يقول المفكّر العسكري الصيني التاريخي صن تسو إن على القائد المميّز أن يجمع المعلومات عن العدو، وحتى التلاعب بكلّ فرضيّاته. وهذا أمر يأخذنا إلى أهميّة الخداع في الحرب (Deception). فكلّ الحروب، حسب صن تسو أيضاً، تعتمد على الخداع.
ويُفضّل صن تسو الحرب السريعة، المحدودة، ودون دماء إذا أمكن. من هنا ضرورة التواضع في وضع الأهداف التي تتماشى مع الإمكانات.
والهدف دائماً هو ضرب إرادة العدو وقدرته على القتال.
والسؤال يبقى: هل تصنّف الحرب على أنها فن؟ وهل وضع استراتيجيّة معيّنة يعني حتماً النصر؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن كلّ الاستراتيجيّات الموضوعة تعد منتصرة، وهذا أمر ينافي العقل والمنطق. فعلى أحدهم أن يربح، وعلى آخر أن يخسر.
كما أن أسباب النصر أو الخسارة كثيرة ومعقدّة، فيها كثير من المعطيات والمتغيّرات التي يتفاعل بعضها مع بعض بطريقة غير خطّية (NonLinear). وفي هذه المعادلة، يعتقد القائد السياسي - العسكري أنه يُسيطر على تفاعلاتها الداخلية. لكن التجارب التاريخيّة تثبت أنه، وبعد الطلقة الأولى للحرب، يصبح هذا القائد متغيّراً بسيطاً من ضمن المتغيّرات اللامحدودة التي تغذي هذه المعادلة، فيخرج الأمر عن سلطته بالكامل.
وقد حدّد الكاتب الأميركيّ الراحل الفين توفلر، أهم ثلاث ثورات في التاريخ وهي: الثورة الزراعيّة، والثورة الصناعيّة، وحالياً الثورة المعلوماتيّة. ولكل ثورة معلومتها السحريّة التي تنتج الثروة وتخلق القوّة.
حالياً، في الثورة المعلوماتيّة، المعلومة هي الأساس، كما الداتا (Data). لكن هذا لا يعني أن الثورتين الأخريين أصبحتا من الماضي. لا بل يمكن الجزم بأنهما موجودتان، لكنهما مُعدّلتان لتتناسبا مع الظروف الحالية. بكلام آخر، أصبحت السيارة التي أنتجتها الثورة الصناعيّة سيّارة ذكيّة، بفضل الثورة المعلوماتيّة.
وعلى سبيل المثال، أدخل الكاتب كلود شانون كلمة بيت (Bit) لتقيس قيمة المعلومة، ولتنضم هذه الكلمة إلى سابقاتها من الكلمات التي أنتجتها الثورات السابقة، من الزراعيّة إلى الصناعية، كالإنش والباوند والدقيقة.
ويندرج هذا الأمر على الحرب بشكل أساسيّ. ففيها يستعمل الإنسان قمّة ذكائه ونبوغه لقتل الآخر. وفيها يستعمل خلاصة ما أنتج من سلاح لقتل الآخر.
وعليه، تأتي المعلومة - الاستعلام لتحتلّ مكانة متقدّمة في كلّ ثورة، وفي كلّ حرب، وفي أيّ وقت، لتكون العامل الأساسيّ لتحقيق النصر.
> الاستعلام في الحرب
إذا اعتبرنا أن للحرب ثلاثة مستويات: الاستراتيجي، والعملاني والتكتيكي. فإن لكل مستوى معلومته الخاصة، كما استعلامه، وذلك حسب القيمة والأهميّة العسكريّة. لكن الأكيد هو أن هذه المستويات الثلاثة يتكامل بعضها مع بعض، لتحقّق الأهداف الجيوسياسيّة العليا.
لذلك، لا يمكن لنصر تكتيكي محدود مثلاً، أن يؤدّي إلى نصر كبير إذا كانت الاستراتيجيّة خاطئة. كما لا يجب الجزم بأن أيّ فشل تكتيكي يعني الهزيمة المطلقة في ظلّ استراتيجيّة صحيحة ومناسبة. فأساس النصر يكمن في التأقلم.
> في منظومة الاستعلام ترتكز المنظومة على 3 مستويات وهي:
- جمع المعلومات.
- تنقيتها وتحليلها، وتحويلها إلى سلعة يمكن استغلالها.
- توزيعها للاستعمال، وانتظار ردّة فعل الواقع الحقيقي.
بعد الاستعمال، ينتج الواقع السابق واقعاً جديداً، ومُعطيات جديدة، وكذلك الأمر معلومات مختلفة، لتتكرّر آلية المنظومة أعلاه. إنه عمل مستمرّ، دون كلل أو ملل، والأسرع في تحويل المعلومة إلى سلعة قابلة للاستعمال يُكتب النصر له.
