ذكريات : قصة لقائي بالبروفسور ألفريد لويس دو بريمار

ألفريد لويس دو بريمار
ألفريد لويس دو بريمار
TT

ذكريات : قصة لقائي بالبروفسور ألفريد لويس دو بريمار

ألفريد لويس دو بريمار
ألفريد لويس دو بريمار

كان ذلك قبل حوالي العشرين عاماً. كنت على موعد مع البروفسور ألفريد لويس دو بريمار، الأستاذ في جامعة إيكس آن بروفنس، قسم الدراسات العربية والإسلامية، وصاحب كتاب «تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ» الصادر بترجمته العربية عن دار الساقي عام 2009. كنت على موعد معه من أجل مناقشته حول هذا الكتاب وحول نظريته العامة عن التراث. بالمناسبة أنا مترجم هذا الكتاب المهم وليس الاسم المستعار الموضوع عليه: عيسى محاسبي. هذا سر أفشيه هنا للمرة الأولى. لقد تسرع الأستاذ جورج طرابيشي رحمه الله، ووضع هذا الاسم الوهمي عليه بعد أن وجدني متردداً أو متخوفاً قليلاً من التصريح باسمي الشخصي. كنا لا نزال آنذاك مرعوبين من الأصولية والأصوليين. ولماذا نكون مرعوبين والكتاب أكاديمي صرف من أعلى المستويات؟ والله مصيبة. أقسم بالله مصيبة. التراث المسيحي في الغرب يحظى بآلاف الدراسات النقدية التجديدية الحديثة ولا أحد يخاف عليه منها. بل إنه يزداد بعدها تألقاً وسطوعاً. أما نحن فممنوع منعاً باتاً أن تقول كلمة واحدة عن التراث، ما عدا تلك التي يقولها عنه التقليديون الذين أكل عليهم الدهر وشرب. كيف يمكن أن نتحلحل، أن نتقدم، في مثل هذا الجو؟ هل كتب علينا الجمود والخمود إلى أبد الدهر؟ هل كتب علينا التكرار والاجترار إلى ما لا نهاية؟ هنا يكمن الانسداد التاريخي الأعظم للعرب. لهذا السبب انخرطنا في دراسات تنويرية عن التراث، وعشنا لحظات غليان ثقافي حقيقي في بدايات هذا القرن. كان ذلك أيام «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» التي أسسها محمد عبد المطلب الهوني وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وبقية أقطاب التنوير العربي الإسلامي. ولا ننسى العفيف الأخضر الذي اعتنق فلسفة الأنوار، ولم ينبطح أمام موجة الإسلام السياسي أو المسيس حتى عندما كانت في أوج صعودها وجبروتها. وهي المؤسسة التي حاولت فك الانسداد التاريخي أو فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود. ولأجل ذلك فقد عقدت مؤتمراً ضخماً للمثقفين العرب في بيروت عام 2004، وحققت بعض الإنجازات التي لا يستهان بها ترجمة وكتابة بعد أن تحولت إلى ما يدعى بـ«رابطة العقلانيين العرب» على يد طرابيشي ورجاء بن سلامة والدكتور الهوني ذاته إلخ. كانت تلك لحظة إشراقية رائعة في بحر من الظلمات. وقد استغرقت مني ترجمة هذا الكتاب الأكاديمي مدة سنتين تقريباً. وكنت على تواصل مستمر مع البروفسور دو بريمار، حيث ساعدني بنصائحه وإرشاداته ووثائقه التراثية على إكمالها على أفضل وجه ممكن.
لكن بعد هذه الديباجة المستفيضة دعونا ندخل في صلب الموضوع. بعد أن استقبلني المستشرق الكبير في محطة آفينيون للقطارات، وهي محطة فاجأتني بحداثتها الصارخة أنا القادم من باريس ذهبنا للغداء في مطعم ضائع وسط الحقول... آه، ما أجمل أن تكون بعيداً عن باريس مديراً ظهرك لضجيج العواصم! كنا وحدنا في مطعم كبير يتسم بالعراقة الفرنسية ويتسع لمائة شخص على الأقل. كنا اثنين فقط وحولنا حشد من المضيفين والمضيفات الذين يهتمون بنا ويحرصون على راحتنا. كيف يمكن أن تجد مثل هذه التبجيل والتعظيم في باريس؟ مستحيل. بالكاد يخدمونك، أو يشعرون بوجودك. وحولك يخيم الهدوء المريح وظلال الأشجار العملاقة العتيقة وسكينة الريف الفرنسي. قلت للبروفسور دوبريمار: الناس لا يعيشون في باريس، الناس ينهبون الحياة نهباً، أو قل إن الحياة تنهبهم وتستهلكهم وتستنفدهم. الناس يتسابقون تحت الأرض وفوق الأرض كالنمل. هل هذه حياة؟

                                                      بترارك
في نهاية الوجبة خطرت على بالي فكرة. كنت أعرف أن بيت الشاعر الكبير رينيه شار موجود في المنطقة، ولكن كنت أخشى أن يكون بعيداً جداً، وأن أكلف مضيفي ما لا طاقة له به. ومع ذلك فقد تجرأت وسألته: أين توجد مدينة ليل سور لاسورغ يا ترى؟ وحكيت له القصة قائلاً بأني كنت أحلم بزيارتها منذ زمن طويل لكي أرى المكان الذي عاش فيه هذا الشاعر الذي هجر باريس كلها من أجله. وكنت بشكل خاص أريد أن أرى نهر السورغ الذي يخترق المدينة، والذي خلده الشاعر الكبير بقصيدة عصماء. وفوجئت بالسيد دوبريمار ينهض فوراً ويقول لي: تعال معي، إنها على مبعدة عشر دقائق فقط بالسيارة. وكانت المفاجأة كبيرة... وهكذا شاهدت المدينة والنهر الجميل الذي يخلع عليها سحرها الفتان. لن أترجم هنا حرفاً واحداً من تلك القصيدة الشهيرة لأنها عمودية مقفاة، وبالتالي فأخشى أن أقتلها إذا ما ترجمتها. لو كانت قصيدة نثر لفعلت ذلك، ولكن المغامرة هنا غير مضمونة العواقب. وربما أثارت الضحك والسخرية. من يستطيع أن يترجم الشعر؟ كان جان بول سارتر يقول: الشعر لا يترجم. انتهى الموضوع.
في طريق العودة إلى البيت، أشار البروفسور دو بريمار بيده من نافذة السيارة إلى إحدى المناطق البعيدة قائلاً لي: هناك يوجد المنتجع الذي كان يختلي فيه شاعر النهضة الإيطالية بيترارك. قلت له: أرجوك، توقف! هل يمكننا أن نزوره؟ ضحك وقال: نعم يمكننا، ثم أردف قائلاً: ما كنت أعرف أنك تحب الطبيعة إلى مثل هذا الحد.
وهكذا عرجنا على تلك المنطقة الفاتنة التي كان يقصدها بيترارك، وكانت أجمل من مدينة رينيه شار. كان جمالها من النوع الذي يخطف الأبصار. وتمنيت لو بقيت هناك دهراً. نهر غزير يرحب بك ويسيل تحت قدميك في منطقة أشجار وغابات وجبال وشلالات. إنه عرس الطبيعة... لا تكاد ترى السماء فوقك. ولكن هناك صخرة معلقة كالقرص المدور في أعلى الجبل أقلقتني. قلت له: ألن تسقط على رأسنا يا ترى إذا ما تابعنا السير في الوادي حتى نصبح تحتها بالضبط؟ فأجاب: على حد علمي فإنها موجودة هنا منذ عشرات القرون ولم تسقط على رأس أحد حتى الآن... ثم أضاف: عندما كانت تصيب بيترارك نوائب الدهر كان يلجأ إلى هنا لكي يتسلى، لكي ينسى، لكي يتعزى:
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس
هنا كان يتذكر «لورا» تلك المرأة الإشعاعية التي لمح وجهها يوماً ما وهي خارجة من الكنيسة في مدينة آفينيون فخر على وجهه صاعقاً مصعوقاً. مبالغات وتهويلات؟ بالكاد. من يعرف متى تسقط عليه صاعقة الحب؟ من يعرف متى يصيبه الحب بالضربة القاضية؟ وهو شيء لا يحصل إلا مرة واحدة في العمر هذا إذا ما حصل. لا تطمعوا بأكثر من ذلك. هيهات! وعندما يحصل تشعر وكأن أبواب الجنة قد فتحت أمامك على مصراعيها... لقد كان حب بيترارك للورا عذرياً خالصاً مثل حب مجنون ليلى أو جميل بثينة أو ذو الرمة ومي، إلخ. وذلك لأنها كانت متزوجة وهو لم يكن يريد منها شيئاً. كان يريد فقط أن يلمحها من وقت لآخر.

                                                             رينيه شار
ثم ماتت لورا وهي في عز الشباب وتحولت إلى أسطورة ملائكية. وظل يناجيها ويكتب لها الأشعار حتى آخر لحظة في حياته. وكان واثقاً أنه سيلقاها في العالم الآخر، حيث لا منغصات ولا تعقيدات، حيث الأبدية والخلود:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم
في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا
صاحبكم المسكين التعيس ابن زيدون ما غيره! هو الآخر أيضاً كان مفجوعاً ويحلم برؤية ولادة يوم القيامة بعد أن كانت قد لوعته ومسحت به الأرض مسحاً... ولكن يقال بأنها غيرت موقفها وندمت على ما فات بدليل قولها هذين البيتين:
أغار عليك من نفسي ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني وضعتك في جفوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
في الواقع أن بيترارك كان شخصية خصبة تعج بالمتناقضات. فهو قد ولد عام 1304 ومات عام 1379: أي في فترة متذبذبة لم تكن فيها العصور الوسطى قد ماتت بعد، ولا العصور الحديثة قد ولدت بعد. وهي فترات تنجب عادة شخصيات متمزقة ومنقسمة على نفسها تماماً كالعصر العربي الإسلامي الذي نعيشه نحن اليوم. إنه عصر انتقال وقطيعة ونزيف داخلي حاد. لقد كان بيترارك متمزقاً بين الماضي والحاضر، بين المسيحية والوثنية، بين المتع الحسية والزهد الناسك، بين الشعر والنثر... كان شرهاً منخرطاً في شهوات هذا العالم إلى أقصى الحدود في بدايات شبابه الأول، وذلك قبل أن تصيبه الأزمة النفسية التي حولته فيما بعد إلى زاهد، ناسك، متوحد. وكان ناشطاً سياسياً لا يتردد في لعب الأدوار الخطرة وأداء المهمات السرية التي توكل إليه من قبل الأمراء والبابوات والملوك. كان محاطاً بالأصدقاء والمعجبين، وكان بيته دائماً مليئاً يعج بالبشر. ومع ذلك فكان يشعر بالوحدة أو الوحشة التي تكتسحه من الداخل اكتساحاً. كان يقول هذه العبارة الرائعة التي شفتني وعالجتني: أشعر دائماً بعطش في قلبي! ما كان يستطيع التوفيق بسهولة بين إيمانه الديني العميق من جهة، وبين شغفه بالحضارة اليونانية - الرومانية الوثنية السابقة على المسيحية من جهة أخرى. باختصار شديد: كان قلبه في جهة، وعقله في جهة أخرى. رفقاً بالأرواح الحائرة، بالأجنحة المتكسرة!



صواعق نيتشه وعمايات المثقفين الفرنسيين

جاك بوفريس
جاك بوفريس
TT

صواعق نيتشه وعمايات المثقفين الفرنسيين

جاك بوفريس
جاك بوفريس

بداية دعونا نطرح السؤال التالي: كيف حوّل المثقفون الفرنسيون من أمثال فوكو وديلوز ودريدا، نيتشه، إلى مفكر يساري تقدمي؟ هذا ما يكاد يجنن جاك بوفريس ويطير عقله. ومعه الحق. نيتشه يعلن نهاراً جهاراً على المكشوف أنه ضد قيم الحداثة: كالديمقراطية، والاشتراكية، والتقدم الاجتماعي، والمساواة بين البشر، بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة. وكان مضاداً لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية 1789، والذي يعد مفخرة فرنسا عالمياً حتى الآن. لهذا السبب كان حاقداً على جان جاك روسو الذي كانت كتاباته تعد بمثابة إنجيل الثورة الفرنسية. نيتشه كان مفكراً رجعياً حقيقياً. كان مدافعاً عن النزعة الأرستقراطية الراديكالية التي لا تعترف بمبدأ المساواة بين البشر؛ هذا المبدأ الغالي على قلب جان جاك روسو ومعظم فلاسفة الأنوار. ما هي العقيدة السياسية لفريدريك نيتشه؟ إنها تتمثل فيما يلي: هناك النخبة الأرستقراطية من الرجال.

الاستثنائيون الموجودون على رأس المجتمع أو الهرم الاجتماعي، وهناك جماهير الشعب الموجودة في أسفل الهرم. وهذا هو النظام الطبيعي الذي ينبغي أن يسود ولا اعتراض عليه أبدأ. ومهمة الجماهير هو الكدح والتعب والشغل والطاعة الكاملة العمياء للنخب المثقفة. ينبغي أن تخدم هذه الجماهير الغفيرة النخبة الأرستقراطية لكي تستطيع التفرغ للقيادة والحرية والخلق والإبداع. هذا هو نيتشه الحقيقي.

