«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

كتابة التاريخ بالإفادة من مخزونات الذاكرة الجماعية

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين
TT

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

تتشكل عناصر المتن الروائي بأساليب سردية تتوافق مع ما يريده الروائي منها، لتأخذ أشكالاً عدة. وفي هذا التطويع للسرد الروائي دليل على قابليته للتداخل مع الفلسفة والنقد وفنون الأدب من شعر ومذكرات وتاريخ واجتماع، فيغدو الروائي كالمؤرخ أو كالباحث الاجتماعي يقيد بالسرد حياة الناس ووجوههم وطبائعهم وأصولهم، موثقاً كل شيء له تاريخ مادي أو غير مادي، يمكن تسجيله وحفظه. من هنا اتخذ القديس أوغسطين السرد ملجأ فيه اعترف بالذنوب والخطايا فتطهرت ذاته وبرأت ذمته وارتاح ضميره، واستعان سارتر بالرواية كي يعزز رؤاه الوجودية، وقبله فعل ذلك فولتير، كما طبق إمبرتو إيكو من خلال كتابة الرواية نظراته وتصوراته الفنية.
ويعني تطويع الرواية للتاريخ والاجتماع أن المتخيلين السردي والتاريخي - اللذين هما بؤرة تحبيك القص - قد امتزجا بالمتخيل الاجتماعي. وبهذا الامتزاج تتسع الغاية من وراء الرواية فلا تتحدد في إعادة كتابة التاريخ العام حسب، بل أيضاً صناعة التاريخ نفسه بالإفادة من مخزونات الذاكرة الجماعية أولاً، والإدراك العقلي لمنطقية التحبيك السردي ثانياً، وتوقع انتقال التأريخ شفاهياً جيلاً بعد جيل ثالثاً.
والمحصلة هي رواية التاريخ التي فيها تدور المتخيلات الثلاثة (التاريخي والاجتماعي والسردي) زمانياً، ما نجده متجسداً في رواية «السقائف الزرق» لكليزار أنور، الصادرة مؤخراً عن منشورات الاتحاد العام للأدباء في العراق.
في هذه الرواية تجتمع قصتان؛ إحداهما إطارية هي قصة الحفيدة الكردية التي أخذتها الحياة الغربية فانقطعت صلاتها كلياً بموطن أجدادها في كردستان العراق. والقصة الأخرى ضمنية وهي عبارة عن مذكرات مخطوطة بقلم الجد المعلم أحمد آدم إبراهيم، وكتبها من أجل أن تكون طوق النجاة الذي به تتمسك الأجيال حين تجد نفسها بلا جذور، أو هي البوصلة التي بها تعرف الأجيال اتجاهها الصحيح فلا تضيع في المتاهات كإشارة - علنية أو رمزية - إلى أن للتوثيق التاريخي أهميته في الحفاظ على الهويات الاثنية من التهميش والضياع.
وبناء على نظرية بول ريكور للحاضر ثلاثي الأبعاد، يتخذ السرد منوالاً تاريخياً - اجتماعياً يجعل «السقائف الزرق» رواية تاريخ، بالافتتاح الاستهلالي أولاً (إذا لم يمكن بوسعك المشاركة في التاريخ فاكتب عنه وهذا ما فعلته) (ص 5)، وثانياً بالمكان/ مدينة العمادية محوراً يستقطب الدائرة الزمانية بكل ما لهذا المحور من تأريخ اجتماعي فيه أحداث وأجيال وهويات وطبقات وجغرافيا وأبنية وأزقة وصنائع وعادات... إلخ. فيتحول كل شيء مغمور في المدينة وفردي وصامت إلى حاضر اجتماعي يسير في مجرى التاريخ العام للبشرية، ويتولد من تمازج الواقع الاجتماعي بالمتخيل التاريخي شكل ذاكراتي (Geohistory) للرواية يسرد بضمير الأنا، وفيه تتجلى الهوية الكردية (لا أحد منا يعرف شيئاً مفصلاً عن التاريخ القديم لشعبه، لكننا نحاول أن نتوصل إلى أطراف الخيوط البعيدة عبر المصادر القديمة أو ما يتناقله الناس من جيل لآخر) (ص 155).
وهذه الصناعة السردية للهوية الاجتماعية من خلال التأرخة للوقائع، هو ما جعل بول ريكور يعجب بما صنعه تونبي في كتابته لتأريخ الحضارات مازجاً سرد الوقائع الاجتماعية بتأريخية الحقب الطويلة للأحداث والناس، فصار الزمان مسطوراً في المكان بالمناظر والفضاءات التي منها تشكلت الحضارات بصمت وبطء، كما أشاد ريكور أيضاً بعمل الروائي الفرنسي فرنان بروديل الموسوم «البحر الأبيض المتوسط»، كونه أرخ للعالم الفرانكفوني المتوسطي الذي عده ريكور أروع أعمال مدرسة الحوليات التي أسسها لوسيان فيفر ومارك بلوخ.
