برلين... عالم جديد وافد من أوكرانيا يحمل بصمات بوتين

«الشرق الأوسط» زارت الجدار القديم في قارة تتخوف من الجدار الجديد

مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
TT

برلين... عالم جديد وافد من أوكرانيا يحمل بصمات بوتين

مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)
مظاهرة أمام بوابة براندنبرغ وسط برلين ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (إ.ب.أ)

الصحافيون كحفاري القبور. يعتاشون من مآسي العالم. يحلمون بالحضور عند المنعطفات. ومن عادة هذه الأحداث الكبرى أن تكون مبللة بالدم وباهظة للاقتصاد ومنجبة للاجئين. يبتهج الصحافيون بالكتابة من مسرح الزلازل. وها أنا أفعل. بعد قليل من وصولي إلى برلين شممت «نهاية حقبة». ختام فصل من عمر أوروبا والعالم. وولادة فصل يحمل بصمات القيصر الجالس على عرش لينين.
قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، أوفدتني «الشرق الأوسط» إلى هذا المكان. شهدت مع جيش من الصحافيين احتضار أشهر جنرالات النصف الثاني من القرن الماضي. كان اسمه جدار برلين. وتقول التجارب إن الصحافيين يحنّون إلى مسارح الهزات العنيفة كما يحن المرتكب إلى مسرح جريمته. ربما لهذا اصطحبت حقيبتي إلى تلك المدينة. ولعلني كنت مدفوعاً بالرغبة في مشاهدة نهايات العالم الذي ولد من انهيار ذلك الجدار.

              صورة أرشيفية لألمان شرقيين ونظرائهم الغربيين قرب بوابة براندنبرغ في برلين أثناء الاحتفال بسقوط الجدارالفاصل عام 1989 (أ.ف.ب)
حين نمت قرب الجدار في 1989، لم أكن أعرف اسم الرجل الذي يقولون اليوم إنه قتل عالَماً وأعلن ولادة آخر. ولم يكن ثمة ما يبرر أن أعرف اسمه. كان رجلاً مجهولاً يعمل في جهاز غامض ويعيش باسم مستعار. وكانت مهمته شائكة. كشف جواسيس وتطويع جواسيس. وكان مدرباً على نشاطات حساسة. الإفلات من الرقابة أو الملاحقة. والكتابة بالحبر السري. والقدرة على تسديد ضربات موجعة إذا اقتضى الأمر. كان الكولونيل يقيم في درسدن، أي في بلاد «الرفاق» في ألمانيا الشرقية. وحين تداعى الجدار أحرق بعض الأوراق وغادر عائداً مع خيبته لينتظر التوجيهات الجديدة من رؤسائه في إمبراطورية «كي جي بي». وستُضاف إلى الخيبة جروح عميقة حين تطل روسيا من الركام السوفياتي وتخونها جمهوريات كثيرة كانت تقيم في قبضة الحزب. كان اسم الكولونيل المجهول فلاديمير بوتين، وسننفق في القرن الجديد آلاف الساعات في رصد خطواته والبحث عن بصماته.
في أيام الزلزال القديم كان من الصعب تخيل العواقب بدقة. التهمتني الأسئلة. الجدار حدود دولة وحدود إمبراطورية. ويصعب تخيل انتحار إمبراطورية كاملة من دون حرب عالمية أو وجبة دموية هائلة. قبل ثلاثة أعوام من ذلك الموعد، وتحديداً في 1986، تيسر لي أن أعاين أركان الإمبراطورية مع أوسمتهم وهالاتهم تحت سقف واحد هو سقف الكرملين. ذهبت لتغطية أعمال المؤتمر الـ27 للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي كان مقرراً أن يشهد إطلالة ميخائيل غورباتشوف الأولى على الإمبراطورية والعالم.