النقطة الوحيدة التي تحسب له هو أنه كان أكبر مفكك للأصولية المسيحية والظلامية الدينية. هنا تكمن عبقريته. وكان أكبر محطم للأصنام والمعبودات والشخصيات التي نعتقد أنها مثالية قداسية في حين أنها كانت بشرية عادية بل وأكثر من عادية. انظر لتكالب بعض رجال الدين على الأموال والأرزاق والوجاهات في كلتا الجهتين الإسلامية كما المسيحية... ولكن العامة يتعلقون بهم ويقبلون يدهم ويقدسونهم تقديساً. انظر لقصص بعض البابوات الفاسدين المنحلين في القرون السابقة كالبابا ألكسندر بورجيا الذي كان أبعد ما يكون عن المبادئ الدينية والفضائل الإنجيلية. وقد اشترى بابويته بالفلوس التي انهمرت مدراراً على الكرادلة لكي ينتخبوه. وخلف وراءه عشرة أولاد وثلاث بنات من عشيقات مختلفات. وقد عيّنهم في مناصب عليا في المجتمع الإيطالي بعد انتخابه. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن البابا يوليوس الثاني الذي خلفه عام 1503 فقد كان مستبداً دموياً مولعاً بشن الحروب. لقد خان المبادئ الإنجيلية كلياً، ومع ذلك فقد ظلت عامة المتدينين تقدسه كالصنم المعبود. وقل الأمر ذاته عن بعض الدعاة الكبار الذين أصبحوا أغنياء جداً عندنا، بل ومليونيريين بفضل المتاجرة بالدين. لا داعي لذكر الأسماء... نعم لقد ساعدنا نيتشه بمطرقته الفلسفية على التحرر من هيبة شيوخ التزمت والتقعر والإكراه في الدين. يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر. يدعونك إلى الزهد في الحياة الدنيا وعينهم على الشهوات والملذات والأموال التي يتكالبون عليها تكالباً. كل هذا كشف القناع عنه فيلسوف الألمان وحررنا منه. من هذه الناحية كان تنويرياً كبيراً. لتسقط الأصنام والأوثان التراثية إذن ولنتحرر منها كلياً ولنتنفس الصعداء لأول مرة في حياتنا. لنتجرأ على أن نفكر بأنفسنا دون أي وصاية لاهوتية أو كهنوتية فوق رؤوسنا. هذه هي وصية كانط لنا. هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفة التنوير. فالله زودنا بعقول لكي نشغلها لا لكي نلغيها أمام شيوخ الفضائيات وجماعات الإسلام السياسي الذين يعرفون كيف يستغلون الدين وهيبته وقداسته. إنهم بارعون في ذلك إلى أقصى حد ممكن. ولكن لعبتهم انكشفت بعد سقوط ما يدعى «الربيع العربي». لكأن الربيع يمكن أن يكون أصولياً ظلامياً. الربيع سيكون تنويرياً، أو أنه لن يكون!

أنا مدين لنيتشه بأشياء عبقرية كثيرة. يضاف إلى ذلك أن أسلوبه في الكتابة بركاني، عبقري، متفجر، لا يضاهى. أنا أدوخ، أخرج عن طوري عندما أقرأ نيتشه. أكاد أقوم وأقعد. لا أستطيع أن أبقى هادئاً. حقا إن من البيان لسحراً. وربما كان أكبر كاتب في اللغة الألمانية. ولكني لا أستطيع الاتفاق معه على هذه النزعة النخبوية والاستعلائية الكاسحة. لا أستطيع القبول بإدانته للحداثة ومنجزات الحداثة جملةً وتفصيلاً. هنا أقول له ستوب، قف: خط أحمر! فقد رفض رفضاً قاطعاً المثل العليا للحداثة كحقوق الإنسان والمساواة بين البشر وحق التصويت العام للشعب، ومشروع المدرسة للجميع، والسعادة والرفاهية للجميع، إلخ. ورفض كل السياسات التضامنية مع الفقراء والمنبوذين والمستضعفين. ووصل به الأمر إلى حد القول: ينبغي أن نحمي الأقوياء من الضعفاء وليس العكس. وعلى هذا المنوال يمكن أن نقول: ينبغي أن نحمي الأغنياء من الفقراء الذين يحسدونهم ويكادون ينهشونهم نهشاً. لماذا لا نصرخ: يا إلهي ما أجمل الأغنياء وما أبشع الفقراء؟ عيب! ثم صعد نيتشه من لهجته إلى حد القول: «لينقرض الضعفاء والفاشلون! هذا أول مبدأ من مبادئ فلسفتنا الإنسانية المحبة للبشر! بل وينبغي أن نساعدهم على هذا الانقراض»... وهذا يشبه ما فعله النازيون عندما قضوا على المرضى والمقعدين والمعاقين، وعدّوهم عالة على المجتمع. ثم يضيف: «ما هي أسوأ النقائص أياً تكون؟ الشفقة على الفاشلين والضعفاء: عنيت المسيحية». ويحك! هكذا نلاحظ أن أفضل ما جاءت به المسيحية كدين محبة وشفقة ورحمة يدينه ويعده نقيصة. هنا تكمن خطورة نيتشه. إننا نفهم هجومه على الأصولية المسيحية التي كانت لا تزال قوية في عصره وقادرة على الضرب والقمع، والإكراه والقسر. وذلك على عكس ما هي عليه الآن، حيث لم يعد لها وجود في أوروبا، وحيث أصبحت هي الخائفة لا المخيفة. ولكننا لا نفهم أن يدين أفضل ما جاءت به المسيحية وكذلك الإسلام: أي الشفقة والرحمة على الضعفاء والفقراء واليتامى والمحتاجين وابن السبيل... هنا لا نستطيع أن نمشي معه خطوة واحدة إلى الأمام. هنا نفضل أن نكون مع مفكر عملاق آخر هو جان جاك روسو الذي كان يذوب ذوباناً في أحضان الشعب الطيب الفقير الذي يكدح كل نهاره لتأمين لقمة العيش له ولأطفاله.

ليس غريباً إذن أن تكون النازية قد وجدت ضالتها فيه واتخذته هادياً مرشداً لها ولآيديولوجيتها. ليس غريباً أن يكون النازيون قد رأوا في نيتشه «أيقونة العهد الجديد» الذي أرادوا إقامته وترسيخه في ألمانيا. ليس غريباً أن يكونوا قد اتخذوه قدوةً ومثالاً لكي يحتموا في ظله ويضربوا بسيفه. نقول ذلك وبخاصة أن شهرته كانت قد أصبحت أسطورية. لقد اندلعت بعد موته كالرعد القاصف واكتسحت السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. كانت كتبه خصوصاً «هكذا تكلم زرادشت» تباع بالملايين. لقد أصبح الإنجيل الخامس كما توقع هو شخصياً. وكانت شبيبة ألمانيا تعبده عبادة في حين أنه لم يلق في حياته أي اهتمام ولم يبع من كتبه أكثر من عشر نسخ! من يصدق ذلك؟ كل هذا النجاح الباهر حصل بعد موته عام 1900 بالضبط. ولهذا السبب قال عبارته الشهيرة: «هناك أشخاص يولدون بعد موتهم». كان يعرف أن لحظته آتية لا ريب فيها. وهذا السطو من قبل هتلر على نيتشه وفكره ما كان لينجح تماماً لولا تعاون أخته إليزابيث التي كانت عضواً في الحزب النازي منذ عام 1930. ومعلوم أن هتلر زار متحف نيتشه الذي يضم أرشيفاته ومحفوظاته في مدينة فايمار عام 1933: أي بعد توليه السلطة مباشرة تقريباً. وهناك انحنى أمام أخته إليزابيث كما تشهد الصورة على ذلك. وقد أهدته عصا الفيلسوف لكي يتبرك بها أو يتعكز عليها في نزهاته اليومية إذا شاء. وفي عام 1934 ترأست إليزابيث هذه بحضور هتلر الاحتفالات بالذكرى التسعين لولادة أخيها الفيلسوف الشهير. ومعلوم أن النظام الهتلري نظم احتفالات ضخمة بهذه المناسبة وبحضور كبار القادة النازيين. وعندما توفيت إليزابيث نيتشه في العام التالي عن عمر مديد حضر هتلر شخصياً تشييع جنازتها.

هذا الكلام لا يعني أن كل فلسفة نيتشه نازية من أولها إلى آخرها! لا، لا، أبداً، أبداً. ما إلى هذا قصدت. وإلا لما بقيت على مدار الأجيال ولكانت قد ماتت في أرضها. وذلك لأن فلسفته ضخمة، واسعة، متشعبة لا يمكن حصرها بهذا الجانب فقط. فلسفته تحتوي على إضاءات عبقرية عديدة كما أسلفنا. ولكن لا يمكن إنكار هذا الجانب المتطرف واللامسؤول من فكره. لماذا اعتمد هتلر على نيتشه كمنظر آيديولوجي أكبر للنازية، ولم يعتمد على كانط أو هيغل مثلاً؟ وهما من أعظم العقول الفلسفية التي أنجبتها ألمانيا. سؤال لا يمكن تحاشيه. والواقع أننا عندما نقارن بين انفجارات نيتشه الفكرية والأسلوبية الخارقة وبين هيجانات هتلر وخطبه النارية المشتعلة التي كهربت الشعب الألماني كهربة نلاحظ وجود أوجه تشابه عديدة. ونكاد نقول هذه من تلك!

على أي حال لا يمكن اعتبار نيتشه مفكراً حريصاً على المساواة بين البشر ولا على النزعة الإنسانية اللهم إلا إذا كنا من «جماعة العميان»، كما يقول جاك بوفريس. من هنا حملته الشديدة على فوكو وديلوز ودريدا الذين حولوه في ستينات وسبعينات القرن الماضي إلى مفكر يساري تقدمي غصباً عنه! هذا في حين أنه كان مفكراً نخبوياً، أرستقراطياً، استعلائياً، محضاً. كان يحلق في الأعالي أو أعلى الأعالي. كان يفكر «والناس تحته على مسافة ستة آلاف قدم» كما يقول هو شخصياً. هو من فوق وكل البشرية تحته! كل العنجهية الأرستقراطية تجسدت في شخصه، كما أن كل العنجهية الآرية الألمانية تجسدت في شخص هتلر.


كويت الثقافة: من «العربي» إلى الوطن العربي

من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب  ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي،
والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي، والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
TT

كويت الثقافة: من «العربي» إلى الوطن العربي

من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب  ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي،
والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.
من اليمين د. عائشة المحمود نائبة رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ود. محمد الجسار رئيس المجلس، وسعد البازعي، والكاتب الكويتي طالب الرفاعي.

كنتُ في الثالثة الإعدادية على ما أذكر حين وقع بين يدي ذلك العدد من مجلة «العربي». كنتُ في مدينة سكاكا بمنطقة الجوف شمال السعودية، في مكتبة عامة رائدة، أظنها الأولى من نوعها. ومن المؤكد أنها من أولى المكتبات العامة التي تُفتح لعامة القراء على مستوى المملكة. كان ذلك في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حين افتتح المكتبة أمير المنطقة آنذاك، عبد الرحمن السديري (رحمه الله)، وكانت أعداد «العربي» من أبرز مقتنيات المكتبة. شاهدتُ كتاب «الأغاني» للمرة الأولى ومعاجم وكتباً أخرى كثيرة، لكن «العربي» شدتني بصورها وألوانها، ووقعت عيني أثناء التصفح على مقالة للكاتب السوري وليد إخلاصي على ما أذكر تناولت «شعراء البحيرة»، وهم الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في منطقة البحيرات شمال غربي لندن، واشتهروا بالرومانسيين في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر: وردزورث، كوليرج، وسذي. شدتني ترجمة لإحدى قصائد وردزورث عنوانها «نحن سبعة». علقت بذهني، ثم استبطنتها فيما يبدو، لتعاود الظهور بعد سنوات وأنا أقف حائراً أمام خياري التخصص الجامعي الممكنين بالنسبة لي: اللغة العربية أو الإنجليزية، أدب لغتي أم أدب لغة الأجانب. اخترت الأخير معتقداً أن أدب لغتي سيكون ميسوراً بحكم الانتماء، فكان ما كان وتابعت الدراسة حتى عدت لأدرّس للطلاب وردزورث وكوليرج وغيرهما، وأن أختار باستمرار قصيدة قرأت ترجمتها قبل سنوات في مجلة «العربي»؛ قصيدة «نحن سبعة» لوردزورث.

كانت «العربي» منعطفاً في مطلع ذلك التبلور لاهتمام وحقل تخصص استمرّا حتى اليوم.

