مراحل من تاريخ الظلم الإنساني

رواية عن مغربي تحول في القرن السادس عشر من عبد إلى رمز تاريخي

عبد الرحيم الخصار
عبد الرحيم الخصار
TT

مراحل من تاريخ الظلم الإنساني

عبد الرحيم الخصار
عبد الرحيم الخصار

عن منشورات المتوسط بإيطاليا، صدرت أخيرا للكاتب والشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار رواية «جزيرة البكاء الطويل»، التي تضع قارئها، بحسب ناشرها، في قلب «رحلة شيقة بقدر ما هي مؤلمة. ليس من أجل استعادة الماضي فحسب، إنما لتساعدنا على فهم أعمق لعالم اليوم»؛ رواية «مدهشة، ممتعة، ومربكة بأفضل طريقة ممكنة».
تتعقب الرواية حياة مصطفى الأزموري أو استيفانيكو، وهو يتحول من عبد إلى رمز تاريخي. الزنجي، ابن الشمس، الفاتح الأسود، استيفان الموري؛ تعددت أسماؤه، ومعها «تعددت ألوان أيامه في هذه المغامرة القدرية التي قادته عبداً من أزمور بالمغرب، بعد أن باعه والده للبرتغاليين، مروراً بإسبانيا التي صار فيها سيداً وصولاً إلى أن يكون، في بداية القرن السادس عشر، مكتشفاً لمدن الذهب في أميركا وما فيها من أسرار وأهوال. شخصية استثنائية استطاع الكاتب مقاربتها بحفر مضن في الذاكرة، عبر سردية أدبية تغوص في تفاصيل حدث معلوم يكتنف تاريخه الكثير من الغموض».
يتناوب على حكي أحداث الرواية أربع شخصيات، فضلا عن استيفانيكو الذي يظهر ساردا لأحداث أربعة فصول. بينما يتوزع سرد الفصول الأخرى على أماريس الفتاة الهندية التي أحبته، ودورانتيس وكابيزا دي فاكا القائد البحري الذي لم يكن يرتاح لاستيفانيكو، وحدو والد مصطفى/ استيفانيكو. اشترى دورانتيس، وهو دوق من بيخار، مصطفى من سوق النخاسة في إشبيلية، لكنه حوله إلى صديق له. ومع بداية محاكم التفتيش اضطر مصطفى إلى تغيير ديانته، وحمل أسما جديدا منحه إياه سيده، فصار اسمه الجديد استيبان دورانتيس، وسيصير لاحقا استيفانيكو. وحين بدأت مرحلة الرحلات الاستكشافية إلى أميركا أخذ دورانتيس استيبان معه. كانت الرحلات تتغطى بالطابع الديني، أي هداية الهنود الحمر إلى المسيحية، لكنها كانت بالأساس من أجل جلب الذهب وجلب الهنود الحمر خدما وسبايا.