                                                               رسمة لبوتين على الأرض في برلين (الشرق الأوسط)
كان الدخول إلى قاعة المؤتمر محظوراً على الصحافيين، لكن قيادياً فلسطينياً يسارياً أعارني بطاقته فتسللت إلى حيث احتشد أكثر من ألفي مندوب. جلست قلقاً من أن أطرد إذا اكتُشف أمري. لكن الحدث كان يستحق. كان مشهد المنصة مهيباً. في الوسط جلس غورباتشوف وقربه بعض الأركان بينهم أندريه غروميكو، ثم قادة أوروبا الشرقية وقادة الدول الصديقة. صفق الحاضرون بإجلال لرجلين، الأول غورباتشوف والثاني فيديل كاسترو، الذي جاء مع تاريخه ولحيته وثيابه الزيتونية. وفي تلك الجلسة، ألقى الزعيم السوفياتي قنبلتين ستنفجران ببلاده، وهما «البيريسترويكا» و«الغلاسنوست»، أي إعادة البناء والشفافية. وفي تلك الأيام لم يكن أحد يتحدث عن الضابط المجهول الذي يحب أفلام جيمس بوند.
في السنة الأولى من تسعينات القرن الماضي سيتطاير لحم الاتحاد السوفياتي، وفي اليوم الأخير من العقد سيطل فلاديمير بوتين من الكرملين حاملاً مشروع ثأر يقولون إنه طبخ في الغرفة العسكرية - الأمنية التي هالها إذلال روسيا وبتر أطرافها السوفياتية. ولد مشروع الثأر الكبير من معاناة ومشاهد. التدهور الاقتصادي وانخفاض الروبل. وإقدام ضباط «الجيش الأحمر» على بيع بزاتهم مع أوسمتها في شوارع المدن. وترنح حكم بوريس يلتسين على أنغام الفساد. وشعور روسيا بالإذلال والحصار بعدما بات السفير الأميركي الرجل الأقوى في البلاد، واعتبر أن من حقه مطالبة بلاد لينين باعتناق النموذج الغربي الذي هزمها.
كان لا بد من العودة إلى برلين. أعلن زلزال الجدار ولادة عالم جديد. عالم القوة العظمى الوحيدة والانتصار الأميركي الفاحش. وثمة من يرى أن الزلزال الأوكراني يعلن اليوم احتضار ذلك العالم وولادة عالم جديد يحمل بصمات بوتين.
أطلق النار على «القرية الكونية»