ومع «العربي» كانت الكويت التي ثقَّفت مجلتها الرائدة ملايين الشبان والشابات العرب وغيرهم من مختلف الأعمار والاهتمامات. علمت فيما بعد أن للكويت إضافات أخرى كثيرة تتجاوز المجلة العتيدة إلى إنجازات كبرى في تاريخ الثقافة العربية. عرفت أن هناك سلسلة عظيمة، هي «عالم المعرفة»، وأن هناك مجلة فصلية مهمة هي «عالم الفكر» وأن هناك وهناك الكثير غير ذلك. ولم تنقطع الصلة بالكويت منذ الثمانينات لتتوثق أكثر بعد تحرُّر ذلك البلد العربي في التسعينات، وتتواصل حتى يومنا هذا؛ يومنا الذي عدت فيه أحمل امتناناً عميقاً لأهلي وبلدي الثاني حين حللت ضيفاً على «معرض الكويت الدولي للكتاب» بصفتي ضيف المعرض، أو شخصية المعرض، كما جرت التسمية.

شعرت بتواصل المدينية، ليس تواصلها فحسب بل وتعمق الإحساس بها، بما أدين به لبلد تعلمتُ من منتجه الثقافي الكبير، وعاد ليكرمني بما أرجو أن أكون أهلاً له من التكريم والاحتفاء غير المستغرَب، وإن جاء مفاجأة لي.

في إحدى أجمل قصائد الشاعر الإنجليزي الذي ذكرته قبل قليل، وردزورث، وهي المعروفة بـ«تنترن آبي»، إشارة إلى موضوعها، وهو المكان الذي زاره الشاعر في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر، يؤكد الشاعر أن زيارة سابقة له لذلك المكان الغارق في جمال الطبيعة تركت أثراً عميقاً في نفسه؛ ليس على مستوى الإحساس الجمالي أو المتعة وإنما، وهنا يبرز جانب أعمق من المذهب الرومانسي، على مستوى روحاني، مستوى الأخلاق والسلوك.

يقول إن الطبيعة التي غادرها آنذاك لم تتركه، وإنما ظلَّت تحيطه برعايتها؛ إذ تتمظهر في صور من السلوك الإنساني الجميل والبسيط: تحية صباحية، مساعدة شخص على عبور الطريق، جعلته الطبيعة التي ترسخت في ذاكرته، أو لا وعيه، كما سيقول فرويد، إنساناً أفضل وأكثر حباً للخير، كما تفعل الصلاة بالنسبة للمؤمن، أو كما يُفترض. ثم يضيف وردزورث أنه يتوقع أن زيارته الحالية ستكون استزادة من تلك الخيرات الطبيعية التي ستواصل الارتقاء به حين تمده بالمزيد من الطيبة والنقاء إلى جانب الإحساس بالجمال.

أستعيد قصيدة وردزورث لأني أجدها على صلة بزياراتي المتكررة لبلد طالما أمدَّني بغزير عطائه؛ ليس الثقافي فحسب، وإنما الإنساني أيضاً، وأظن أن تجربتي ليست غريبة على كثيرين؛ فكثيرون هم الكتّاب المثقفون والعلماء والأدباء الذين مروا على الكويت عاملين في مؤسساتها أو مشاركين في مناشطها العديدة، مثلما أنهم كثيرون، بل أكثر بكثير، أولئك الذين لم يمروا بالكويت، وإنما مرَّت بهم هي في صورة مجلة أو كتاب أو أثر آخر. من بدر شاكر السياب إلى أحمد زكي، أول رئيس تحرير لمجلة «العربي»، إلى فؤاد زكريا، إلى زكي طليمات، إلى عبد الوهاب المسيري، إلى جابر عصفور، إلى فهمي جدعان وغيرهم، فضلاً عن الشعراء والروائيين والمسرحيين الكثر الذين عرفتهم ندواتها ومؤتمراتها وقاعات محاضراتها، تمتد القائمة وتطول، ومع القائمة تشمخ المؤسسات وتتعدد صور العطاء والتكريم. جاء كثيرون إلى الكويت ليجدوا أنهم في بيئة كويتية غنية مسبقاً بالفكر والعلم والأدب والفنون؛ إذ تمثل ذلك في الرواد مثل صقر الشبيب وفهد العسكر وخالد الفرج، امتداداً إلى أحمد مشاري العدواني وخالد سعود الزيد وحمد الرجيب، وصولاً إلى محمد الرميحي وسليمان العسكري وإسماعيل فهد إسماعيل وأحمد الربعي وسعد الفرج وسعدية مفرح ومحمد الجسار وعائشة المحمود وطالب الرفاعي وليلى العثمان وخليفة الوقيان ودخيل الخليفة وسعود السنعوسي وعبد الله البصيص وبثينة العيسى وغيرهم كثير وكثير ممن يجب ألا ينساهم أحد، لكن المساحة تضيق. كل أولئك وغيرهم شاركوا ويشاركون في صياغة الناتج الفكري والإبداعي العربي باقتدار لتغتني بعطائهم أجيال ممن كانوا مثلي ذات يوم يتصفحون مجلة أو يقرأون كتاباً أو يتابعون محاضرة أو ندوة أو يشاهدون مسرحية.

نمر بالأماكن ونتذكرها أملاً في أن تتذكرنا هي، وإن سهل أن تنسانا فليس من السهل أن ننساها. من هنا كان مروري بالكويت ومرورها بي وئيداً وعميقاً، الكويت التي لم تنسني وأنا أغالب الزمن لاستبقاء كثير من مشاهد مروري بها ملحّاً عليها أن تبقى، وقد بقي فعلاً كثير من الكثير. بقي كثير من «مهرجان القرين الثقافي» ومن مؤتمرات «مجلة العربي» و«المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» ومن محاضرات «رابطة الأدباء»، وهو يتجدد اليوم عبر النشر في دور مثل «كلمات» التي انطلقت من الكويت لتنتشر في أرجاء الجزيرة العربية ساعية لتخطي الحدود ومعانقة العالم. تلك الدور وأولئك الأشخاص يجسدون أو يذكّرون بالدور التاريخي الذي لعبته الكويت على مدى يزيد على النصف قرن في نشر المعرفة والإبداع في أرجاء الوطن العربي؛ سواء في الإرسال أو الاستقبال.

في «معرض الكتاب» ذكرتني شاعرة الكويت الكبيرة سعدية مفرح أنه بهذا العام (2023) تكون قد مرت 30 عاماً منذ زرت الكويت بعد تحررها من الاحتلال، بعد عودتها وطناً آمناً ومزدهراً لأهلها وللعرب، حين شاركت في ندوة أقامتها رابطة الأدباء. 30 مرَّت وها هي الكويت وقد عاودت ممارسة دورها التاريخي في النهوض العربي. في معرض الكتاب لهذا العام رأيت تلك الممارسة تتبلور أكثر من أي عام مضى، وقد رأيت القائمين على المؤسسات الثقافية المختلفة، في «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» وفي «المكتبة الوطنية»، يسعون سعياً حثيثاً لتعزيز هذه المسيرة المباركة لا لكي تستعيد الكويت نشاطها السابق، بل لكي تصعد إلى ما هو أعلى منه.


«وكسة الشاويش»... آخر روايات الكاتب الراحل كمال رُحيِّم

«وكسة الشاويش»... آخر روايات الكاتب الراحل كمال رُحيِّم
TT

«وكسة الشاويش»... آخر روايات الكاتب الراحل كمال رُحيِّم

«وكسة الشاويش»... آخر روايات الكاتب الراحل كمال رُحيِّم

تعد رواية «وكسة الشاويش» الصادرة عن دار «الشروق» بالقاهرة آخر الأعمال المنشورة للروائي المصري كمال رُحيّم الذي رحل عن عمر يناهز 76 عاماً خلال هذا العام. ويكشف النص عن تفاعلات نفسية وتشابكات مجتمعية ينسجها المؤلف عبر لعبة سرد مثيرة مشغولة بأناقة مخيلة.

تدور أحداث الرواية في «حي العرب» الشعبي الشهير بمدينة بورسعيد الساحلية إبان حقبة الستينات حيث الأم «وداد»، سيدة ليست فوق مستوى الشبهات؛ ما يسبب عقدة نفسية لابنها «عادل» الذي يلاحظ أنها على علاقة بأحد الجيران في المنطقة. وهو «شاويش» بمديرية الأمن بالمدينة، ضعيف الشخصية، تتحكم فيه زوجته. يقوم الابن بمحاولة قتل أمه وشريكها في العلاقة الآثمة لكنه يفشل، ويحاكم بتهمة الشروع في القتل. تبدأ الرواية بمشهد المحاكمة، وتنتهي به حيث تؤجل القضية إلى جلسة مقبلة.

وعبْر 140 صفحة من الحجم المتوسط تنسج الرواية عالمها بلغة رشيقة وإيقاع درامي سريع، تتكشف في ظلاله أبعاد الصراع النفسي الحارق بين مشاعر الغضب ومشاعر البنوة داخل نفس الراوي الذي لا يشعر بأي ندم جراء الجريمة التي قام بارتكابها، مستفيداً من خلفيته بوصفه ضابط شرطة، خصوصاً في تصوير دوافع الجريمة.

وحصل كمال رحيِّم على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة، وصدرت له 5 مؤلفات قانونية و11 رواية منها: «ثلاثية اليهود» التي تتكون من «المسلم اليهودي»، و«أيام الشتات»، و«أحلام العودة» التي تُرجمت إلى الإنجليزية والألمانية والأرمينية». حصل رحيم على عدد من الجوائز، منها جائزة نادي القصة 4 مرات عن قصصه القصيرة، وجائزة الدولة التشجيعية في الأدب 2005، وجائزة اتحاد الكتاب في الرواية 2021، ثم جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 2022 عن مجمل أعماله.

من أجواء الرواية نقرأ:

«وها أنا أقف ببنطال وقميص ولحية، فلم أحلق ذقني أو حتى شذبت شعراتها منذ أشهر، وبقميص أكبر من مقاسي وجورب جديد، الجورب والقميص لا يخصانني، امرأة طيبة من الجيران ابتاعت لي الجورب، وأتت به إليَّ في السجن قبل أيام ومعه قميص ابنها الذي يكبرني قليلاً في الجسد، وفوقهما ابتسامة تأثر وكلمة: شد حيلك يا حبيبي.

أقف ووجهي خالٍ من التعبير كتمثال من تماثيل الشمع، رغم ما بداخلي من ألم وحسرة، ليس على من اعتديت عليهما فهما يستحقان، على نفسي والدنيا التي عاشتها وأوقفتها هذه الوقفة، اللافت أنه كانت تنتابني أحياناً رغبة في الابتسام، ولحظات أود فيها لو أنفجر في البكاء، وضحكت مرة دون سبب، ومن يراني يحتار في أمري: فهل أنا غير آبه إلى هذا الحد بالفعلة التي فعلتها؟ أم عبيط؟ أم فاجر مستهتر؟ وخذ عندك من الأوصاف حتى منتهاها.

وامتلأت القاعة بالجيران، أغلبهم نسوة، جارات كن لي بمثابة الخالات والعمات، عيونهن لم تدعني، فيها تساؤلات ورغبة في استكمال إجابات لديهن من قبل، فيها أيضاً شفقة، وكأنهن يشفقن عليّ أكثر كثيراً من (زعلهم) على ما جرى لأمي، لم يكن يرتحن لها، وبالذات الست التي تقطن بالشقة المقابلة لشقتنا، وأتت لي بالجورب والقميص، نظراتها لي كلها دعم وتشجيع، وليست مجرد شفقة، وفي المجمل كنّ كلهن يصنفن أمي على أنها واحدة من المعجبات بأنفسهن ولا يعرفن الحياء، وهذا قول المؤدبات منهن ذوات الألسنة المتحفظة، أما الباقيات فما كن يقلنه مع بعضهن ليس من النوع الذي يكتب على الورق».


فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو
TT

فلسطين بين الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي جان جينيه

خوان غويتيسولو
خوان غويتيسولو

كاتبان ارتبطا بعلاقة حميمية وروحية بالعالم العربي، وبالمغرب تحديداً: الأول هو الفرنسي جان جينيه الذي أوصى بدفنه في مدينة العرائش بالشمال المغربي (توفي في الخامس عشر من أبريل/ نيسان1986)، والثاني هو الإسباني خوان غويتيسولو الذي أوصى هو أيضاً بدفنه في مدينة مراكش، عاصمة الجنوب المغربي التي كان يُقيم فيها منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي (تُوفي في الرابع من شهر يونيو/ حزيران 2017). وقد اشتهر هذا الكاتبان اللذان لا يزالان يحظيان بشهرة عالمية واسعة بتعاطفهما مع القضية الفلسطينية، وبدفاعهما المستميت عنها كما لو أنها قضيتهما الشخصيّة. وقد بدأت علاقة جان جينيه بالفلسطينيين انطلاقاً من أواخر الستينات من القرن الماضين، تحديداً بعد هزيمة حرب 67. ولم يكن صاحب «مذكرات لص» يكتفي بالتصريحات المؤيدة للقضية الفلسطينية، بل ظل يتردد على مخيمات اللاجئين ليعيش آلامهم وأوجاعهم عن قرب، وليقاسمهم الرغيف المر. ومن وحي ذلك كتب العديد من التحقيقات المؤثرة. دار «غاليمار» المرموقة طبعت روايته «الأسير العاشق» التي روى فيها فصولاً من حياته بين الفلسطينيين. ولم يختلف خوان غويتيسولو عن صديقه جان جينيه في تعاطفه مع الفلسطينيين. وفي ربيع عام 2002، كان ضمن وفد «البرلمان العالمي للكتاب» في الزيارة الشهيرة التي أداها هذا الوفد الذي كان يضم كلاً من البرتغالي جوزيه ساراماغو، والنيجيري فيل سوينكا وآخرين، إلى مدينة رام الله. وبعد وقوف الوفد على قبر الشاعر محمود درويش، كتب خوان غويتيسولو يقول: «الشاعر المحاصر من قبل جيش شارون في رام الله هو أحد كبار الشعراء العرب في القرن الحالي. ويعكس تاريخه الشخصي تاريخ شعبه، القرية التي ولد فيها في الجليل أزيلت من الخارطة في سنة 1948، وحين كان في السادسة من عمره كان يبحث مع أبناء أسرته عن مأوى في لبنان. ثم عاد إلى المناطق المحتلة، حيث التحق بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية، وسرعان ما قرر تكريس حياته للأدب والصحافة. وبعد أن اعتقل لأكثر من مرة على يد السلطات الإسرائيلية بسب نشاطاته الأدبية، غادر البلاد مرة أخرى في سنة 1970، حيث عاش في موسكو والقاهرة وبيروت وتونس وباريس».

جان جينيه

وقد بدأت علاقة الصداقة بين خوان غويتيسولو وجان جينيه في الخمسينات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة، فر غويتيسولو من نظام الجنرال فرانكو، مُختاراً الإقامة في باريس، وهناك التقى بجان جينيه. وهو يقول إنه انجذب إلى صاحب «مذكرات لص» منذ أول لقاء معه. لذلك سوف يظل قريباً منه، وعلى تواصل دائم معه حتى وفاته في ربيع عام 1986 في فندق بسيط في الدائرة الثالثة عشر بباريس. كما يعترف أن جان جينيه حرّره من عقده الموروثة عن تقاليد عائلته الكاثوليكية المحافظة، وأتاح له التعمّق في اختبار نفسه، وتجاربه الخاصة بعيداً عن التيارات الأدبية والفكرية التي كانت تهيمن على المشهد الثقافي الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين.

ومعلوم أن جان جينيه أحب العالم العربي منذ أن كان جندياً في الجيش الفرنسي في دمشق في الثلاثينات من القرن الماضي. وفي سيرته «مذكرات لص»، يروي أن المدينة التي كانت تفتنه أكثر من غيرها في سنوات شبابه عندما كان يعيش التشرد والجوع، هي طنجة. فلما حصل على الشهرة، بدأ يتردد على هذه المدينة ليرتبط بعلاقات مع بسطاء الناس في مختلف مدن المغرب، موصياً في النهاية بأن يدفن في العرائش. وفي السبعينات من القرن الماضي، أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق» التي صدرت بعد وفاته، التي كانت وستظل من أفضل وأروع الشهادات الأدبية عن محنة الشعب الفلسطيني. وفي خريف عام 1982، وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت طار جان جينيه إلى لبنان بمساعدة ليلى شهيد التي كانت آنذاك ممثلة لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس، ليكون شاهداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، وليدينها، من خلال نص بديع نشر بعد المجزرة المذكورة ببضعة أشهر.

وبسبب «الأسير العاشق»، ونص «صبرا وشاتيلا»، شنت وسائل الإعلام الإسرائيلي، واللوبيات اليهودية في الغرب، هجومات عنيفة على جينيه، متهمة إياه بـ«معاداة السامية». وفي كتاب بعنوان «إقامة قصيرة في القدس»، صدر في نهايات عام 2003، هاجم الفرنسي إيريك مارتي، جان جينيه، مُتهما إياه بـ«مساندة الإرهاب والإرهابيين»، ومعاداة «ديمقراطية إسرائيل»، الدولة «الأفضل والأكثر حرية» بالنسبة له في منطقة الشرق الأوسط. وقد بادر الراحل خوان غويتيسولو بالرد على إيريك مارتي بنص حمل عنوان: «جان جينيه والفلسطينيون». وفي هذا النص، كتب يقول: «أحدث لي كتاب (إقامة قصيرة في القدس)، نفس ما كان قد أحدثه لي المجلد الضخم لجان بول سارتر الذي حمل عنوان: (القديس جينيه، ممثلاً وشهيداً). فالكتابان سقطا من يدي قبل أن أكمل الثلاثين صفحة الأولى. وإصرار الكاتبين على (عقلنة) أعمال صاحب (مذكرات لص)، وتقليصها إلى سلسلة من الخلاصات المعدة سلفاً، وربطها بفلسفة هايدغر، وهيغل، وهوسرل، وكلّ هذا يبدو لي عملاً بلا جدوى، ولا نفع من ورائه. فكما لو أننا نسعى لالتقاط مياه البحر بواسطة الشباك. إن جوهر أعمال جان جينيه كما يعبّر عنه هو نفسه، يتملّصُ من القراءة الضيّقة والمُحْبطَة. وفي حالة إيريك مارتي هي قراءة مُشْبَعَة بالغضب المقدس الذي فجّره حسب ما أعتقد ردّ فعل الصحافة الفرنسية على (جولة) شارون في فناء المسجد الأقصى. تلك الجولة التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (...) وقد استخرج إيريك مارتي من العالم الشعري لجان جينيه المُعَقد والمُتَضمن خليطاً غريباً، بعض الخلاصات والقاطعة: جان جينيه معاد للسامية، ويكره دولة إسرائيل، ويحلم بتدميرها! إلاّ أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بمثل هذا الوضوح. ففي مقالتي التي خصصتها لـ(الأسير العاشق)، والتي حملت عنوان: (جان جينيه والفلسطينيون: اللبس السياسي والتجذر الشعري)، كنت قد لخّصتُ المشاعر التي خلّفتْها في نفسي قراءتي لهذا الكتاب، والتي كانت، ويجدر بي التذكير بذلك، قراءة متحررة، من أيّ وازع سياسي أو أخلاقي أو فلسفي. إن هذا العمل الذي تركه لنا جينيه يحدثنا عن فشل الثورة الفلسطينية. فالجاذبيّة التي كان يشعر بها تجاه الفدائيين الفلسطينيين، الذين سوف يتمّ سحقهم في ما بعد، ليس من قبل إسرائيل، وإنما من قبل جيوش عربية، كانت بداية لطريق مزروع بالأشواك وبالمسالك المسدودة وبالقفزات إلى الخلف التي تفقد القارئ اتجاهه تماماً مثلما هو الحال في المتاهة الميثولوجية لجزيرة كريت، وتجعله يغضّ الطرف عن ما تبقى حقاً من الكتاب: تصفية الحساب مع حياته ذاتها (منذ أن كان طفلاً مُهْملاً ويتيماً وحتى رفضه لوطنه فرنسا)، واكتشافه لحرارة الأمومة من خلال العلاقة بين الفدائي الفلسطيني حمزة ووالدته». ويواصل خوان غويتوسولو مقاله قائلاً إن «(الأسير العاشق) ليس كتاباً يتحدث فقط عن الثورة الفلسطينية قبل الانتفاضتين، واتفاقيات أوسلو، وإنما هو كتاب يولي اهتماماً كبيراً لمسائل ولمواضيع أخرى. إنه قاموس للمعرفة فيه نحن نعثر على سمات أساسية للتاريخ البشري: تفكير صادم، ودائماً غريب حول الكتابة والذاكرة والمجتمع والسلطة والمغامرة والأسفار والتمرد والإيروسية والموت. وهو تفكير الشخصيات التي تظهر في العمل، وأيضاً في تفكير مؤلفه أثناء وضعه للمسات الأخيرة له».

في السبعينات من القرن الماضي أقام جان جينيه في مخيمات الفلسطينيين. ومن وحي ذلك كتب رائعته «الأسير العاشق»

ومناقشاً أفكار إيريك مارتي بشأن معاداة جان جينيه للسامية، كتب خوان غويتيسولو يقول: «لنعد للنواة الأساسية لأطروحة مارتي، أي إلى المسألة التالية: هل كان جان جينيه معادياً للسامية كما أكد على ذلك سارتر؟ وأنا أقول إنني سمعته يشتم بحدة، أو أحياناً بنوع من المداعبة، البورجوازيين البيض، والولايات المتحدة الأميركية، والشوفينية الفرنسية، وإسرائيل. لكنني لم أسمعه يشتم اليهود البتة». وقد ختم خوان غويتيسولو مقاله قائلاً: «خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، دافع جان جينيه عن مشروع دولة فلسطينية ملائكية. وهي نفس الدولة التي دعا لها ياسر عرفات، فيها يتعايش المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة (وهذا يمكن أن يفترض ذوبان إسرائيل في محيطها العربي، ثم اختفاؤها كدولة). وقد كنّا من ضمن القلائل الذين آمنوا بقوة بهذا المشروع قبل أن ندرك أنه مشروع مستحيل التحقق. فالضغوطات التي يفرضها التاريخ والعقل ترسم في واقع الأمر حدود حقل الحلم، والسياسة لم تتوقف منذ أمد بعيد عن السباحة بينه وبين صلابة الواقع. إن السلام الذي سيقام في الشرق الأوسط لا بد أن يقوم على احترام الشرعية الدولية، وعلى اتفاق عادل ودائم بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المُرْتَقَبَة. وقد عاش جان جينيه، ومات في زمن آخر. وكانت رؤيته الثورية المعقدة والمتناقضة تنتمي إلى مناخ ابتكاره الشعري. لهذا فإن قراءة أولية، وعلى ضوء مذهب فلسفي معيّن، تبدو عملاً خالياً من أي جدوى، ومن أي منفعة. وفي النهاية، هو عمل خارج عن الموضوع، ومحكوم عليه بالفشل الذريع».


شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت
TT

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

في المجموعة القصصية «زغرودة تليق بجنازة» للكاتب والروائي المصري أحمد إبراهيم الشريف، يُحكم الموت قبضته بتراوحاته ومراوغاته المفاجئة حد الصدمة والجنون، والساخرة حتى البكاء، وذلك في فضاء تسكنه المفارقة كمكون رئيسي للسرد، بداية من عنوان المجموعة الذي جعل من رنّة الزغرودة المعروفة بمُصاحبتها للفرح ظلاً للقبور.

صدر الكتاب أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويضم 100 حكاية تتسم جميعاً بوِحدة نسبية من الطول، تبدو كهيكل فني للعمل يعتمد التكثيف الدلالي والإيقاع السردي المُناوِر.

في قصة «فضيحة» يُقرر البطل بكل وعي أن يهوي من الطابق العاشر لينهي حياته، وفي المسافة من الطابق العاشر للأرض، يبدأ في مراجعة قراره، ويتمنى لو يتعثر بحبل غسيل أو زينة رمضانية منسية ليتشبث بها قبل فوات الأوان، وفي تلك المسافة الزمنية السوريالية، يستدعي صوت أمه التي ستلومه على اختياره طريقة موت بفضيحة سيشهد عليها الجيران، تماماً كما اختارت عمته أن تموت بفضيحة عندما أشعلت في نفسها النيران وركضت في الطريق، في مقابل والده الذي آثر الموت في هدوء وكتمان بحبوب منومة قبل خلوده للنوم، لتبدو قرارات إنهاء الحياة وكأنها ميراث عائلي محتوم في دوائر مُغلقة، ويبدو الموت مادة حكائية قابلة للتشكيل.

استلهام الموروث الشعبي

تدور أجواء المجموعة القصصية في فضاء القرية، بتقاليدها وفقرها، ونُواح نسائها، والانتظار الذي لا تنقطع أوصاله على أرصفة القطارات، فبطل «قطار الفجر» لا تُغادره ذكرى ذلك اليوم الذي تاه فيه وهو طفل من أمه في محطة قطار، يظل بعد سنوات طويلة مُتشبثاً ببيته القديم الذي يطل على سكة حديد القطار، رغم ما صار عليه البيت من هلاك جعله كلما مرّ قطار من أمامه يرتج، يرفض البطل أن يغادر البيت المُتهالك، ويُطل كل مرة من شرفته مع «رجّة» قطار جديد، وكأنه يبحث عن وجه أمه الذي غاب معه ذات يوم.

أما بطل قصة «لا قطارات للموتى» فيظل مُرابضاً على رصيف محطة أسيوط بصعيد مصر لأيام، في انتظار عودة شقيقه، فأمه المُنتحبة حذرته من العودة بدونه. يتعاطف معه العابرون ويسألونه عن محطة القطار التي أخبره شقيقه أنه سيركب منها، ولكننا نعلم أنه ينتظر جُثمانه الذي وعدته الحكومة أن يصل لقريتهم، فيرحل بعد أن تأكد من أن «الميتين مش بيجوا في القطارات».

