الرواية والسينما لونان تعبيريان يتفقان ويختلفان في آن واحد. هذه ليست مفارقة، بل إنهما يلتقيان عند نقطة جوهرية تتمثل في السردية التي تصبغهما، ويختلفان من حيث تغير آلية الخطاب لا مضمونه. فهما يستخدمان السرد خطابًا ذا حمولات آيديولوجية، ويختلفان في كيفية تقديمه تبعًا لاختلاف آلية التعبير.
الرواية تصوير بالكلمات، وتعبير بالمجرد، بينما السينما عين مبصرة، وتجسيد للعالم. وتبعًا لهذه الخصوصية يحدث التقاؤهما في ما يعرف بـ«Adaptation»، أو نقل الرواية إلى السينما. فالرواية المكتوبة تتحول إلى شريط مرئي يجسد المجرد برؤية تأتي أحيانًا مغايرة لرؤية الرواية.
في نظرية العلاقة بين الرواية والسينما تفريعات كثيرة عن كيفية تطويع الرواية ذات البعد المجرد إلى نص سينمائي قوامه الحركة وغايته تجسيد العالم الروائي، عبر تقديم الشخصيات والأشياء والأمكنة والأزمنة.
في أول مستوى من مستويات العلاقة بين الرواية والسينما، يظهر ما يعرف (بالدقة أو الأمانة في النقل)، والمقصود مراعاة الدقة قي نقل تفاصيل العمل الروائي من حيث الأمكنة والشخصيات وخط السرد وتناميه والرسالة العامة التي تقدمها الرواية. وهو شرط عند أصحاب هذا التوجه يجب التقيد به أثناء نقل الرواية إلى السينما، أو بمعنى أكثر دقة الحفاظ على تماسك النص الروائي في الفيلم.
وحقيقة الأمر أن هذه الملاحظات تغفل عن حقيقة جوهرية، وهي اختلاف وسائل التعبير بين الرواية والسينما. فعلى الرغم من الاتفاق في الجوهر، فإن الاختلاف في كيفية عرض هذا الجوهر هو ما يميز السينما عن الرواية. إذن، نحن أمام إشكالية التعبير بالكلمة والصورة.
الكلمة عالم من المجردات الذهنية، بينما الصورة عالم حسي بصري. وهذا الاختلاف يتبعه بالضرورة اختلاف في التلقي. فقارئ الرواية ذهني الوظيفة، متخيل، ثم مؤول، بينما المشاهد، بصري الوظيفة، واقعي، ثم مؤول. وعليه فإن آلية العلاقة بين الرواية والسينما هي علاقة اختزال المكتوب إلى صورة. وهذا الاختزال ينتج عنه الاستغناء بالصورة ومدى شموليتها عن الوصف السردي المسهب في الرواية. وهنا تكمن مشكلة التلقي في عدم فهم طبيعة التعبير في كل من الرواية والسينما.
وفي السياق ذاته، فإن الرواية قد تتعرض لما هو أخطر، فكثيرًا ما تقع الرواية عند نقلها إلى السينما تحت تأثيرات آيديولوجية عميقة تتبدل معها كثير من التفاصيل والشخصيات، وأحيانًا تتغير رؤية الرواية بالكامل. هنا تصبح العلاقة أبعد من تغير في آلية التعبير، إلى تغير في البنية نظرًا لمؤثرات خارجية لا تحكمها العلاقة الآنية بين النصين، بل تحكمها معضلة السياق الخارجي. فبعض الأفلام المنقولة عن نصوص روائية تضطر لأسباب خارجية، سياسية أو دينية أو اجتماعية، إلى الاستغناء عن بعض الشخصيات أو الأحداث أو المواقف، أو زيادة شخصيات وحوادث، أو تغيير جوهر بعض الشخصيات والحوادث. وهذا يتطلب إعادة صياغة للنص الروائي تتجاوز المعطيات الضرورية السابقة، مثل الاختزال والتكثيف والتقديم والتأخير إلى التغيير في مسار الأحداث أو اقتراح نهاية بديلة تقدم رؤية تتفق مع الواقع أثناء إنتاج الفيلم.
* تجربة نجيب محفوظ
* للاقتراب أكثر من كشف إشكالية التغيير تحت تأثير آيديولوجي، نناقش العلاقة بين رواية نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة» وفيلم «القاهرة 30» المأخوذ عن الرواية. لقد أعيد بناء النص الروائي في الفيلم لمقتضيات خارجية تعود لاختلاف زمن ظهور العملين. فقد تم إنتاج «القاهرة 30» في عام 1966، بينما أصدر نجيب محفوظ روايته «القاهرة الجديدة» في عام 1945. والإشارة إلى التاريخين؛ تاريخ صدور الرواية وتاريخ إنتاج الفيلم، تعد مدخلا لفهم أساب التغييرات التي وقعت في الفيلم.
