«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

كتابة التاريخ بالإفادة من مخزونات الذاكرة الجماعية

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين
TT

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

«السقائف الزرق»... صورة لمدينة كردستانية بوجهين

تتشكل عناصر المتن الروائي بأساليب سردية تتوافق مع ما يريده الروائي منها، لتأخذ أشكالاً عدة. وفي هذا التطويع للسرد الروائي دليل على قابليته للتداخل مع الفلسفة والنقد وفنون الأدب من شعر ومذكرات وتاريخ واجتماع، فيغدو الروائي كالمؤرخ أو كالباحث الاجتماعي يقيد بالسرد حياة الناس ووجوههم وطبائعهم وأصولهم، موثقاً كل شيء له تاريخ مادي أو غير مادي، يمكن تسجيله وحفظه. من هنا اتخذ القديس أوغسطين السرد ملجأ فيه اعترف بالذنوب والخطايا فتطهرت ذاته وبرأت ذمته وارتاح ضميره، واستعان سارتر بالرواية كي يعزز رؤاه الوجودية، وقبله فعل ذلك فولتير، كما طبق إمبرتو إيكو من خلال كتابة الرواية نظراته وتصوراته الفنية.
ويعني تطويع الرواية للتاريخ والاجتماع أن المتخيلين السردي والتاريخي - اللذين هما بؤرة تحبيك القص - قد امتزجا بالمتخيل الاجتماعي. وبهذا الامتزاج تتسع الغاية من وراء الرواية فلا تتحدد في إعادة كتابة التاريخ العام حسب، بل أيضاً صناعة التاريخ نفسه بالإفادة من مخزونات الذاكرة الجماعية أولاً، والإدراك العقلي لمنطقية التحبيك السردي ثانياً، وتوقع انتقال التأريخ شفاهياً جيلاً بعد جيل ثالثاً.
والمحصلة هي رواية التاريخ التي فيها تدور المتخيلات الثلاثة (التاريخي والاجتماعي والسردي) زمانياً، ما نجده متجسداً في رواية «السقائف الزرق» لكليزار أنور، الصادرة مؤخراً عن منشورات الاتحاد العام للأدباء في العراق.
في هذه الرواية تجتمع قصتان؛ إحداهما إطارية هي قصة الحفيدة الكردية التي أخذتها الحياة الغربية فانقطعت صلاتها كلياً بموطن أجدادها في كردستان العراق. والقصة الأخرى ضمنية وهي عبارة عن مذكرات مخطوطة بقلم الجد المعلم أحمد آدم إبراهيم، وكتبها من أجل أن تكون طوق النجاة الذي به تتمسك الأجيال حين تجد نفسها بلا جذور، أو هي البوصلة التي بها تعرف الأجيال اتجاهها الصحيح فلا تضيع في المتاهات كإشارة - علنية أو رمزية - إلى أن للتوثيق التاريخي أهميته في الحفاظ على الهويات الاثنية من التهميش والضياع.
وبناء على نظرية بول ريكور للحاضر ثلاثي الأبعاد، يتخذ السرد منوالاً تاريخياً - اجتماعياً يجعل «السقائف الزرق» رواية تاريخ، بالافتتاح الاستهلالي أولاً (إذا لم يمكن بوسعك المشاركة في التاريخ فاكتب عنه وهذا ما فعلته) (ص 5)، وثانياً بالمكان/ مدينة العمادية محوراً يستقطب الدائرة الزمانية بكل ما لهذا المحور من تأريخ اجتماعي فيه أحداث وأجيال وهويات وطبقات وجغرافيا وأبنية وأزقة وصنائع وعادات... إلخ. فيتحول كل شيء مغمور في المدينة وفردي وصامت إلى حاضر اجتماعي يسير في مجرى التاريخ العام للبشرية، ويتولد من تمازج الواقع الاجتماعي بالمتخيل التاريخي شكل ذاكراتي (Geohistory) للرواية يسرد بضمير الأنا، وفيه تتجلى الهوية الكردية (لا أحد منا يعرف شيئاً مفصلاً عن التاريخ القديم لشعبه، لكننا نحاول أن نتوصل إلى أطراف الخيوط البعيدة عبر المصادر القديمة أو ما يتناقله الناس من جيل لآخر) (ص 155).
وهذه الصناعة السردية للهوية الاجتماعية من خلال التأرخة للوقائع، هو ما جعل بول ريكور يعجب بما صنعه تونبي في كتابته لتأريخ الحضارات مازجاً سرد الوقائع الاجتماعية بتأريخية الحقب الطويلة للأحداث والناس، فصار الزمان مسطوراً في المكان بالمناظر والفضاءات التي منها تشكلت الحضارات بصمت وبطء، كما أشاد ريكور أيضاً بعمل الروائي الفرنسي فرنان بروديل الموسوم «البحر الأبيض المتوسط»، كونه أرخ للعالم الفرانكفوني المتوسطي الذي عده ريكور أروع أعمال مدرسة الحوليات التي أسسها لوسيان فيفر ومارك بلوخ.
