استعادة زكي نجيب محمود ليناقش معضلات راهنة

«المجلة» المصرية في عدد شهري متميز وغني

غلاف «المجلة»
غلاف «المجلة»
TT

استعادة زكي نجيب محمود ليناقش معضلات راهنة

غلاف «المجلة»
غلاف «المجلة»

حفل عدد مايو (أيار) الحالي من مجلة «المجلة» المصرية بالعديد من المواد الثقافية المهمة، من أبرزها مقال لأستاذ الفلسفة الشهير الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، عن المفكر الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، بعنوان: «زكي نجيب محمود.. بين الموت والخلود». يكشف المقال في ومضات خاطفة، ومن خلال وقائع وذكريات خاصة، أهمية التراث الفكري والفلسفي لزكي نجيب محمود، بوصفه أحد التنويريين العظام الذين لم يتزمتوا لمذهب معين، بل اتخذوا من العلم منارة مفتوحة لاستجلاء وجه الحقيقة، وهو مما جعل فكره خالدا، ممتدا في الزمان والمكان. ويدلل إمام على ذلك بتحليل زكي نجيب المبكر في كتاباته عن مفهوم التطرف الديني، الذي يرى فيه أن السمة الأساسية للمتطرف، هو أن يقوم بإرهاب الآخرين؛ لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، موضحا أن «في ذلك الإرهاب يكمن جوهر التطرف، وهو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، فقد كان محالا أن يلجأ إليه إنسان قوي واثق من نفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورة من صوره، ويتملكه الخوف دوما من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، فيسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصومه إذا استطاع ذلك».
ويخلص زكي نجيب محمود إلى أن «التطرف في الواقع حالة من حالات التكوين النفسي، ولا نقول: إنه وجهة نظر، إلا من باب التساهل، وإنما هو، في حقيقته الدفينة، حالة نفسية».
امتدادا لهذا السياق، ضم العدد دراسة ضافية للدكتور سامي السهم، بعنوان: «جورج قنواتي وحوار العلم والفلسفة والدين». تكشف الدراسة عن الأبعاد الفكرية الخصبة لشخصية الأب جورج قنواتي، أحد أبرز المفكرين المسيحيين في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، منذ دراسته الصيدلة، ثم تحوله للرهبنة. كما تكشف عن دوره المؤثر في تحقيق كثير من أمهات الكتب في التراث العربي، خاصة عن ابن سينا وابن رشد، وتاريخ الطب والفلسفة عند العرب، وقد دخل الأب قنواتي موسوعة «تراث الإسلام» العالمية، بكتابته الفصل الخاص بـ«الفلسفة وعلوم الكلام والتصوف»، وكان من أبرز المساهمين في تأسيس معهد «الدومينيكان» للدراسات الشرقية بأحد الأديرة بالقاهرة.
وضم عدد المجلة دراسة مهمة عن الموجز العام لتاريخ عمل النساء بالعلم في العالم، إضافة إلى عدد من المحاورات والدراسات الأدبية المتنوعة، منها حوار مع الكاتب الروائي فؤاد حجازي، ودراسات عن الشعراء أمل دنقل، ومحمد إبراهيم أبو سنة، ومحمد سليمان، ودراسة عن معرض «ساعة مغربية» للفنانة التشكيلية سماء يحيى.. صورة قلمية شيقة للأديب الراحل أمين ريان، كتبها ابنه أسامة ريان. وفي العدد نصوص شعرية وقصصية لافتة، إضافة إلى الأبواب الثابتة. كما استهل «المجلة» رئيس تحريرها الشاعر والكاتب الصحافي أسامة عفيفي، بمقال مكثف عن تجربة النحات المصري أحمد عثمان، ودوره في مسيرة النحت المعاصر في مصر، وفي تأسيس كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية.
يذكر أن «المجلة» تصدر بشكل شهري عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وتعد من أهم النوافذ في الواقع الثقافي المصري، ويرأس مجلس إدارتها الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة.



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.