نشير إلى أن فيلم «القاهرة 30» هو أول فيلم مأخوذ عن روايات نجيب محفوظ. الأمر الثاني أن السينما ظلت بعيدة عن أعمال نجيب محفوظ سنوات طويلة، ولم تلتفت إليها إلا بعد الشهرة الواسعة التي حققها محفوظ بعد نشر رواية الثلاثية في منتصف الخمسينات الميلادية. ومنذ إخراج فيلم «القاهرة 30» في عام 1966 اندفع السينمائي لالتقاط أعمال محفوظ الروائية، حتى إن بعض رواياته قدمت في السينما أكثر من مرة، مثل رواية «اللص والكلاب» التي قدمت مرتين، وملحمة «الحرافيش» التي قدمت عبر سبعة أفلام كان آخرها فيلم «الجوع».
فيلم «القاهرة 30» مأخوذ عن رواية القاهرة الجديدة، التي تدور أحداثها من خلال عرض لمسيرة أربع شخصيات هم محجوب الذي شكل الفقر أزمته الأخلاقية مع نفسه ومع مجتمعه، وأحمد الصحافي الانتهازي، وعلي طه الاشتراكي، ومأمون المنتمي للتيار الإخواني.
شكل مجتمع القاهرة والفساد السياسي في قاهرة الثلاثينات مادة الرواية. فالرواية نقد للسلطة الحاكمة في مصر الثلاثينات وما تركته من آثار سلبية على المجتمع. لقد أبرز محفوظ مستوى تفسخ المجتمع من خلال محجوب، الذي انحرف ورضي بالفساد الأخلاقي نتيجة للفقر من ناحية، واستعداده للخروج من أزمته بأي ثمن. وبالتالي فهو يمثل المدى الذي وصل إليه الفساد في عصره.
أما شخصيتا علي طه الاشتراكي ومأمون الإخواني فهما تجسدان البعد الفكري والآيديولوجي في مواجهة الفساد كل على طريقته، وتنتهي الرواية وهما لا يملكان من التغيير غير إنكار الواقع وإدانته. لقد تنبه نجيب محفوظ للصراع الخفي في حقبة الثلاثينات الميلادية بين الاشتراكيين و«الإخوان»، وهو اختلاف آيديولوجي سيتطور في الحقبة الناصرية إلى صراع سياسي ينتهي بإقصاء «الإخوان» من الساحة السياسية، والإعلاء من النهج الاشتراكي وجعله شريعة الدولة وبرنامجها الإصلاحي والاقتصادي.
من هنا يبدأ الفيلم بناءه للنص الروائي. إذ اهتم كثيرًا ببيان فساد الحقبة السابقة، وهي إشارة لفساد العصر الملكي، وفي الوقت نفسه التأكيد على نزاهة الثورة، وما تعد به من بناء إنساني وأخلاقي للمجتمع في الحقبة الناصرية.
من هنا تظهر التأثيرات الآيديولوجية في بناء النص السينمائي لفيلم «القاهرة 30». فالبيئة السياسية التي أنتج فيها الفيلم بيئة تتخذ من النهج الاشتراكي نظامًا سياسيًا واقتصاديًا، وهو بعد يتكئ على عقيدة تجرم عصر ما قبل الثورة، ووراء هذا الموقف ماكينة إعلامية ضخمة غذت الشعور بفساد العصر السابق، وفي المقابل أكدت على نزاهة وأخلاقية العهد الناصري.
حافظ الفيلم على زمنية الأحداث وانتمائها لفترة الثلاثينات، لكنه في المقابل لم يستطع أن يستوعب الرواية بكامل أحداثها وشخصياتها ورؤيتها، فحضر دور المخرج الانتقائي، رغبة في مواكبة عصره، أو عصر إنتاج الفيلم في فترة الستينات. فبعد ثلاثين عامًا تتغير التركيبة السياسية، وتحل المتغيرات التي تقترح أن الحل الاشتراكي هو الحل الوحيد الذي قاوم الفساد في العهد السابق للثورة، وأن التركيبة السياسية في العهد الناصري لها أصولها الفكرية، وليست مجرد حركة عسكرية، بل هي تتويج لنضالات فكرية في وجه الفساد في ما قبل الثورة. إن الفيلم، بهذا المعنى، مديح للحقبة الناصرية، على حساب الرواية ورؤيتها.