وإذا كان بطل بروديل هو البحر المتوسط، فإن بطلة «السقائف الزرق» هي مدينة العمادية التي شارك في صناعة تاريخها ساردون أربعة هم: «الحفيدة سولاف والجد أحمد آدم إبراهيم واليهودي عزرا والمسيحي متي»، وتغدو الحفيدة هي الحاضر، والأجداد الثلاثة هم الماضي المكتوب بشكل جماعي في صورة مذكرات مخطوطة بدأوا كتابتها من أواخر القرن التاسع عشر 1898، وانتهوا عند عام 1948 الذي فيه تغيرت خريطة العمادية فرحل اليهودي عزرا إلى أرض جديدة، وتأثر متي بحدث الهجرة الفجائي، فقرر التوقف عن الكتابة (أختم مذكراتي بحدث آلمني... فقد غادرنا عزرا ودون أن يودعنا... انفرطت زوايا المثلث)، ليكون الأمل معقوداً بالجد المسلم الذي واصل تدوين سيرة المدينة حتى أكملها ثم أودعها لدى أبنائه: «لقد كتبت كل ما أردت كتابته، وربما أنشره أو ينشر ذات يوم ليبقى شاهداً حياً على مدينتي» (ص 263).
وفي أثناء زيارة الابن المغترب في أميركا لأهله في كردستان إبان تسعينيات القرن الماضي، عثر على مخطوطة الجد واحتفظ بها في أميركا وستصل إلى يد الابنة سولاف التي وجدت في قراءتها للمخطوطة تأريخ أسلافها، فأدركت أنها كيان هجين بلا هوية (لم أهتم ذات يوم بالماضي أو بأصل أبي أو أمي ولم أسال من نحن؟ لكني ها أنا ألجأ للماضي بعدما أصبح حاضري خاوياً هشاً لأتمسك بالحياة من جديد أشعر بأني عصفورة تطير في سماء شاسعة) (ص 18) فتقرر العودة إلى العراق كي ترى ما كتبه جدها في مذكراته كواقع حي وحاضر ثلاثي الأبعاد متجسد في الأبنية والعادات والقبور والآثار والمدارس والجوامع والأزقة والجسور والقناطر والأغاني والأقمشة والسجاد وطقوس العرس والزواج والأسماء وغيرها.
وبذلك لا تكون المذكرات مجرد سيرة شخصية وإنما هي سيرة مدينة ممتدة من حقبة زمنية طويلة فيها المائة سنة حاضرة في السنة، والسنة في الشهور، والشهور في الأيام والساعات والدقائق التي تحتبك باستمرار في دائرة زمانية فيها المكان هو الأصل والفصل، وساعد في ذلك استعمال المؤلفة تقانة تعدد الأصوات السردية على مستوى القصة الضمنية، مما أعطى للتعدد الثقافي حضوراً مركزياً في الرواية من ناحية الهوية والدين واللغة والطقوس والعادات، التي فيها يتلخص بالعموم التأريخ المدينة الاجتماعي.
وبهذا أخذ السرد معناه الواسع بوصفه تاريخاً يقوم على معقولية الربط ما بين تحبيك الأحداث، وتوالي الأحداث من دون تحبيك، لا سيما حين يغيب صوت السارد الذاتي، ويحضر صوت الكاتبة، سواء في استعمال الشروحات الجغرافية أو في الاستطرادات الإخبارية التي فيها تضخ المؤلفة كثيراً من المعلومات الجيوبولتيكية حول معالم المدينة التاريخية مثل حديثها عن «دمدم»، القلعة التي لها قصة واقعية ترمز إلى كفاح الشعب الكردي ومقاومته للتسلط مقتبل القرن السابع، أو في تزويدها القارئ بمعلومات تقريرية وراهنة عن «جهود جامعة دهوك لوضع مدينة العمادية ضمن قائمة التراث العالمي بعد إجراء عدة دراسات وبحوث واعتبارها عاصمة آثار كردستان... ولهذا أجد من الضروري دراسة التراث الكردي ثقافة وعلماً، كتابة وتدويناً، لمآثر أجدادهم وأسلافهم العظام ونفض الغبار عن تراثهم الذي يعد تراثاً علمياً وأديباً عالمياً نادراً» (ص 69).
وقد أدركت المؤلفة تعثر التحبيك وتفكك السرد بسبب هذه التقريرية، فبررته بالقارئ الذي أرادت توصيل رسالتها التاريخية إليه: «أكتب عن مدينتي التي ولدت فيها ناسها وأديانها وتقاليدها، عن تاريخها الثقافي والجغرافي والزماني، فحضارة الإنسان بدأت بالكتابة، هم كثفوا الواقع والحلم معاً فوصلنا بهذه الطريقة ونحن أيضاً نكثفه بالكتابة ليصل إلى غيرنا مستقبلاً» (ص 118). ولكن هذا التبرير غير كافٍ ولا مقنع، إذ إن ممارسة العمل الروائي ينبغي أن تضمن التماسك الموضوعي والفني بحضور سارد يمسك بحبكة الصراع ويصعده باتجاه التأزم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التحبيك التأريخي انتهى بالرواية إلى ما أرادته المؤلفة وهو «وجه مضيء ووجه مظلم»، أو مثل «سفينة تيتانيك تمخر في عباب عتمة السماء» (ص 46)، أو «ظلال زرق مدت بخيوطها على أسطح البيوت فتشكلت لوحة فنية صاغتها أنامل الطبيعة... بدت العمادية مدينة من السقائف الزرق» (ص 142)، وبهذه الطريقة تكون رواية التاريخ أطروحة اجتماعية في شكل دائرة زمانية تتحرك داخل مكان هو مدينة لها سيرتها الاجتماعية والتاريخية العريقة جاذبة أهلها إليها انجذاباً زمانياً ثلاثي الأبعاد كشفت عنه الكاتبة كليزار أنور بكثير من التفنن السردي.



علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.