                                                                                 غلاف الرواية
وتتوقف الرواية، التي جاءت في 144 صفحة من القطع الوسط، عند ثلاث مراحل متقاربة من تاريخ الظلم الإنساني: مرحلة الاحتلال البرتغالي للمغرب وما عاناه سكان مدينة أزمور؛ مرحلة تهجير الموريسكيين وإرغامهم على تغيير الديانة من الإسلام إلى المسيحية أو القتل بأبشع الأشكال؛ ثم مرحلة الاعتداء الأوروبي على الهنود الحمر. ومع تقدم الرحلة والتوغل في أدغال الهنود الحمر سيتحول استيفانيكو من عبد إلى زعيم وإلى معالج روحي، وسيحظى بلقب «ابن الشمس».
في رحلة البحث عن الذهب تتشكل رحلة موازية لمصطفى وهي رحلة البحث عن الذات. لذلك تنفتح الرواية على نهاية عميقة تسائل جدوى الوجود الإنساني.
يرصد الخصار حال بطله وتقلبات حياته، مقترحا علينا «رواية ساحرة، مخيفة، وشيقة تختبر العبودية والترحال والإبحار عبر المحيط، باتجاه «جزيرة البكاء الطويل». مسافات تبدو طويلةً جداً ومنهكة تماماً كما هي المسافات التي نقطعها لاكتشاف ذواتنا. هي أيضاً، رواية عن الحب الذي لم يكتمل، عن الصداقة والخيانة، والألم والظلم الإنساني».
مما نقرأ في الرواية: «وقفت على الساحل، أنتظر مثلما ينتظر الآخرون أن تصل السفن البرتغالية التي كانت تنقل كل يوم العشرات منا باتجاه الضفة الأخرى من البحر. لماذا كبلوا أيدينا وأقدامنا بسلاسل الحديد، وأحكموا إقفالها؟ فنحن رغم كل شيء لن نهرب، ثم إلى أين سنهرب؟ نحن أيضاً نريد الذهاب إلى هناك أو إلى أي مكان آخر، بعيداً عن هذه المدينة التي نشأنا فيها وأحببنا ترابها وماءها وأسوارها العالية. لم يكن الموت يخيفنا، لكن، أن نموت غرقى في البحار في لحظة خاطفة خير من أن نموت هنا بالتقسيط من فرط الجوع».
طرحت «الشرق الأوسط» على الخصار مجموعة أسئلة حول تجربته الإبداعية في علاقة بالكتابة تحت «سقف» الشعر أولا ثم الرواية، وسؤال اعتماد التاريخ في كتابة الرواية، فضلا عن تعدد الكتابات التي تناولت شخصية الأزموري الشهيرة، فأجاب: «غالبا ما أجنح إلى السرد في كتاباتي الشعرية. والدي حكاء كبير، يملك قدرة هائلة على سرد محكيات ضاربة في تاريخه الشخصي والجمعي أيضاً. مسروداته العديدة تتسم ببعدين أساسيين هما العمق والتشويق. وهذه ميزة الأعمال الروائية العالمية. ثمة دائما حكاية مؤثرة، وطريقة شيقة في تقديمها للمتلقي. يمكنك أن تقول إني ورثت السرد عن والدي، فضلا طبعا عن قراءتي للرواية من مشارب متعددة. ربما السبب الكبير الذي حال دون أن أكتب روايات منذ سنوات خلت هو الكسل. فمزاجي شعري بالأساس. الشعر لحظة أما الرواية فهي التزام زمني ممتد. والحقيقة أنني خصصت الكثير من الوقت في حياتي لكتابة مقالات أكثر مما خصصته لكتابة الشعر».
ربط التأخر في إصدار عمل سردي بالكسل، دفع الخصار إلى القول بأنه يغبط الروائيين على أمزجتهم وصبرهم وقدرتهم على البقاء لساعات طويلة على الكراسي قبالة مسوداتهم غير المنتهية، مستشهدا بغابرييل غارسيا ماركيز، الذي قال مرة «إن الكاتب لا ينهي روايته، إنما يتخلص منها». وأضاف الخصار: «هذا ما وقع لي بالضبط. فبعد فترة طويلة من البحث في التاريخ وتحرير الأحداث وجدت نفسي أرغب في التوقف ولدي إحساس بأن العمل لم يكتمل، وربما لن يكتمل. أليست مهمة القارئ أيضاً هي ملء الفراغات التي خلفها تعب الكاتب؟ خصوصاً أني كنت مشغولا بالبحث في عدة تواريخ، بالمغرب والبرتغال وإسبانيا وأميركا».
وحول سؤال إن كان تناول كتاب آخرين لشخصية الأزموري التاريخية في روايتاهم قد شوش عليه، على مستوى التخطيط والكتابة، قال الخصار: «حين بدأت الكتابة عن استيفانيكو أو مصطفى الأزموري صيف سنة 2016 لم يكن هناك أي عمل روائي قد صدر عنه. كنت قد شاهدت حلقة عنه في إحدى القنوات التلفزيونية، وقرأت عنه ورقة للباحث شعيب حليفي، وسمعت عن كتاب لمصطفى واعراب فاز بجائزة أدب الرحلة، لم أطلع عليه لحد الآن. وحين بدأت الروايات تصدر عن استيفانيكو، واحدة بأميركا وأخرى بفرنسا واثنتين بالمغرب، حاولت ألا أطلع عليهما حتى أنهي روايتي. اعتمدت بالمقابل وثائق مدونة بالإنجليزية أو مترجمة من الإسبانية إلى الإنجليزية، واستعنت بصديق مترجم لتذليل ما استعصى علي فهمه».
لكن «لماذا كتابة التاريخ، أو توسل التاريخ لكتابة الرواية؟»، يجيب الخصار: «في الحقيقة لم أفكر في كتابة رواية تاريخية، وحتى وأنا أكتب لم أكن منتبها إلى أنني غارق في عمل تاريخي. ذلك أني انجذبت بالأساس إلى شخصية الأزموري، ربما الجانب النفسي كان لدي ذا أولوية على المسألة التاريخية. التاريخ في الغالب ذريعة ومتكأ. لكن الجوهري هو الشخصية التي تخلق الأحداث. هناك تمثال الآن لمصطفى الأزموري في أميركا، ومعهد يحمل اسمه. كيف استطاع شاب مغربي أن يتحول في القرن السادس عشر من عبد إلى رمز تاريخي؟ هذا السؤال وحده يدعو إلى الكتابة ويحفز عليها».
وعرف الخصار أولاً شاعرا، وقد صدر له عدة مجموعات شعرية عن دور نشر مغربية وعربية، ومنها «أخيراً وصل الشتاء» في 2004، و«أنظر وأكتفي بالنظر» في 2007، و«نيران صديقة» في 2009، و«بيت بعيد» في 2013، و«عودة آدم» في 2018، و«القبطان البري» في 2020، و«عداء المسافات الطويلة» في 2021. كما صدر له في أدب الرحلة «خريف فرجينيا، رحلات إلى أوروبا وأميركا» في 2017؛ وترجمت نصوصه إلى عدد من اللغات، وشارك في عدة إقامات أدبية بأميركا. كما سبق أن فاز بجائزة المتوسط للشعر في إيطاليا، وجائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب بموسم أصيلة الثقافي الدولي.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!