لم تكن رؤية المخرج محايدة في هذا الفيلم، بل كان متبنيًا لوجهة نظر الثورة، وخرج من الموقف الفني إلى الموقف السياسي الآيديولوجي، فاختلت العلاقة بين الرواية والفيلم، وحدث بينهما طلاق في الرؤية أولاً، وفي العنصر المكون للرواية ثانيًا. لقد غيّب الفيلم شخصية مأمون الإخواني عن الأحداث، وهو تغييب مثّل مأزقًا بالنسبة لصانع الفيلم، حيث خالف رؤية الرواية التي تقوم على تأكيد قدم التباين الفكري والآيديولوجي في مصر، وهو ضرورة تراها الرواية كأحد منطلقات الحل الديمقراطي الذي تنادي به الرواية. وهي رؤية لم يستطع الفيلم الحفاظ عليها، ذلك أن نجيب محفوظ وهو يطرح شخصية مأمون في مقابل شخصية علي طه يطرحهما كجزء من جدل مستديم ينم عن قبول التكافؤ في جو ديمقراطي، فهو جدل فكري يجب أن يبقى حسب رؤية الرواية عند حدود التعايش. فالإسلام والاشتراكية كما يقدمهما مأمون وعلي طه نموذجان لحل مشكلات المجتمع الذي يختار ما يراه لا ما يفرض عليه. لكن الفيلم يخالف رؤية الرواية ويقدم الرؤية السائدة وهي غلبة الحل الاشتراكي، وبالتالي إلغاء الحل الديمقراطي وإحلال سلطة النموذج الأوحد. في ظل سياسية النموذج الأوحد، يتم آليًا تغييب التصور الإسلامي، من خلال تغييب شخصية مأمون الإخواني لعدم ملاءمتها للواقع السياسي والاجتماعي في مصر في الحقبة الناصرية. وهو تغييب منطقي عطفًا على غياب الجو الديمقراطي الذي يقبل طرح كل الأفكار، وترك حرية الاختيار مفتوحة. لقد أذعن الفيلم لشرط الواقع على حساب شرط الفن. فهل هي قناعة مخرج الفيلم أم سلطة الواقع السياسي في المجتمع؟ قد نتجادل حول قصدية صاحب الفيلم، لكننا لا نجد حرجًا في تأكيد غلبة التأثيرات الخارجية على نقل الرواية إلى السينما.
إننا عندما نشاهد الفيلم بعد قراءة الرواية، نتساءل: هل من مصلحة الفن أن يؤدلج، وأن يُرهن لرؤية سياسية محددة، تنتهي بانتهاء عصرها؟ وهل من حق صانع الفيلم أن يُحور في الرواية للتعبير عن قناعاته أو قناعة عصره بعيدًا عن مضمون وروح الرواية؟ ولماذا يلجأ المخرجون إلى روايات يتم تغيير رؤيتها جزئيًا أو كليًا؟ هل هو استثمار لنجاح الرواية، أم استثمار لشهرة كاتبها، أم أنها إملاءات خارجية وضغوط لا تقاوم؟
أعتقد أننا أمام إشكالية من نوع خاص. فمن حيث المبدأ، من حق السينمائي أن يترك بصمته على فيلمه لا أن يكون تابعًا لرؤية الرواية. لكن هذا الحق ليس مطلقًا، بل مقيد بشرط معرفة أبعاد الرواية وظروف تكوينها والتفاعل معها بما يحفظ لها روحها. هناك مخرجون يرضون بنقل الرواية كما هي بمضمونها ورؤيتها وأحداثها من دون زيادة أو نقصان، لكن وفقًا لجماليات السينما، وهناك مخرجون يسعون لإضفاء شخصياتهم الفنية على الأعمال التي ينقلون إلى السينما، لكن هذه البصمة يجب ألا تطمس معالم النص الأصلي، بل تبقى الحدود بينة والأبعاد مرسومة. ومن هنا فإن فيلم «القاهرة 30» على الرغم من الجهد السينمائي المبذول في صناعته كان موجهًا، وغير محايد، وألغى الصراع الآيديولوجي في الرواية، وحسمه لصالح الواقع عندما تبنى الموقف الرسمي للصراع.
* العلاقة المضطربة بين الرواية والسينما
* ما هو البديل إذن لهذه العلاقة المضطربة بين الرواية والسينما؟
قدم أصحاب نظرية العلاقة بين الرواية والسينما بديلاً لتجاوز هذه الإشكالية وهو التناص. لقد وجدوا في التناص مدخلاً مهمًا للنظر بعمق إلى مستوى هذه العلاقة، حيث رأوا أن هذا العلاقة قد تتجاوز مراعاة آليات التعبير بين الرواية والسينما، من حيث التكثيف والاختزال والتقديم والتأخير، وتتجاوز سلبية التأثيرات الآيديولوجية بوصفها تعديًا صارخًا ونقلاً غير أمين لروح الرواية. فمن منظور التناص يحافظ صانع الفيلم على الرؤية الأساسية للرواية مع حرية كاملة في اتخاذ الرواية مرجعًا ينطلق منه إلى فضاءات تسمح له باقتراح أحداث بديلة، أو تقديم شخصيات أخرى، أو تغييب شخصيات لأغراض جمالية، لا لأغراض آيديولوجية. إن العلاقة بين الرواية والسينما هي علاقة مستفيد بمرجع، حيث تغيب معالم الرواية الأساسية وتبقى روحها. فالدقة في النقل ومحاكاة الرواية شخصية بشخصية، وحدثًا بحدث، وموضوعًا بموضوع، لم تعد شرطًا في هذه العلاقة.
* مقتطفات واسعة من ورقة تحمل عنوان «آيديولوجية الخطاب بين الرواية والسينما» قدمها الدكتور حسن النعمي في جمعية الثقافة والفنون بالدمام (السعودية) مساء 20 مايو (أيار) 2015