وتطرح المجموعة التباس علاقة الأبطال بفكرة الغياب، والاختفاء، والموت، فالموت محسوس الخطوات، ومرئي، تشم نذيره نساء القرية، بل يتحاورن معه كأنه معرفة قديمة، ففي إحدى قصص المجموعة يُقسم البطل أن أمه رأت منذ دقائق ملاك الموت بكامل هيبته يمر أمام بيتهم، وأنها سألته: «رايح فين بس على الصبح؟»، فأجابها: «خليكِ في حالك»، وبعد مرور وقت بسيط، سمعوا عويل موت صادراً على بعد خمسة بيوت منهم.

يبدو هذا الحدس غير بعيد عن الموروث الشعبي القروي الضارب في ترقب الموت، والإيمان بالماورائيات والسِحر و«العفاريت»، فالأطفال يترصدون رائحة الموت بعد موت أحد أبناء القرية، ويُطاردونه بالعصي والحجارة خشية أن يدخل بيوتهم ويستولي على أحد أفرادهم في طريقه، وأحد الأبطال يمر بجوار نخلتين يؤمن أهل القرية أن عفريتاً يسكنهما، فيمر بجوارها ويتحصن بترديد سورة «الإخلاص»، لكنه يقع في شرك الفضول، فيطلب من العفريت أن يُظهر له وجهه.

وتهيمن السردية الدينية في المجموعة على زمن القصص وأبطالها، ما بين تلقين الشهادة لمن يستقبل الموت، والسعي والذِكر وراء النعوش، كما أن الأبطال ينسبون الأحداث بتقويم رفع الآذان والصلوات: «وصل النعش ومؤذن جامع الشيخ سلمان ينادي لصلاة المغرب»، فحركة الزمن محدودة بحدود غيطان الذرة وجريد النخيل، التي يبدأ يومها بمطلع الفجر، ليسود الظلام والخوف من بعد صلاة العشاء «في الصباح خرج مرعي من البيت يضحك ويمزح، وعاد بعد آذان العشاء جثة مثقوبة الصدر».

وتبدو النساء في المجموعة وقد جمع بينهن قدر الفراق، والقهر الذي يسلبهن أزواجهن وأبناءهن قتلاً بدافع الثأر، أو بسبب التباري على إنجاب الذكور، فبطلة إحدى القصص «فهيمة حسنين» تُردد عديدها مع مطلع كل صباح منذ قتلوا ابنها، ولم تعد تُميّز من يأتِ لمواساتها بعد أن ابيضت عيناها من البكاء، و«حمدية» تقص جزءاً من شعرها كل يوم، وتضع القصاصات في جلباب زوجها الذي مات مقتولاً على يد ابن أخيه، ثم «فوزية» التي صارت امرأة بروح غراب، يخشى مَن حولها الاقتراب ولو خطوة من مُحيطها، بعد أن صارت نذير شؤم، وتردِّد أن من يقترب من نحيبها تصيبه لعنة، وذلك بعد أن تزوج زوجها بأخرى حتى تُنجب له الولد. وفي ذات صباح استيقظت القرية لتفاجأ باختفاء صوت فوزية وكأنها داهمها الخرس، فعلموا حينها أن زوجها المُفارق أنجب الولد، فدعوا لها بالصبر، وكفوّا عنها لقب روح الغراب.

تصطبغ أسماء الأبطال والبطلات في المجموعة بنكهة محلية قروية خالصة، بما في ذلك نسب الأبناء الذكور لأمهاتهم في زمن الموت، وإطلاق الدعاء وتوسل الرحمة، كما تطرح المجموعة سؤالاً يبدو وكأنه الحقيقة الغائبة وراء جرائم مسكوت عنها، وضحايا تائهين، وافتقاد سلطة المجتمع وعقابه، يختلط السؤال بالمرويّات الشفاهية، فيما يبدو الموت هو المُمسك بخيوط السرد، والمُحيط بأسرار من ذهبوا في أحشائه، كما يظهر في قصة «نهاية»، في إيقاع مثقل بالشجن والأسى: في الطريق إلى قبرها، يقول أهل زوجها: أشعلت النار في نفسها، ويصرخ أهلها: أحرقوها بعدما أوثقوها في سريرها، وتُسجل الوثائق الرسمية: سقطت لمبة جاز فأنهت كل شيء، ويهمس الناس: نهاية متوقعة.


«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية
TT

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

«نورس هامبورغ»... سرد دائري يجد القارئ نفسه عند نهايته قد عاد إلى البداية

تزعم هذه المقالة أنها ليست مقاربة تحليلية للتقنية السردية في رواية «نورس هامبورغ» للروائي والقاص السعودي عبد الله الوصالي، فقط، ولكن تتطرق أيضاً إلى الصعوبة التي اصطدمتُ بها قبل وفي بداية كتابتها. الحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هي أنني دائماً أواجه صعوبة في الكتابة عن أي نص أدبي؛ ويغدو الأمر أشدَّ صعوبةً وتعقيداً عندما يتجلى النص إضمامة من مواضيع يستحق كل منها الكتابة عنه. وفي كل الحالات، لا يكون الاختيار سهلاً، خصوصاً عندما تتساوى وتتقارب تلك المواضيع، أو تكاد، في الأهمية والجاذبية. هذا ما حدث أثناء تفكيري في الكتابة عن الرواية «نورس هامبورغ».

راودتني في البداية فكرة مناقشة العلاقات العاطفية والجنسية للشخصية الرئيسية في الرواية «يزيد»، لاستقراء واستجلاء بواعثها ودلالاتها، وما تلقيه من تأثيرات على علاقاته بمن حوله، وكذلك تأثير المرأتين «طيف» و«عذاري» عليه ودورهما في التغير في شخصيته الذي يلمسه القارئ في نهاية الرواية.

اختار «الروائي الوصالي»، أو «الوصالي الضمني»، أن يقدم في روايته «زير نساء»، أو ما يسمي في الإنجليزية «ladykiller» (حرفياً، قاتل السيدات) شخصية «يزيد» صاحب العلاقات المتكررة والقصيرة، التي ينهيها بطريقة خاصة حالما يشعر ببلوغه الارتواء العاطفي والجنسي؛ ارتواء عابر وقصير الأمد مثل كل علاقاته، لينخرط بعد ذلك في البحث عن امرأة أخرى يُخْمِدُ الرغبة دائمة التجدد والتدفق في شرايينه. هذا ملخص قصة «يزيد» من البداية إلى ما قبل النهاية.

فكرتُ جدياً في الكتابة عن هذا الموضوع إلى حد أنني صغت على سبيل الدعابة عنوانا مؤقتاً: «إغواءات نساء يزيد (الوصالي) في رواية (نورس هامبورغ)» لمقالة لم أشرع في كتابتها. لسبب غامض لم أشعر بالندم لمّا تلاشى هذا الموضوع من شاشة ذهني بطريقة «الفيد أوت»، لتحل محله ثيمة الغياب، غياب الأم والأب في حياة يزيد. موضوع هو، في رأيي، أشد إثارة وإغراء للكتابة عنه من الموضوع السابق، ومن المحتمل أن تأخذني مقاربته ومناقشته في مسار يجعلهما تتقاطعان مع موضوع «إغواءات نساء يزيد...» فربما يتكشف خلال معالجة هذا الموضوع أن حياة يزيد العبثية وعزلته واغترابه عمن حوله وانغماسه في الملذات لإسكات ضجيج غرائزه هي من نتائج غياب والديه في حياته، الأب بسبب اغتياله المبكر في بيروت إبان الحرب الأهلية حيث كان يعمل سكرتيراً أول في السفارة السعودية، والأم اللبنانية المسيحية لسفرها مُكرهةً لتنضم إلى أهلها في فرنسا، بعد تعذر استمرارها في الإقامة والعيش مع أسرة زوجها في مدينة الخبر.

ومثل سابقها، غابت ثيمة الغياب؛ لم تصمد أمام تقدم الفكرة التي كانت الأولى ولكن أشحت بتفكيري عنها، باحثاً عن غيرها، بيد أن غيرها الذي عثرت عليه سرعان ما تلاشى أيضاً أمام إصرارها على استرداد أولويتها المفقودة وموقعها في بؤرة تفكيري واهتمامي. تحليل التقنية السردية في «نورس هامبورغ» كان الفكرة الأولى؛ أي تحليل الخطاب السردي، فما التقنية السردية سوى الأداة أو الأدوات التي يتشكل بها الخطاب، أو يشاد بها المبنى الحكائي في أي نص سردي. والتقنية بأبسط تعريف هي الراوي/ السارد، أو مجموعة السُرّاد. وفي «نورس همبورغ» أكثر من سارد كما سيتضح خلال التحليل، وإن كان صوت السارد العليم هو الطاغي، ولكن وجود أصوات أخرى يحد من طغيانه/ سلطته، فثمة من يشاركه ولو بشكل بسيط في نسج الخطاب، وحتى سرد السارد العليم نفسه يختلف من موقف سردي إلى آخر.

يبدأ الخطاب السردي (الفصل الأول) من قبل نهاية القصة/ الحكاية، أي أن السرد يأخذ مساراً دائرياً يجد القارئ نفسه عند نهايته وقد عاد إلى البداية. يتجلى خلال قراءة استهلالية الخطاب حرص المؤلف الضمني على شد انتباه القارئ، والإمساك به من اللحظة الأولى، من الجملة الأولى: «من مكانه في فرندة الدور الثاني كان ينتظر، في أي لحظة، وميض أضواء مصابيح عربة الإسعاف الخاطفة، فقد انقضت العشرون دقيقة التي أخبرته عذاري أنها الزمن الذي ستستغرقه العربة من مكان انطلاقها» (ص9).

جملة واحدة قمينة بإثارة أسئلة عدة في ذهن القارئ، وبأن تُولِّد فيه التوتر والفضول للمعرفة، معرفة ذلك الشخص المجهول الذي ينتظر في الفرندة، وفي أي مدينة، وسبب انتظاره سيارة الإسعاف، ومن الشخص الذي ستأتي السيارة لتأخذه أو تحضره، ومن «عذاري» التي أخبرته عن الزمن الذي ستستغرقه السيارة للوصول إليه من مكانها. هذه الأسئلة وأسئلة أخرى قد تثيرها الجملة الأولى لا سبيل إلى الإجابات عنها سوى بالتقدم في القراءة، وهذا ما يهدف إليه الوصالي الضمني مصمم هذه الجملة الاستهلالية والمبنى الحكائي كله.

تدريجياً تتكشف المعلومات/ الأجوبة وينجلي الغموض الذي غُلِّفَتْ به البداية، ويظل اسم وهوية الشخص المنتظر في فرندة الدور الثاني مجهولين إلى ما قبل نهاية الفصل، حيث يرد اسمه على لسان «عذاري» المجهولة في البداية وهي تقدمه لصديقتها «طيف». لكن «طيف» ذاتها تهمس بعبارة هي لغز أيضاً لا بد أن يثير التساؤل عن علاقة «نورس... أيها الوغد!» بيزيد.

يبدأ الفصل بجملة تثير الأسئلة في القارئ، وينتهي بلغز يخفي السارد جوابه تواطؤاً ضد القارئ، الذي لا بد له من الانتظار إلى لحظة انكشاف قصة ما همست به «طيف»؛ إحدى ضحايا يزيد كان قد تعرف عليها عبر تطبيق المواعيد، الذي يخفي نفسه فيه وراء الاسم المستعار «نورس هامبورغ».

يظهر السارد العليم في الفصل الأول قريباً من يزيد، المبئر لمعظم ما يحتويه الفصل، والموقف السردي فيه يختلف عن الموقف السردي في الفصل الثاني الذي يشكل الاسم «يزيد» قنطرةً للانتقال إليه: «تنحدر أسرة يزيد...» (ص17). يتحرر السارد العليم، في الفصل الثاني، من ارتباطه بيزيد الذي يحدد كونه مبئراً اتجاه ومسار السرد وما يُسرد، فيبدأ السارد بسرد ما لا يعرفه يزيد، أو حتى لا يكترث بمعرفته مثل تاريخ أسرته وأصولها: «تنحدر أسرة يزيد الكبيرة من هضبة نجد في وسط شبه الجزيرة العربية. أسرة سكنت ساحل المنطقة الشرقية منذ أمد بعيد» (ص17). ويتخطى السارد حدود السرد إلى امتياز آخر من امتيازاته، ليعلق على إصرار أفراد أسرة يزيد، القادمة من نجد، على التمسك بقدر من التعصب بتقاليدهم، وحتى لهجتهم، في سعيهم إلى تأكيد تميزهم واختلافهم عن سكان المنطقة. يقول السارد معلقاً ومبدياً رأيه: «كان ثمة أمر اجتماعي يسند ادعاءها ذاك فهي تنتمي للمنطقة التي منها الأسرة المالكة، وربما تطرف بعض أفرادها بالادعاء بصلة نسب مع الدماء الملكية» (ص17).