                                                                   احتجاج فردي على الحرب في أوكرانيا (الشرق الأوسط)
برلين مكان حساس لقراءة عبء الحرب الروسية في أوكرانيا. ومن المبكر التكهن بما ستؤول إليه المغامرة الروسية. واضح أن بوتين سدد ضربة شبه قاتلة إلى العالم الذي بني على ركام الاتحاد السوفياتي. ثمة من يعتقد أن اجتياز الدبابات الروسية الحدود الدولية مع أوكرانيا أعلن نهاية الاستقرار الذي حمله عالم ما بعد سقوط الجدار. فالحرب الروسية في أوكرانيا أخطر بكثير من التحديات الدموية التي شهدها العالم في العقدين الماضيين. ما فعله بوتين أخطر بما لا يقاس مما فعله أسامة بن لادن، حين نقل حرب الإرهاب إلى الأرض الأميركية. وأخطر بكثير مما فعله أبو بكر البغدادي حين أطل من الموصل فاتحاً الباب لـ«دولة الخلافة» والتجربة الدموية التي أعقبتها. الاجتياح الروسي لأوكرانيا أخطر أيضاً من حرب أميركا في أفغانستان والعراق. والسبب بسيط. لقد هزت حرب بوتين في أوكرانيا دعائم النظام الدولي. فبعد هذه الحرب لن تكون أوروبا ما كانت عليه، ويصدق الأمر نفسه على العالم بأسره.
نحن في الطريق إلى عالم جديد. يراهن كثيرون أنه سيكون عالماً متعدد الأقطاب، لافتين إلى أن حرب أوكرانيا ما كانت لتقع لولا تزايد الشعور ببدايات غروب العصر الأميركي. وهناك من يرى أن أميركا باتت عاجزة عن لعب دور الشرطي على امتداد العالم. ويضيف هؤلاء أن أميركا لم تعد قادرة أيضاً على الادعاء أن النموذج الغربي هو الممر الوحيد والإلزامي للتقدم التكنولوجي ومكافحة الفقر بعد تجارب الصين ودول أخرى. لقد أطلق بوتين النار على مرتكزات «القرية الكونية».
الأكيد هو أن الحرب في أوكرانيا فرضت تعديلاً كبيراً على لائحة الأولويات الغربية. كانت أميركا تتحرك لتركيز سياستها وقدراتها على احتواء الصعود الصيني. بدأ الحديث جدياً أن الحزب الشيوعي الصيني هو المنافس الأخطر إذا تم تفادي تسميته العدو الأول. فجأة دقت أجراس الإنذار في عواصم حلف الأطلسي. الخطر الروسي يقرع الأبواب الأوروبية ويعيد إيقاظ أشباح كانت القارة القديمة اعتبرت أنها دفنتها إلى غير رجعة.
أصاب المشهد الأوروبيين بالذهول. ملايين اللاجئين الأوكرانيين يتوزعون على البلدان الأوروبية المجاورة. مشاهد غير مألوفة لم تعرف أوروبا مثيلاً لها حتى في ذروة الانفجار اليوغوسلافي. ذهب الرئيس الروسي في الحرب إلى حد يتعذر عليه العودة منها من دون إنجاز انقلاب يفوق قدرة الغرب على الاحتمال. لا يستطيع بوتين أن يرجع خاسراً. ولا يستطيع الغرب رؤيته منتصراً. وقع العالم في فخ كبير. يراقب الأوروبيون بقلق قيام دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بفرض جراحة قسرية على خريطة دولة أوروبية مستقلة. الحرب الحالية في أوكرانيا أخطر بكثير من استعادة روسيا القرم في 2014. أخطر بكثير أيضاً من التدخل العسكري الروسي في سوريا في السنة التالية.
عالم متعدد الأقطاب. لكن ماذا لو أدمت العقوبات الغربية غير المسبوقة الاقتصاد الروسي؟ وفي هذه الحال هل يتراجع موقع روسيا لتتكرس ثنائية التنافس الأميركي - الصيني؟ وهل سيضطر بوتين إلى أن يكون الأخ الأصغر في التحالف الروسي - الصيني؟

                                          غيرت الحرب مواقف ألمان كثر مثل ديتر غروسمان (الشرق الأوسط)
السائق الألماني لا يريده أن ينتصر
أسئلة أخرى. هل يمكن أن تحقق الحرب عكس ما أراده بوتين؟ هل تؤدي التجربة الدموية في أوكرانيا إلى تجديد شباب حلف «الناتو» وتوسيع حضوره بانضمام السويد وفنلندا إلى صفوفه؟ وهل ستنخرط روسيا في سباق تسلح كذلك الذي أنهك الاتحاد السوفياتي؟ لقد تغيرت أوروبا. دولها تزيد إنفاقها الدفاعي. وألمانيا التي أقامت طويلاً تحت مظلة التردد والحذر كسرت حاجز الخوف. أرسلت أسلحة إلى أوكرانيا، وأقرت مبلغ مائة مليار يورو كإنفاق دفاعي إضافي. وأمام السخاء الأميركي الواضح في دعم أوكرانيا، عاد الأوروبيون إلى الاعتقاد أن لا غنى لهم عن الجنرال الأميركي حين تحدق بأوروبا أخطار كبرى.
كنت أقلب هذه الأسئلة حين قررت القيام بجولة ليلية في برلين. سألني السائق إن كنت سائحاً، فتذكرت أن الصحافيين هم من أسوأ أنواع السياح. كلما نزلوا في مدينة يحاولون التعرف على أوجاعها ومكان الخطر في حياتها. استوقفني أنه ألماني وأنه يراهن دائماً على نقل السياح. ولأن السائق هو عادة دفتر المدينة قلت أسأله عن الموضوع الذي جئت من أجله.
اسمه ديتر غروسمان. لم يكن يتوقع على الإطلاق أن يرى تدفق مئات آلاف اللاجئين الأوروبيين على بلاده. يتذكر تدفق مئات آلاف اللاجئين السوريين «لكنهم جاؤوا من منطقة بعيدة». ربما كان يقصد أنهم جاؤوا من عالم آخر يصر على إنجاب اللاجئين. قال: «نحن تجربتنا مريرة. كنت أعارض إرسال أسلحة ألمانية إلى أي بقعة في العالم. لا أريد أن تنخرط ألمانيا في نزاعات. يكفيها كم دفعت في القرن الماضي. لكنني اليوم أؤيد إرسال أسلحة إلى أوكرانيا بعدما شاهدت على الشاشات ما تفعله القوات الروسية هناك. طبعاً من دون الانخراط مباشرة في المواجهة العسكرية».
وأضاف: «الحقيقة هي أنني خدعت كما خدعت معظم الدول الأوروبية. كنت ساذجاً. اعتقدت أن بوتين يريد استعادة قوة بلاده لكن ضمن حدودها، وأنه سيركز جهده على تنمية اقتصادها. لدي قناعة راسخة أن بوتين يجب أن يخسر الحرب. لا نريد العيش في عالم يقوده أمثال بوتين و(رجب طيب) إردوغان. يجب أن يخسر كي لا يكرر التجربة في مكان آخر. لم أكن مؤيداً لزيادة الإنفاق على التسلح لكنني الآن غيرت موقفي تماماً».
قال ديتر إنه «يكن تقديراً عميقاً للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل. كانت فترة حكمها الطويلة فترة استقرار وازدهار. كانت صاحبة موقع مميز أوروبياً ودولياً وكانت نزيهة وتحظى بتأييد واسع. استغرب أن لقاءاتها المتكررة مع بوتين لم تمكنها من قراءة نياته الحقيقية. أنا يحق لي أن أكون ساذجاً لكن لا يحق للحاكم أن يكون كذلك. لقد تركت ألمانيا تعتمد بنسبة تزيد على ستين في المائة على الغاز الروسي وهو حيوي للتدفئة والصناعة. لا يجوز ترك مصير ألمانيا في عهدة رجل أظهرت حرب أوكرانيا أنه مريض وشديد الخطورة. ها نحن نعود إلى القلق. والفواتير ترتفع. وقد تكون مشكلة ألمانيا أقل من مشاكل بولندا ودول البلطيق». وأضاف: «أنا أكره الحرب. دفعنا الثمن غالياً. والدي قاتل في القرم وسانت بطرسبرغ في أيام هتلر. وعانى جيلنا طويلاً من الاتهامات والإرث. لا نريد الحرب لكنني أشعر أن أوروبا لن تكون آمنة إذا انتصر بوتين. العالم نفسه لن يكون آمناً».
لم ينكر وجود انقسام في الرأي العام الألماني حول درجة دعم أوكرانيا بالسلاح. وختم: «فوجئت بالصلابة التي أبداها الأوكرانيون. يستحقون الدعم. وفاجأني أن يقف الرئيس زيلينسكي بشجاعة وبراعة في وجه الرئيس الروسي وآلته العسكرية والإعلامية».
صورة السيد الرئيس