وإذا كان بطل بروديل هو البحر المتوسط، فإن بطلة «السقائف الزرق» هي مدينة العمادية التي شارك في صناعة تاريخها ساردون أربعة هم: «الحفيدة سولاف والجد أحمد آدم إبراهيم واليهودي عزرا والمسيحي متي»، وتغدو الحفيدة هي الحاضر، والأجداد الثلاثة هم الماضي المكتوب بشكل جماعي في صورة مذكرات مخطوطة بدأوا كتابتها من أواخر القرن التاسع عشر 1898، وانتهوا عند عام 1948 الذي فيه تغيرت خريطة العمادية فرحل اليهودي عزرا إلى أرض جديدة، وتأثر متي بحدث الهجرة الفجائي، فقرر التوقف عن الكتابة (أختم مذكراتي بحدث آلمني... فقد غادرنا عزرا ودون أن يودعنا... انفرطت زوايا المثلث)، ليكون الأمل معقوداً بالجد المسلم الذي واصل تدوين سيرة المدينة حتى أكملها ثم أودعها لدى أبنائه: «لقد كتبت كل ما أردت كتابته، وربما أنشره أو ينشر ذات يوم ليبقى شاهداً حياً على مدينتي» (ص 263).
وفي أثناء زيارة الابن المغترب في أميركا لأهله في كردستان إبان تسعينيات القرن الماضي، عثر على مخطوطة الجد واحتفظ بها في أميركا وستصل إلى يد الابنة سولاف التي وجدت في قراءتها للمخطوطة تأريخ أسلافها، فأدركت أنها كيان هجين بلا هوية (لم أهتم ذات يوم بالماضي أو بأصل أبي أو أمي ولم أسال من نحن؟ لكني ها أنا ألجأ للماضي بعدما أصبح حاضري خاوياً هشاً لأتمسك بالحياة من جديد أشعر بأني عصفورة تطير في سماء شاسعة) (ص 18) فتقرر العودة إلى العراق كي ترى ما كتبه جدها في مذكراته كواقع حي وحاضر ثلاثي الأبعاد متجسد في الأبنية والعادات والقبور والآثار والمدارس والجوامع والأزقة والجسور والقناطر والأغاني والأقمشة والسجاد وطقوس العرس والزواج والأسماء وغيرها.
وبذلك لا تكون المذكرات مجرد سيرة شخصية وإنما هي سيرة مدينة ممتدة من حقبة زمنية طويلة فيها المائة سنة حاضرة في السنة، والسنة في الشهور، والشهور في الأيام والساعات والدقائق التي تحتبك باستمرار في دائرة زمانية فيها المكان هو الأصل والفصل، وساعد في ذلك استعمال المؤلفة تقانة تعدد الأصوات السردية على مستوى القصة الضمنية، مما أعطى للتعدد الثقافي حضوراً مركزياً في الرواية من ناحية الهوية والدين واللغة والطقوس والعادات، التي فيها يتلخص بالعموم التأريخ المدينة الاجتماعي.
وبهذا أخذ السرد معناه الواسع بوصفه تاريخاً يقوم على معقولية الربط ما بين تحبيك الأحداث، وتوالي الأحداث من دون تحبيك، لا سيما حين يغيب صوت السارد الذاتي، ويحضر صوت الكاتبة، سواء في استعمال الشروحات الجغرافية أو في الاستطرادات الإخبارية التي فيها تضخ المؤلفة كثيراً من المعلومات الجيوبولتيكية حول معالم المدينة التاريخية مثل حديثها عن «دمدم»، القلعة التي لها قصة واقعية ترمز إلى كفاح الشعب الكردي ومقاومته للتسلط مقتبل القرن السابع، أو في تزويدها القارئ بمعلومات تقريرية وراهنة عن «جهود جامعة دهوك لوضع مدينة العمادية ضمن قائمة التراث العالمي بعد إجراء عدة دراسات وبحوث واعتبارها عاصمة آثار كردستان... ولهذا أجد من الضروري دراسة التراث الكردي ثقافة وعلماً، كتابة وتدويناً، لمآثر أجدادهم وأسلافهم العظام ونفض الغبار عن تراثهم الذي يعد تراثاً علمياً وأديباً عالمياً نادراً» (ص 69).
وقد أدركت المؤلفة تعثر التحبيك وتفكك السرد بسبب هذه التقريرية، فبررته بالقارئ الذي أرادت توصيل رسالتها التاريخية إليه: «أكتب عن مدينتي التي ولدت فيها ناسها وأديانها وتقاليدها، عن تاريخها الثقافي والجغرافي والزماني، فحضارة الإنسان بدأت بالكتابة، هم كثفوا الواقع والحلم معاً فوصلنا بهذه الطريقة ونحن أيضاً نكثفه بالكتابة ليصل إلى غيرنا مستقبلاً» (ص 118). ولكن هذا التبرير غير كافٍ ولا مقنع، إذ إن ممارسة العمل الروائي ينبغي أن تضمن التماسك الموضوعي والفني بحضور سارد يمسك بحبكة الصراع ويصعده باتجاه التأزم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التحبيك التأريخي انتهى بالرواية إلى ما أرادته المؤلفة وهو «وجه مضيء ووجه مظلم»، أو مثل «سفينة تيتانيك تمخر في عباب عتمة السماء» (ص 46)، أو «ظلال زرق مدت بخيوطها على أسطح البيوت فتشكلت لوحة فنية صاغتها أنامل الطبيعة... بدت العمادية مدينة من السقائف الزرق» (ص 142)، وبهذه الطريقة تكون رواية التاريخ أطروحة اجتماعية في شكل دائرة زمانية تتحرك داخل مكان هو مدينة لها سيرتها الاجتماعية والتاريخية العريقة جاذبة أهلها إليها انجذاباً زمانياً ثلاثي الأبعاد كشفت عنه الكاتبة كليزار أنور بكثير من التفنن السردي.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.