في «نورس همبورغ» أكثر من سارد، وإن كان صوت السارد العليم هو الطاغي، ولكن وجود أصوات أخرى يحد من طغيانه

يوظف الوصالي الضمني في «نورس هامبورغ» سارداً عليماً يتجاوز دوره وسيطاً إلى التعليق على ما يسرد وإبداء آرائه وإطلاق تعميماته. سارد ذو ثقافة واسعة ومعرفة غير محدودة، لا يتردد في عرض معرفته أو الاستعراض بها. سارد من النوع المتدخل، الذي لا يحاول التخفي، ويظهر جلياً، مثلاً، عندما ينهمر بالكلام بمباشرة وتقريرية عن الوضع في الخليج بعد اكتشاف النفط: «منذ اكتُشف فيه ذلك المخزون الهائل من النفط، يعيش الخليج ومدنه ازدواجية مرهقة بين الحداثة المصاحبة لصناعة النفط وبين قيم تقليدية محافظة متجذرة...» (ص31)، أو عندما يتحدث عن رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة: «أمر تأخر كثيراً حتى شعرت النساء أنه لن يأتي أبداً. كان لا بد من قرار ملكي يحسم الجدل الاجتماعي الذي طال في ذلك الأمر وبات يتسبب في حرج كبير للدولة بقدر ما يسبب أذى للفتيات وهدراً لموارد الأسر المالية» (55)، أو عندما يتحدث عن الحرب الأهلية في لبنان.

يشعر القارئ أثناء قراءة تلك الفقرات والمقاطع كأن السارد يقرأ في مقالة أو كتاب، في لحظات يصل فيها عرضه لمعرفته ذروته، كما يسهم في إبطاء إيقاع السرد مثلما يحدث عند توقفه وتدخله للتعليق. لكن فيما يبدو محاولة للحد من انفراد وهيمنة السارد العليم على الخطاب السردي، ولغاية تحقيق التعددية الصوتية في السرد كما يبدو، يدفع الوصالي الضمني السارد العليم للانزواء جانباً، في مواضع معينة، ليتولى السرد بعض الشخصيات مثل أم يزيد غريس بطرسيان التي يأتي سردها في شكل رسالة إلكترونية من فرنسا، تروي فيها تفاصيل علاقتها بأبيه سليمان وزواجهما، وقصة مقتله في بيروت، كما يكون لـ«طيف» نصيبها من السرد، لغاية أن ترتق هذه الأصوات الثغرات في سرد السارد العليم، ولتتقاسم بذلك ولو جزءاً صغيراً من السُلطة السردية. يجمع بين سرد المرأتين، غريس وطيف، تحول يزيد إلى مسرود له، يقرأ ما كتبته أمه، ويستمع لـ«طيف» وهي تحكي قصة حياتها وحكايتها معه وتحذيرها إياه من التلاعب والتغرير بقريبتها «عذاري».


السعودية تستعرض ثقافتها في «أرتيجانو إن فييرا» بميلان

يستعرض الجناح الحِرف التقليدية السعودية والصناعات اليدوية التي تميزت بها البلاد لسنواتٍ طويلة (هيئة التراث)
يستعرض الجناح الحِرف التقليدية السعودية والصناعات اليدوية التي تميزت بها البلاد لسنواتٍ طويلة (هيئة التراث)
TT

السعودية تستعرض ثقافتها في «أرتيجانو إن فييرا» بميلان

يستعرض الجناح الحِرف التقليدية السعودية والصناعات اليدوية التي تميزت بها البلاد لسنواتٍ طويلة (هيئة التراث)
يستعرض الجناح الحِرف التقليدية السعودية والصناعات اليدوية التي تميزت بها البلاد لسنواتٍ طويلة (هيئة التراث)

تشارك السعودية، ممثلةً بوزارة الثقافة، في معرض «أرتيجانو إن فييرا»، الذي سيقام في مدينة ميلان الإيطالية خلال الفترة بين 2 و10 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، عبر جناحٍ يضم عدداً من الجهات التي ستُقدِّم للزوّار ثقافة المملكة بمكوناتها كافة، لتُسلط الضوء على التراث الوطني الغني بكنوزه المتنوعة.

ويشهد الجناح مشاركة هيئات: «التراث، وفنون الطهي، والمسرح والفنون الأدائية»، و«المعهد الملكي للفنون التقليدية»، و«الشركة السعودية للحرف والصناعات اليدوية»، وسيحتوي مدخله على تجربةٍ ثقافيةٍ مميزة، تُبرز الاهتمام بالشعر العربي، وتربطه بالثقافة الإيطالية، عبر انتقاء أبياتٍ شعريةٍ وترجمتها، وعكسِها على جدارياتٍ بالمدخل قبل أن يبدأ الزائر رحلته، متعرّفاً على ثقافة وتراث السعودية الغني، ومطَّلِعاً على إبداعات مواهبها.

وعبر جناح «هيئة التراث»، يقدم 25 حِرفيّاً، وروّاد الأعمال والبيوت الحرفية، للزوّار إبداعاتهم في الحِرف التقليدية السعودية، والصناعات اليدوية، التي تميزت بها البلاد على مدى سنواتٍ طويلة. ويدعم «المعهد» 12 طالباً وطالبةً؛ ليستعرضوا أعمالهم ومنتجاتهم الحِرفية في جناحه، فيما تستعرض «الشركة» أبرز منتجاتها الحِرفية.

بدورها، تُشارك أيضاً «هيئة فنون الطهي» عن طريق 12 طاهياً، يقدِّمون للجمهور تجربة الطهي الحي، وأطباقاً تقليدية شهيرة تختص بها مناطق المملكة، إلى جانب تجهيز مطعم تقليدي بالجناح، فضلاً عن تقديم القهوة السعودية، وبيع المنتجات التقليدية، بينما تُقدم «هيئة المسرح» عبر 3 فرقٍ أدائية؛ إحداها نسائية، عروضاً لـ13 فناً من الفنون الأدائية التقليدية المختلفة التي تتميز بها المملكة؛ لتعكس جماليات فنونها، وترسم صورة نابضة بالحياة للموروث الوطني.

تأتي هذه المشاركة ضمن جهود الوزارة والهيئات والكيانات الثقافية في تمثيل البلاد بالمحافل الدولية، لتعزيز التبادل الثقافي الدولي بوصفهِ أحد أهدافها الاستراتيجية، تحت مظلة «رؤية 2030»، وإبراز اهتمام المملكة بعناصر التراث الثقافي غير المادي مثل الشعر العربي وربطه بالثقافة الإيطالية، ضمن مبادرة «عام الشعر العربي 2023»، فضلاً عن تعريف المجتمع الدولي بالثقافة والفنون السعودية وما تختزله من جمالياتٍ وإبداعٍ متوارَثٍ على مدى سنواتٍ طويلة.


مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان
TT

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

تنطلق رواية «العروس» للروائي المصري حمدي الجزار من مكان افتراضي يحمل اسمها، هو عبارة عن مطعم وملهى ليلي فاخر بوسط العاصمة القاهرة، يرتاده الأثرياء وصفوة المجتمع، وفي ليلة رأس السنة، حيث يحتفل المطعم بمرور 71 عاماً على إنشائه.

تحت رذاذ تلك الليلة تتعدد صور وطبيعة الصراع في الرواية، وتنعكس على زمنيها العام والخاص، ما بين مرايا الماضي والحاضر، من خلال عين الراوي (الكاتب) السارد العليم والذي يجيد لعبة الوصل والقطع ما بين الشخوص والمكان. ففي ظلال هذه اللعبة يبدو الصراع طبقياً، يتمثل سيرة شرائح فقيرة ومهمشة من المجتمع وخطواتها المثقلة بمفارقات الحياة وعبث المصادفات، كما يبدو صراع بشر مع المكان الوعاء الحاضن لهم، يتأقلمون معه أحياناً، ويتمردون عليه إلى حد الفرار أحياناً أخرى؛ بحثاً عن وعاء أكثر اتساعاً وبريقاً، لكنهم مع ذلك يهرعون إليه كملاذ من تناقضات وتوحش فضائهم البراق. ومن ثم، تتعدد صور المكان في الرواية، فثمة مكان عابر طارد يمثله مطعم «العروس» تبدو الحياة بداخله مثقلة بخفتها ولهوها، ويبدو المطعم وكأنه قناع مراوغ لها، ووكرٌ للدسائس والمؤامرات وصراعات القوة والنفوذ، خارج جدرانه تصفو الحياة لنفسها، تغتسل من وحل الشهوات وأوهام الأماني اللزجة. في المقابل ثمة مكان أصيل مقيم، يشكل بؤرة البراءة والحنين الأول، يمثله «حي السيدة زينب» الذي ينتمي إليه أغلب الشخوص، ثم «نزلة السمان» أسفل منطقة الأهرامات بالجيزة.

وسط كل هذا، يبدو جوهر الصراع وكأنه صراع الكاتب نفسه مع عالمه الروائي، حيث يقتفي أثر شخوصه ومصائرهم، ويقطرها قطرة تلو أخرى في وعاء المكان. ما يكشف عن وعي ثاقب وعين حكاءة تتمتع ببصيرة سردية لها مذاقها الخاص، تعرف كيف تغرس الشخصية كنبتة في تربة المكان الطبيعي، ابن طفولتها وشهوتها البكر، وتتابعها بحنو وهي تنمو وتورق في ظلاله الدافئة، ثم تعيد رسمها من جديد في قماشة سردية كلاسيكية تتقلب فيها الشخوص ما بين صراعات الذات مع هواجسها وأحلامها وواقع المكان نفسه... فعلى سبيل المثال، تطالعنا شخصية إبراهيم مطر «النحات» المرموق، الذي يتردد على المطعم كعابر يقضي وقتاً برفقة حبيبته، لكنه يظل مشدوداً لمسقط رأسه، وتخبرنا الرواية بأنه وُلد في إحدى قرى «نزلة السمان» بالهرم، هناك أسس حياته في بيئة صالحة لعالمة الفني، عاش في كنفها طفولته، وتفتحت موهبته في فضاء الأهرامات إحدى عجائب الدنيا السبع وتمثال أبو الهول الشامخ، وما يحتويه المكان من آثار فرعونية، لا تزال محط أنظار العالم. وكذلك حبيبته الدكتورة نانيس والتي تتمتع بميزة أنها أحد الشخوص الخمسة الذين يملكون أسهماً في المطعم الفاخر. تعيش نانيس في حي جاردن سيتي الرومانسي الهادئ والذي يناسب مزاجها كأستاذة للموسيقى ويجدد شغفها بها وبألحان والدها الموسيقار الراحل التي تترد نغماتها الحانية الراقصة في أرجاء «العروس». أيضاً خالد عبد الباري «المتروديتيل»، أحد أبطال الرواية البارزين، والذي عرف «العروس» وهو طفل بصحبة والده «البارمان». يتمتع خالد بشخصية سمحة تمتزج فيها بداهة الفطرة وألفة الروح وبساطتها والتي تبدو انعكاساً لطبيعة حي السيدة زينب مسقط رأسه ومرتع صباه، بطيبة ناسه وروائحه الشعبية العريقة. تعكس شخصية خالد المكافح، الذي يعمل صباحاً في مركز الحضارة، ومساءً في المطعم، الضمير المخفي أو الغائب في تلافيف المكان وبريقه الزاعق. علاوة على أنه عاشق محب مخلص لزوجته سامية بشندي، رفيقة عمره وأم طفليه، رغم غيرتها الشديدة عليه والتي تكاد تصبح إدماناً ومرضاً.

هذه المقاربة الأولى تضعنا أمام الركيزة الأساس في هذه الرواية الصادرة حديثاً عن دار «ديوان»، بفصولها الاثنين والعشرين؛ وهي ما يمكن تسميته «المراوحة في المكان» فنحن أمام رواية شخوص تراوح في المكان، بعضها في القلب منه، وبعض الآخر في الهامش يتعلق بأهدابه من الخارج، متستراً بالتأقلم والخنوع، لكن عينه دائما مصوَّبةٌ للداخل، إلى حد التلصص. مثل كابتن «هراوي» رجل الأمن وموظف الاستقبال بالمطعم، فهو مجرد أداة لمراقبة الوافدين إليه، يتفحص ملامحهم وخطواتهم من خلال شاشة تليفزيونية كبيرة، يتسمر أمامها طيلة الوقت، ودائماً يتباهى بماضية كبطل سابق في كمال الأجسام، وأحد فتوات حي السيدة. أيضاً «شاهين» الشاب الأقصري الذي مسّته خرافة «عرق الصِّبا» التي روتها جدته، وأن من يحوز هذا العرق يتمتع بقوة خارقة، فينزل إلى قاع نهر النيل في فترة الجفاف، ويشرب من المياه المتناثرة في شقوق الطمي والطين ويرى النهر يشع ويتناثر في كفه كحبات اللؤلؤ. يتزوج شاهين، لكن لا ينجب، وبقوة اليأس يطلّق امرأته، يحررها منه، حتى تنعم بالأمومة من زوج آخر، ويغادر إلى القاهرة، وينتهي به الحال إلى مجرد بواب للعمارة الكائن بها المطعم.