على مسافة مئات الأمتار من الفندق يرفرف علم أوكراني. فاجأني وجود صور لبوتين ملقاة أرضاً وعلى مقربة منها سيدة ترفع لافتة تندد بقتل الأطفال والنساء في أوكرانيا. خلتها أوكرانية للوهلة الأولى. وحين سألت قالت إنها متطوعة ألمانية تتحرك بمبادرة فردية ضد «الجريمة التي تنفذ على أرض أوكرانيا». استفسرت عن صور بوتين فأجابت: «هذا مكانها الطبيعي في ضوء تصرفاته. إنه رجل شديد الخطورة على العالم. السكوت يعني تكرار التجارب التي قتلت شعوباً بكاملها».
لم أكن أتوقع أن تبادر سيدة ألمانية إلى إلقاء صور بوتين في الشارع لتعريضها لإهانات من قبل العابرين. فاجأ بوتين كل الذي راهنوا على براعته في تفادي توريط بلاده وتوريط العالم معها. اعتقدت أسوة بكثيرين أنه سيحرك قواته على حدود أوكرانيا لإثارة الخوف من حرب لن تقع ولن يقع فيها. وأنه سيرجع من المناورات ببعض المكاسب والتطمينات.
أحزان الزائر الأوروبي
على شرفة الفندق المقابلة لبوابة براندنبرغ نزل الليل لطيفاً. كنت أراجع ما سمعته أثناء النهار. لفتني رجل يجلس قريباً مكتفياً بالتحديق في البوابة والعابرين. وحين تسلل شيء من البرد إلى الطقس طلب كأساً جديداً ليحتمي منه. ولأن الصحافي مزعج بطبيعته قلت أخترق عزلته وأطرح عليه الأسئلة نفسها.
فوجئ السيد هنري بمبادرتي. قال إنه أمضى العمر مجهولاً ولم يشاهد اسمه أو صورته في صحيفة ولن يغير عادته. ثم استدرك أنه لا يمانع أن نتبادل الحديث كنزيلين في الفندق نفسه. قال: «أنا فرنسي لكنني أوروبي بالقدر نفسه. أحب برلين وأزورها بين وقت وآخر. لهذه الزيارة طعم مختلف. أعتقد أننا نتجه إلى أيام أوروبية سيئة. المسألة أكبر من ارتفاع أسعار السلع الغذائية وفواتير التدفئة. فكرة أوروبا نفسها مطروحة على الطاولة. كانت دول القارة تستعد لإنفاق المزيد على جهود البيئة والمناخ والتعليم والابتكار، وها هي تقرر إنفاق المزيد على الدبابات والمسيّرات والصواريخ. هذا تغيير كبير جداً».
وأضاف: «لم أكن يوماً معجباً بالسياسة الأميركية. وأعتقد أنه كان من واجب أميركا أن تدس بعض الماء في نبيذ نشوتها بانهيار الاتحاد السوفياتي، وأن تراعي مشاعر روسيا الطبيعية منها والمصطنعة. لم تفعل. ربما لذلك كان لدي قدر من التعاطف مع بوتين. لم أتوقع أبداً أن يتسبب في هذه المأساة. أعتقد أن اقتصاد بلاده سيدفع غالياً ثمن مغامرته. ستزداد حياة الروس صعوبة وستتخلف بلادهم عن ركب التقدم التكنولوجي، وستترسخ كراهية الغرب في نفوسهم وهي موجودة أصلاً. إننا لا نتحدث عن كوريا الشمالية أو إيران. إننا نتحدث عن أمة عظيمة اسمها روسيا فرضت الجغرافيا على أوروبا أن تتعايش معها».
ورأى أن «نجاح بوتين في تحطيم أوكرانيا لا يعد انتصاراً في المدى البعيد. أعتقد أن الصين قد تكون الرابح الكبير إذا استمرت في إدارة موقفها من الأزمة من دون الوقوع في الاستقطاب. كان على بوتين أن يفكر ملياً لماذا لم تحاول الصين استرجاع تايوان بالقوة. أنهكت (كورونا) العالم وها هي الحرب في أوكرانيا تضاعف مآسيه».
وختم قائلاً: «أنا متشائم فقد تكون الأيام الأوروبية الجميلة انتهت. وعلينا ألا ننسى أننا فيما نتكلم على شرفة فندق جميل، هناك أم أوكرانية تبكي على ابنها أو بيتها. وهناك أم روسية استقبلت جثمان ابنها الجندي العائد في نعش من أوكرانيا. هذه المشاهد ستغير أوروبا وتغير معها العالم».
ما أصعب النوم قرب المكان الذي توارى منه جدار برلين. وما أصعب التكهن ما إذا كانت الحرب الروسية ستؤدي إلى قيام جدار يقسم أوكرانيا على غرار ما فعله الجدار السابق بألمانيا. إذا كان صحيحاً أن الغرب اتخذ قراراً حاسماً بمنع بوتين من الخروج منتصراً من حربه الحالية، فإننا سندفع بالتأكيد ثمن الاستنزاف المتسارع في أوكرانستان.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!