الشراة والفنانين، ما الذي تنصح به علياء مطر أولئك الذين يودون الحصول على لوحات ثمينة، ولا يملكون الثروات الكبيرة؟
تصر مطر على أن الشراء يحتاج معرفة، وهذا بات متوفرا بفضل الإنترنت. بقليل من البحث يتمكن المهتم من معرفة أهمية فنان ما أو لوحة معينة. وكذلك لا بد من اختيار الوسيط أو الغاليري المتمتع بحد من النزاهة والمصداقية. وتنصح أيضا باختيار أعمال لفنانين لا تزال أسعار أعمالهم مقبولة، فبعض الموهوبين الشباب الذين يبيعون اليوم بـ4 آلاف دولار قد ترتفع أسعار لوحاتهم بسرعة كبيرة، وهذا يعود إلى تميز أعمالهم وفرادتها، ولمستهم الخاصة. وهنا تتوقف علياء عند نقطة مهمة شارحة: «حين يقول لي أحدهم عن أعمال فنان ما إنها تذكره بفنان آخر أدرك أن الأعمال ليست مما ينبغي اقتناؤه. فالفن الذي يجذب لفترة أطول هو الذي يحمل بصمة خاصة لصاحبه. وبالتالي أنا لست مع شراء لوحة بهدف أن ثمنها سيرتفع، وبخلفية تجارية محض، وإنما لإحساس الشاري أنه أمام عمل جميل يستحق أن يقتنى».
وتتأسف علياء لأن الأثرياء العرب لا يدعمون بالقدر الكافي الفن العربي، مضيفة أن «الإقبال على شراء الأعمال والاهتمام بها سيدفع حكما إلى ارتفاع ثمنها عالميا وتقديرها من الآخرين، وإهمالنا كما شحنا أمام الفن يجعله أقل قدرا في الأسواق». أما العنصر الثاني المهم «فهو افتتاح المزيد من المتاحف للفن التشكيلي العربي، لأنها تجذب المهتمين وتبرز أهمية المجموعات التي في حوزتنا».
بفضل حيوية سوق الفن التشكيلي العربي في السنوات الأخيرة بيعت لوحة صغيرة للفنان العراقي الكبير جواد سليم لا يزيد حجمها على 60 سم في 70 سم بمبلغ 250 ألف دولار، كل ذلك قد يعود إلى الحظ أو الصدفة، لكنه بالدرجة الأولى يرجع إلى جودة الأعمال وندرتها، فكثافة الأعمال للفنان الواحد وكثرتها لا تساعد في رفع الأسعار.
ثمة أسرار صغيرة تتحدث عنها علياء، لا بد للمقتني أن يعرفها. فالمسألة ليست مجرد بيع وشراء وتجارة، بل تذوق وإدراك لديناميكية السوق، وبالتالي على الغاليري «أن يختار الأفضل لزبائنه، وبالأسعار المناسبة. لذلك أحرص على أن تكون اللوحات التي أجلبها مميزة وبأسعار مقبولة، وصارت لدي الخبرة، بما يباع وما له من مستقبل في السوق، وأرى أن شراء لوحات لفنان مبتدئ وموهوب، سيكون لأعماله مستقبل، هو أفضل من الاستثمار في أعمال مرتفعة السعر أصلا»، مشددة على ضرورة أن تهتم الحكومات بدعم الفن. وتعطي مثلا الفنان جميل ملاعب الذي يبني متحفا بجوار منزله في بلدته بيصور ليعرض أعماله فيه، وتتساءل «من الذي سيذهب إلى بيصور ليشاهد لوحات لفنان مهما علا شأنه؟ لماذا لا تمنح الدولة اللبنانية أراضي لفنانين ليبنوا متاحفهم، أو تقيمها هي لهم؟ هذا أمر يدعم السياحة، وينشط الاقتصاد، وينعكس على صورة البلد على الخريطة العالمية».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.