تحت سقف «العروس» تتراءى شخصيات عدة، تتقلب في مرايا مصقولة بنزق الشهوة والجشع، وتتنوع أدوارها ما بين التواطؤ والغدر والخيانة، وبين الحرص على لقمة العيش بشرف وأمانة، شخوص شرهة ومآلات مصائر حزينة، تتسم خطواتها بالتوتر واللهاث عبر رقعة زمنية تتسع وتضيق في ثوب ليلة واحدة، وعلى مسرح مصادفة رخوة يتحول الخائن في ظلالها بطلاً وسيداً للمكان، بمنطق التحايل الذي يجيده ويروضه بمهارة لص، متخذاً منه قناعاً، ووسيلة للنفوذ والسيطرة على المكان والبطش بكل من يقف في طريقه، بلا مبالاة، أو مراعاة لعشرة أو ضمير... هكذا يطيح عمر عبد الظاهر الابن العاق لبائع الكيروسين المتجول بحي السيدة زينب كل من يقف في طريقه للاستحواذ على «العروس» والتحكم في كل صغيرة وكبيرة تخصه، يخون ويزوّر صكوك الأمانة التي حملها له وخصه بها الحاج مرزوق عشم الله، الرجل الورع التقي، أحد مشاهير حي السيدة زينب، الذي يحسن لفقرائها ومساكينها، ويدعوهم لوليمة عامرة كل أسبوع بقصره المنيف بحي المقطم، كما أنه الوحيد الباقي على قيد الحياة من ملاك «العروس»، أراد أن يزيح عن كاهله متاع الدنيا ويتفرغ للصلاة والعبادة. فيستدعي عمر عبد الظاهر الذي صنعه الحاج مرزوق وجعله «المدير المالي للعروس» وانتشله من وظيفته الفقيرة ومكتبه البائس للمحاسبة القانونية، ثم يمنحه وثيقة بموجبها يترك له مكانه، ليصبح رئيساً لمجلس إدارة العروس، ويضع رقم «صفر» أمام أسهم عمر فيه والتي اشتراها له بماله الخاص، ويذكّره بأن «من يحكم لا يملك».

يرفد هذه المراوحة للمكان «تقنية الوصف» إحدى ركائز معمارها الفني المجدول بنسيج معرفي وفني فائق. فنحن أمام كاتب وصّاف بامتياز، يعرف أسرار وجماليات هذه التقنية، وكيف تمنح السرد والحكي مساراً خاصاً، يجعله حياً ومفتوحاً على قوسي البدايات والنهايات. ثمة وصف لكل شيء، يستبطن العواطف والمشاعر والانفعالات الداخلية للشخوص، ويحلّق في فضائها، ويرصد أثر وانعكاس المكان عليها... وصف للثياب والشموم والروائح والعطور وأنواع الطعام، والطاولات والمفارش والكؤوس، ومقابض الأبواب والمناضد والحوائط، ورائحة الطقس... يتحرك الوصف كفعل معايشة، وتوثيق لنثريات المكان، ويلعب دوراً مهماً في الإيهام بالواقع من داخله وفي الخارج أيضاً، وتخيله بصوره متنوعة ومنسجمة سردياً مع تماثلات الزمن وطبقات الحكي، وبلغة قادرة على التشخيص والإيحاء، والتنقل بتلقائية من حيز الواقع المؤطر لبراح التخييل المفتوح على أفق أوسع. فالكاتب الراوي يتقمص الشخوص ويسبر أغوارها، وبذكاء أدبي مشرّب بمسحة شاعرية ينثر الكلام فوق شفاهها، وكأنه يتحاور معها أولاً قبل أن يقذف بها إلى القارئ.

يقول في صفحة (164) رابطاً ما بين النحت وأوتار الفرقة الموسيقية التي أنهت دورها وتتأهب لمغادرة مسرح العروس: «أغلــق الموســيقيون حقائبهم على كنوزهم الثمينة، وأخفوها عن العيون، كأنهــم يخفون عرائس ساحرة يجب سترها وراء حجب مصمتة، بعد أن فتنت الجميع. حملوا حقائبهم على صدورهم، وعلقوها على أكتافهم وظهورهم، وانحنوا مبتسمين تحية للجميع، وغادروا المسرح تاركين الخشبة في ضوء خافت، وكان النحات يحدق في المساحة الفارغة التي خلفوها وراءهم».

لكن الاستغراق في الوصف، لم ينج أحياناً من الحشو، وأصبح مجرد وظيفة تزينية لمفردات المكان.

يبقى من الأشياء المهمة في هذه الرواية أنها تنتصر للمرأة، وتبرز قوتها وصلابتها حتى في لحظات الضعف الإنساني النبيل، كمصدر قوة وطاقة للحياة، مثال «نانيس» القبطية التي تحب مطر «النحات» المسلم، و«سماهر» الراقصة التي تدافع عن كرامتها وشرف المهنة كراقصة فنانة تمتهن فناً حراً، تراه معجزة الجسد الإنساني... وغيرها من الشخوص التي ينحتها الكاتب بإزميل حكّاء ذي بصيرة خاصة، يعرف كيف تصبح الرواية أنشودة للجمال والحرية.


أربعة تماثيل حيوانية برونزية من قرية الفاو

أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
TT

أربعة تماثيل حيوانية برونزية من قرية الفاو

أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض
أربع قطع برونزية من قرية الفاو محفوظة في متحف الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض

* يتجلّى هذا الأسلوب اليوناني الكلاسيكي المتقن في قطعة برونزية أخرى من الحجم الصغير عُثر عليها في أول معبد اكتُشف في حدود المملكة من طريق التنقيب وهو المعبد الخاص بمعبود يُدعى الأحور

من قرية الفاو الأثرية، عاصمة مملكة كندة الأولى في نجد، خرجت مجموعة كبيرة من التماثيل تعكس التعددية الحضارية التي تميّز هذا الموقع. تحوي هذه المجموعة قطعاً حيوانية مصنوعة من البرونز، منها قطعة مزدوجة تمثّل أسدين متماثلين يحمل كل منهما بين أنيابه طوقاً دائرياً، وقطعة تمثّل دلفيناً يموج في حركة انسيابية متقنة، وقطعة منمنمة تجسّد وعلاً يحدّق في اتجاه الناظر إليه، وقطعة مشابهة تجسّد حيواناً غريب الشكل يقف ثابتاً فوق قاعدة مستطيلة.

تتميز القطعة المزدوجة بأسلوبها اليوناني الكلاسيكي الصرف، وهي على شكل أنبوبين يحمل طرف كل منهما وجهاً دائرياً يبلغ طول قطره نحو 9 سنتيمترات. الوجهان متماثلان، ويمثلان أسداً في وضعية المواجهة وسط لبدة شعر كثيفة تشكّل إطاراً له. الملامح مجسّمة بشكل دقيق، وتحاكي المثال الحي دون أي تحوير: الرأس عريض، العينان صغيرتان، الأنف بارز، الفم مفتوح، وبين الفك الأعلى والفك الأسفل يتدلّى طوق دائري على شكل سوار يبلغ طول قطره 4.5 سنتيمترات. بؤبؤ كل عين مُحدّد بثقب غائر، وكذلك تجويفا أعلى الأنف، وتظهر الشعيرات الطويلة في أسفلهما على شكل خطوط ناتئة بشكل طفيف. فقد أحد الوجهين أسنان فكّه الأعلى، وحافظ على نابَيّ فكّه الأسفل. في المقابل، حافظ الوجه الآخر على أسنان فكّه الأعلى المرصوفة بشكل متناسق، وفقد نابَيّ فكّه الأسفل، وبقي موقع هذين النابين ظاهراً على شكل ثقبين غائرين كبيرين.

في كتابه الخاص بقرية الفاو، افترض الباحث السعودي عبد الرحمن الأنصاري أن هذين الأنبوبين «كانا مركّبين على ذراع كرسي لشخصية مهمة»، وأضاف: «ولعلَّ هذين الرأسين كانا مسروقين من إحدى المقابر أو أحد بيوت المدينة السكنية، لأننا وجدناها في إحدى الدوائر الزراعية المنتشرة غربيّ المدينة، وعلى عمق 10 سنتيمترات». في الواقع، تُمثّل هذه القطعة المزدوجة مطرقة باب، وتتبع تقليداً عُرف في شرق اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ثم انتشر انتشاراً واسعاً في العالم الروماني المتعدّد الأقاليم، وبقي حياً إلى يومنا هذا. الأرجح أن هذه المطرقة وصلت إلى الفاو من الخارج، إذ لا نجد ما يماثلها في هذا الموقع أو في سائر بقاع الجزيرة العربية.

يتجلّى هذا الأسلوب اليوناني الكلاسيكي المتقَن في قطعة برونزية أخرى من الحجم الصغير عُثر عليها في أول معبد اكتُشف في حدود المملكة من طريق التنقيب، وهو المعبد الخاص بمعبود يُدعى الأحور. تمثّل هذه القطعة ما يُعرف بالعربية باسم الدُّخَس، والدّخس في تعريف «تاج العروس»، «دابَّة في البحر تنجِي الغريقَ، تُمكِّنه من ظَهرها ليستعين على السِّباحة، وتسَمَّى الدُّلْفِينَ». وأصل هذا الاسم يعود إلى كلمة «دلفوس» اليونانية التي تعني الرحم.

يتميّز الدلفين بجسمه الانسيابي، وبأنفه الطويل والنحيف الذي يُشبه المنقار المنحني، ويمتلك ذيلاً يتحرّك إلى أعلى وأسفل في أثناء سباحته. تُجسّد منحوتة الفاو هذه الصورة الواقعية في أدق تفاصيلها، وقد وصلت بشكل شبه كامل، إذ لم تفقد سوى طرف ذيلها. كما هو معروف، احتلّ الدلفين موقعاً بارزاً في العالم اليوناني القديم، إذ جسّد قوّة البحر، وظهرت صورته بشكل جليّ في جدارية تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تُزيّن قصر مدينة كنوسوس الملكية في شمال جزيرة كريت. تكرّرت هذه الصورة بشكل لامتناهٍ في العالمين اليوناني والروماني، حيث ظهرت بأشكال لا تُحصى في مجمل الميادين الفنية الصغرى والكبرى. وتردّد صدى هذا الظهور في العالم الشرقي الهلنستي بشكل واسع، كما يشهد الكثير من القطع الأثرية.

في كتابه «منطقة الرياض... التاريخ السياسي والحضاري القديم»، ذكر المؤرخ السعودي سليمان الذيب الدلفين، وقال في وصفه: «هو الحيوان الغريب الذي نعتقد أن إنسان وسط شبه الجزيرة العربية لم يتعامل معه بشكل مباشر»، وأشار إلى تمثاله المعدني الذي عُثر عليه «في معبد أحور بالفاو»، وربط بينه وبين نتاج الأنباط الفني، كما فعل من قبله عبد الرحمن الأنصاري. مثل أسَدَي مطرقة الفاو، يبدو هذا الدلفين يونانياً كلاسيكياً، ويخلو من أي حلية شرقية، والأرجح أنه وصل كذلك إلى الفاو من الخارج.

إلى جانب هاتين القطعتين، تحضر قطعتان معدنيتان تمثّل إحداهما وعلاً منتصباً على قوائمه، وتمثّل الأخرى حيواناً في وضعية مماثلة، رأى الأنصاري أنه «غريب الشكل»، ولم يحدّد هويّته. تتبع منحوتة الوعل الأسلوب الكلاسيكي، وتحمل طابعاً شرقياً يظهر في تجسيم القوائم المختزل، كما في تحوير القرنين الكبيرين اللذين يعلوان الرأس. يحضر جسم الحيوان في وضعية جانبية، ويحضر الوجه في وضعية المواجهة، وتبدو ملامحه محدّدة بأسلوب واقعي. يماثل هذا التمثال مجسمات خرجت من جنوب الجزيرة في القرون الميلادية الأولى، وحملت الطابع الهلنستي، وأضافت إليه لمسة محلية خاصة.

يختلف تمثال الحيوان «الغريب الشكل» من حيث الأسلوب، وهو على شكل كتلة جامدة يغلب عليها الطابع المختزل. يتميز هذا الحيوان بقرنيه، وبسنام يعلو كتفيه، ممّا يوحي بأنه ثور من الفصيلة التي تُعرف عالمياً باسم الزابو، وعربياً بالبقر الدرباني، وهي من الماشية المستأنسة التي شاعت صورتها في العالم الشرقي القديم بشكل واسع. يتبع هذا التمثال الصغير نسقاً فنياً قديماً ظلّ حياً في العالم الروماني، كما تشهد عدة تماثيل للزابو تعود إلى القرون الميلادية الأولى، منها على سبيل المثل قطعتان محفوظتان في متحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون، مصدرهما الشرق الأدنى أو آسيا الوسطى.

خرجت هذه التماثيل من قرية الفاو الأثرية التي تقع عند طرف الربع الخالي، وكانت في الماضي تسيطر على طريق التجارة القديمة، حيث لا تستطيع القوافل السير دون المرور بها. كانت هذه القوافل القادمة من أنحاء جنوب جزيرة العرب تحطّ فيها، وتنطلق منها إلى الأفلاج فاليمامة، قبل أن تتجه شرقاً إلى الخليج، وشمالاً إلى وادي الرافدين وبلاد الشام. شكّل هذا المرفأ الصحراوي موقعاً استثنائياً لتواصل الحضارات المتعدّدة، كما تشهد القطع الأثرية الكثيرة التي عُثر عليها بين أطلالها، ومنها هذه القطع المعدنية الأربع.


أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

أندرو موشن
أندرو موشن
TT

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

أندرو موشن
أندرو موشن

تكتسب كتابات الشعراء عن تجربتهم الشعرية قيمة خاصة قد لا تتوافر في كتابات النقاد المحترفين وأساتذة الأدب الأكاديميين؛ ذلك أن كتابة الشاعر عن فنه تجيء ثمرة معايشة حميمة لهذا الفن، وخبرة شخصية مباشرة بمسالك الشعر وشعابه ومضايقه على نحو يبرأ من التجريد الجاف والتنظير البارد.

وأحدث شهادة من هذا القبيل يقدمها كتاب صادر في هذا العام (2023) عنوانه «النوم على الجزر: حياة في الشعر» (Sleeping on Islands: A Life in Poetry). صدر عن دار «فيبروفيبر» للنشر بلندن، من تأليف الشاعر والروائي والناقد الإنجليزي أندرو موشن (Andrew Motion) الذي شغل في الفترة 1999- 2009 منصب شاعر البلاط في المملكة المتحدة، وهو أحد مؤسسي «محفوظات (أرشيف) الشعر» على الشبكة العنكبوتية الدولية. ويعيش حالياً في مدينة بولتيمور بالولايات المتحدة الأميركية، وذلك منذ تعيينه أستاذاً للفنون بجامعة جونز هوبكنز في 2015.

وموشن غزير الإنتاج، له عدد من الدواوين الشعرية. وفي أدب السير والتراجم: «فيليب لاركين: حياة كاتب» و«كيتس». وفي أدب المقالة والسيرة الذاتية والتأملات: «في الدم: مذكرات عن طفولتي». وفي النقد الأدبي: «شعر إدوارد توماس» و«فيليب لاركين». كما حرر قصائد مختارة للشعراء وليم بارنز وتوماس هاردي وجون كيتس وشعراء الحرب العالمية الأولى.

غلاف الكتاب

يتخذ كتاب «النوم على الجزر» شكل فقرات قصار تفصل بينها خطوط وتنتقل في الزمان والمكان جيئة وذهاباً في الفترة ما بين 1970 - 2021، فقد تبدأ إحدى الفقرات مثلاً في عام 2000 ثم ترتد إلى الوراء رجوعاً إلى عام 1976، وهكذا، مما يولد شعوراً بتدفق الزمن وجريانه وآليات الذاكرة التي تربط بين الماضي والحاضر وتعتمد على تداعي الأفكار واتصال تيار الشعور.

في مقدمته، يقول موشن إن كتابه هذا امتداد لكتابه السابق: «في الدم: مذكرات عن طفولتي»؛ إذ إن ذلك الكتاب سجل طفولته حتى سن السابعة عشرة. وهو هنا يواصل القصة ابتداء من ذلك العمر؛ أي إننا نلتقي به هنا شاباً يافعاً ورجلاً في منتصف العمر وشيخاً. وتتوقف القصة عند ربيع 2020. والفارق بين الكتابين أن «في الدم» كان مكتوباً باستخدام الفعل المضارع من وجهة نظر الطفل، محملاً بطزاجة الرؤية وطرافتها، أما «النوم على الجزر» فمكتوب باستخدام الفعل الماضي من وجهة نظر الراشد، كما أنه أميل إلى الانتقاء من تفاصيل الحياة؛ فهو يركز على مسيرته الشعرية ولقاءاته وصداقاته وعلاقاته بسواه من الشعراء، وأغلبهم الآن قد طوته يد المنون، ومن ثم كان بناء الكتاب أقرب إلى الطابع الشذري أو إلى جزر متناثرة في محيط الحياة. وهذا ما يفسر عنوان الكتاب: «النوم على الجزر».

حين منح موشن إجازة من التدريس بجامعة جونز هوبكنز لمدة عام، أغلق على نفسه باب مكتبه وقرر أن يستعرض ماضيه، فكان هذا الكتاب. وزاد من عزلته ظهور وباء «الكوفيد» وتوقف عجلات الحياة عن الدوران وانتشار الشعور بالحزن والإحباط في الحياة العامة والحياة الخاصة على السواء.

وفيما بين بداية الكتاب ونهايته نلتقي بموشن في مواقف مختلفة ولحظات تتراوح بين السعادة والشقاء، والنجاح والإخفاق، ولكنها كلها تجتمع على رسم صورة لحياة شاعر أثناء العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من الألفية الجديدة، حياة يشتبك فيها العام والخاص. وتقوم الأحداث الخارجية – سياسية وغيرها - في مؤخرة الصورة، ولكن البؤرة دائماً هي فن الشعر محور حياة موشن، بل مبرر وجوده ذاته.

وأهم علامات الطريق في حياة موشن، كما يسجلها، هي ما يلي: في الفترة الفاصلة بين انتهائه من المرحلة الثانوية والتحاقه بـ«كلية الجامعة» بجامعة أكسفورد التقى بفتاة تدعى جوانا صارت زوجته وهما ما زالا طالبين جامعيين. انتهى الزواج بالطلاق وأعقبته زيجتان أخريان. وبعد حصول موشن على الليسانس شرع في كتابة رسالة للماجستير عن الشاعر الإنجليزي إدوارد توماس تحت إشراف الشاعر والمحاضر جون فولر.

ومن الأحداث الشخصية التي يذكرها موشن أيضاً أن أباه أصيب بالسرطان في العظام (كان قد تزوج بعد وفاة الأم). وكما بدأ الكتاب بوفاة الأم فإنه ينتهي بوفاة الأب.

هذا عن الجوانب الشخصية من حياة موشن. أما عن الجوانب العامة ونشاطه الأدبي والوظائف التي تقلدها، فإنه يخبرنا بأنه بدأ ينشر قصائده في عدة مجلات ودوريات. وحصل على وظيفة محاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة «هل»، وكان أمين مكتبتها هو فيليب لاركن لأكثر من عشرين عاماً. وفيما بعد استقال موشن من وظيفته في جامعة «هل» وعاد للعيش في أكسفورد، وتولى رئاسة تحرير مجلة «بويتري رفيو»، وغدا مشرفاً على برنامج للكتابة الإبداعية في كلية «هولواي الملكية» بجامعة لندن، واختير شاعراً للبلاط الملكي، ثم منح لقب «سير».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير، وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه هو حادثة موت أمه، مما قاده إلى التفكير في الموت بعامة وموت المحيطين به في الأسرة والمدرسة والمعارف بخاصة.

وبدأ ينظم الشعر – إلى جانب قراءته - وهو طالب في المدرسة الثانوية. وكان ناظر المدرسة، لحسن الحظ، محباً للشعر ومهتماً بصفة خاصة بشعر الحرب. واستهوته قصائد إدوارد توماس وإميلي دكنسن، لكن لماذا الشعر بوجه خاص؟ لمَ لا يختار شيئاً أكثر إدراراً للربح المادي؟ تراكمت هذه الأسئلة في ذهنه، ثم كان الجواب: «الشعر لأنه صوت المعاناة؛ لأنه قد يحفظ ذكرى أمي في كلمات؛ لأنه فرار من الماضي وإعلان استقلال؛ لأنه ذو سحر خاص وجمال لا يقاوم؛ لأن أشكاله دعوة إلى شعور أشد عمقاً وفكر أكثر دقة؛ لأنه يمثل التكثيف والاستقطار؛ لأنه ينتمي إلى كل إنسان؛ لأنه ابن عمومة للامعنى، وهو مع ذلك يقول الحقيقة بطريقة غير مباشرة؛ لأنه منعزل؛ لأنه يجعل العزلة سبيلاً للتواصل؛ لأنه - بتعبير بايرون - (شعور بعالم سابق ومستقبل)؛ لأنه لا يحوجه إلى أسباب أو أعذار؛ لأنه ليس شكلاً من أشكال المعنى وإنما هو طريقة للوجود».

سؤال آخر كان يطارده: كيف يغدو شاعراً حديثاً؟ كيف يحب عظماء الشعراء الموتى ويترك كلماتهم تتغلغل في مسامه ومع ذلك لا يكون مجرد صدى مردد لأصواتهم؟

صدر أول ديوان لموشن (وكان ديواناً صغيراً في خمسين صفحة) عن دار نشر «كاركانت» التي يشرف عليها الناقد مايكل شميت في 1978. كان الديوان مؤلفاً من ثلاثة أقسام: الأول قصائد متفرقة، والأوسط قصيدة قصصية طويلة نال عنها جائزة «نيودجيت» للشعر بجامعة أكسفورد، والثالث قصائد عن أمه.

ماذا كانت محركاته للكتابة؟ يقول: «كانت الكتابة كما يراها ذهني سبيلاً لرسم خريطة للزمن، لدوائره وخطوطه المستقيمة على السواء، وكانت الكلمات على الصفحة سبيلاً لقول: إني هنا». ويقول: «بدأت أكتب لأن الكتابة موقع يوفر لي الخصوصية؛ لأنها أعانتني على تعميق ما أشعر به (وأحياناً على فهم ذاتي بطريقة أفضل)»، فالقصائد «طريقة لتقبل ما هو محتوم، وأيضاً لإيقاف الزمن أو الخطو خارج الزمن».

ويعبر عن الصعوبات التي يواجهها الشاعر فيقول: «كانت الكلمات التي أريد أكثر ما أريد أن أستخدمها في قصائدي وراء متناولي دائماً»، إلى أن كان يوم شرع فيه في كتابة قصيدة عن ثياب أمه الراحلة (ظل أبوه عدة سنين يحتفظ بثياب زوجته، على سبيل الوفاء لذكراها، في علية البيت)، فإذا بالكلمات تواتيه وتستجيب لما يريد أن يقوله وكأنها استرجاع لذكرى.

وطموحه تعبر عنه الكلمات الآتية: «في ممارستي الشعرية كنت أطمح إلى توسيع نطاق العقيدة الغنائية، وأن أقاوم إغراء النظم حين أرتطم بخبرة شخصية حميمة كالحب أو الأسى أو الوحدة بحيث لا تعدو القصيدة أن تكون صرخة إيقاعية. وبدلاً من ذلك أردت أن أصطنع مقاربة أكثر موضوعية: أن أكتب قصائد قصصية يبدو على السطح أنه لا صلة لها بظروف حياتي الشخصية، مما يكفل أن تخرج واسعة النطاق متنوعة الاهتمامات، ولكنها تظل في الوقت ذاته مستلهمة من مشاعر شخصية قوية. أردت بمعنى آخر أن أكون انطوائياً وانبساطياً في آن، أن أوفق بين الغنائي والقصصي».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير... وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها

ومن الأجزاء الممتعة في كتاب موشن ما يرويه عن شعراء عصره الذين تعرف عليهم، وملاحظاته عن شخصياتهم ومظهرهم وسلوكهم، وصلاته بهم. من هؤلاء الشعراء و.هـ. أودن، وروبرت لويل، ووليم إمبسون، وشيمس هيني، وفيليب لاركن، وتد هيوز.

إن شهادة موشن في هذا الكتاب إضافة عصرية إلى شهادات سابقة عبر القرون. فنحن نتذكر؛ إذ نقرأه، القصائد التي نظمها هوراس اللاتيني وبوالو الفرنسي عن «فن الشعر». وفي الأدب الأميركي نسترجع مقالة للقاص والشاعر والناقد إدجار آلان بو، عنوانها «فلسفة الإنشاء» وصف فيها نظمه لقصيدته المسماة «الغراب»، وفي القرن العشرين شرح هارت كرين في بعض رسائله كيف نظم قصيدته «الجسر». وكتب أرشيبولد ماكليش قصيدة عنوانها «فن الشعر» ختمها بقوله: «على القصيدة أن تكون، لا أن تعني». وعربياً، كتب عدد من الشعراء من زوايا مختلفة عن حياتهم في الشعر: عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم. وفي كتاب أستاذ علم النفس الدكتور مصطفى سويف عن الإبداع الفني، في الشعر بخاصة، شهادات عدد من الشعراء والكتاب عن طرقهم في الكتابة، ومراحل تطورهم، والمؤثرات الذهنية والوجدانية والحياتية التي دخلت في تكوين أعمالهم.

وُلد موشن في لندن عام 1952 لأب حارب في الحرب العالمية الثانية وكان من الجنود الذين هبطوا على شاطئ نورماندي في 1944، وأم تدعى جيليان، وكان له أخ أصغر يدعى كيت التحق بكلية الزراعة، ثم اشتغل تاجر بذور. وتلعب الأم دوراً مهماً في هذه الذكريات، وكانت قد لقيت حتفها من جراء حادثة سقوط عن صهوة جواد ارتطم حافره المعدني برأسها، مما أحدث لها نزيفاً في المخ كانت فيه نهايتها بعد أيام قضتها في المشفى. وستخلف هذه الحادثة أثراً باقياً في وجدان موشن وفي قصائده.