> الاستعلام على الساحة الأوكرانيّة
بدأ الاستعلام على الساحة الأوكرانيّة من المستوى الأعلى، الجيوسياسي. وفضحت الإدارة الأميركيّة خطّة الرئيس بوتين، إن كان عبر تصريحات الرئيس بايدن، أو من خلال نشر الصورة الجويّة للحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا.
هذا مع التذكير بأن الرئيس بوتين نفسه كان قد أعلن الحرب علناً على أوكرانيا. وهكذا، تنتفي المفاجأة الاستراتيجيّة. حتى إن مدير «سي آي إيه» وليم بيرنز، كان قد زار سرّاً موسكو، ليحذّر الرئيس بوتين من عواقب اجتياج أوكرانيا.
> مؤشرات السياسة الأميركيّة المستجدّة في أوكرانيا
زيارات من مستوى رفيع، سياسيّ وعسكري، إلى كييف لوزيري الخارجيّة والدفاع، تلتها زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركيّ نانسي بيلوسي.
اجتماع أكثر من 40 دولة في ألمانيا بقيادة أميركيّة بهدف مساعدة أوكرانيا في كلّ المجالات، خصوصاً العسكريّة.
تصريح واضح وصريح من قبل وزير الدفاع الأميركيّ لويد أوستن، بأن أميركا تريد أن ترى روسيا ضعيفة.
الدعم الأميركيّ العسكري المستمر، الذي يقدر بعشرات المليارات من الدولارات الأميركيّة حتى الآن.
باختصار، هناك تبنٍّ أميركي كامل للحرب على روسيا على الساحة الأوكرانيّة.
فإذا أتتك الفرصة الاستراتيجية لإضعاف عدوّك، فما عليك إلا تبنّيها. وهكذا فعلت أميركا.
> ماذا عن الجدل القائم مؤخراً حول مساعدة أميركا لأوكرانيا استعلاميّاً؟
الجواب بسيط. فإذا كانت سياسة أميركا المستجدّة إضعاف روسيا، وإذا كانت أميركا تمدّ الجيش الأوكراني بكلّ ما يلزم من الأسلحة الحديثة، فمن المنطقي أن تساعد أميركا الجيش الأوكراني في الاستعلام الاستراتيجي والتكتيكي.
فالقنبلة الأميركيّة للمدفع الأوكراني تستلزم إحداثيات العدو الروسيّ، ودون هذه الإحداثيات لا نتيجة إيجابيّة تُنتظر من كلّ الدعم.
ومن المنطقي أن تكون أميركا تراقب المسرح الأوكراني ليلاً ونهاراً، كل يوم، ومن المنطقي أيضاً أن تتنصّت على كل الاتصالات العسكرية وحتى السياسية الروسيّة. ومن المنطقي أن تصوّر أميركا بواسطة الأقمار الصناعيّة كلّ المسرح الأوكراني، ومن المنطقي أن تعرف أميركا مسبقاً أماكن الحشد العسكري الروسي، وحتى محاور التقدّم الأساسيّة، كما الأهداف التي يريد تحقيقها الجيش الروسيّ.
ومن المنطقي أن ترصد أميركا حركة الأساطيل البحرية الروسية، خصوصاً في البحر الأسود.
لذلك، تستعمل أميركا طائرات «الأواكس» التي تحلّق بصورة مستمرّة على الحدود الأوكرانية، لرصد كل تفصيل، وسماع كلّ محادثة. كذلك الأمر، تقوم «ناسا» برصد مستويات ومدى ارتفاع درجات الحرارة في كلّ بلدة وقرية داخل أوكرانيا، لمعرفة مستوى وحجم القصف المدفعي والصاروخي على هذه المناطق. كما تستعمل أميركا حلف «الناتو» للاتصالات والمعلومات، والموجودة في هولندا، لرصد الحرب الأوكرانيّة. وأخيراً وليس آخراً، هناك منظومة ما يُسمّى الـ5 عيون (Five Eyes)، والمؤلفة من كلّ من أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا، لتبادل المعلومات على كل الصعد.
ختاماً، إن كل ما يدور من جدل حول تزويد أميركا لأوكرانيا بإحداثيات الجنرالات الروس الذين قتلوا، أو حتى السفينة الحربية «موسكوفا» التي أُغرقت، هو جدل عقيم لا لزوم له بناء لما ورد أعلاه.
الاستعلام الاستراتيجي ـ التكتيكي في أوكرانيا
الاستعلام الاستراتيجي ـ التكتيكي في أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة