المغرب.. من الساحل إلى الصحراء

رحلة إلى بعض من أجمل مدن البلاد الساحرة

صحراء جميلة تغري زائرها برمالها الذهبية
صحراء جميلة تغري زائرها برمالها الذهبية
TT

المغرب.. من الساحل إلى الصحراء

صحراء جميلة تغري زائرها برمالها الذهبية
صحراء جميلة تغري زائرها برمالها الذهبية

كانت درجة الحرارة 90 درجة بينما محمد يغطي رأسي بغطاء أزرق اللون يستخدمه بدو الصحراء المغاربة من أجل حماية أنفسهم من الشمس. وبالقرب من ذلك المكان تتناهى إلى أسماعنا أصوات لجمال، بينما يضع عليها المسؤولون عن رعايتها، الركاب استعدادا لرحلة قريبة. وتمتد وراءنا الكثبان الرملية الشاسعة التي يبلغ ارتفاعها ارتفاع طابقين، ويتماوج محيط من الرمال باتجاه نهاية الأفق. وبعد رحلة استغرقت أسبوعا في أنحاء جنوب المغرب، بدأت أخيرا مغامرة داخل الصحراء تحقيقًا لحلم ظل يراودني لعقدين من الزمان. سألني محمد، المدير الشاب للفندق الذي كنت أمكث به: «هل معك ماء؟»، مشيرًا إلى حقيبة السفر التي تحتوي على أشيائي الخاصة وهي برتقالة، فرشاة أسنان، وأيضا زجاجة مياه. وفجأة صدمتني حقيقة أن هذه أشياء قليلة جدًا. وكنت أنتظر نصائح عند الوداع بشأن الوقاية من الشمس، والتنقل في الصحراء، ووسائل البقاء على قيد الحياة، وأسوأ ما يمكن أن يحدث، لكن محمد اكتفى بالابتسام.
وعادت نسائم الربيع للهبوب مرة أخرى مما أثار الخوف داخلي. وسألت: «ليس هناك احتمال أن تهب عواصف رملية، فهي تبدأ في الصيف، أليس كذلك؟». وحاولت أن أخفف من أثر الملاحظة بالدعابة. ففي النهاية ليست هذه سوى أكبر صحراء في العالم، إنه عالم لا يهدأ من الشمس الحارقة، والرمال الساخنة التي تمتد على مساحة 3.5 مليون ميل مربع تقريبا، حيث يمكن أن تتخبط بلا اتجاه لأيام أو أسابيع في قلب حرارة مميتة دون أن تلوح أي علامة تدل على وجود حياة لبشر أو حيوان ربما باستثناء عقرب واحد. ما أسوأ شيء يمكن أن يحدث؟
هبت أول رياح صحراوية في حياتي منذ 20 عاما علي حين كنت في الجامعة من صفحات رواية «مأوى السماء» الوجودية لبول باولز والتي صدرت في أربعينات القرن الماضي والتي كانت تروي حياة ثلاثة أميركيين يتنقلون عبر صحراء شمال أفريقيا. وجذبتني الرواية من أول كلمة وأثارت حماسي وتوتري. «استيقظ وفتح عينيه. لم تكن تلك الغرفة تعني الكثير له، فقد كان منغمسا في العدم الذي جاء لتوه منه». وحملتني تلك العبارات الحزينة نحو طرق لا تقل عجبا وإبهارًا عن تلك التي يتخذها بدو الرواية الذين توغلوا في قلب الصحراء اللامبالية. ويكتب باولز عن كيت، التي تسافر مع زوجها بورت قائلا: «لقد أذهلها صمت المكان. وكان هذا ليجعلها تظن أنه لا يوجد كائن حي على بعد ألف ميل. إنه صمت الصحراء الشهير». وترددت أصداء تلك العبارة «صمت الصحراء الشهير» في داخلي، وانتهى بي الحال إلى اختيار موضوع القصة الغريبة لجين، زوجة باولز، وهي نموذج لكيت، ليكون موضوع رسالة الماجستير الخاصة بي. والجدير بالذكر أن جين وبول باولز أقاما لعقود في مدينة طنجة المغربية التي بها ميناء حتى نهاية حياتهم، حيث تُوفيت جين عام 1973، وتُوفي بول عام 1999.
خلال السنوات التالية، أخذت أغذي الحلم الذي كانت تحلمه الفتيات اللاتي يتخذن من الجبل مأوى لهم، والتي تشكل قصتهم خطا رفيعا روائيا داخل رواية «مأوى السماء». وكان الحلم هو زيارة الصحراء، وتسلق الكثبان المرتفعة، وشرب الشاي في الصحراء. وحانت اللحظة في شهر مارس (آذار) الماضي، فبعد جولاتي الاستكشافية في مراكش، وفاس، والدار البيضاء، خلال زيارات سابقة، توجهت إلى الجنوب النائي المتسع، والذي يعد منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة تمتد على مساحة شاسعة. وعل متن خطوط حافلات «سي تي إم» و«سوبراتورز»، تنقلت عبر الجبال المتفرقة المتباعدة، وبين وديان الأمازيغ الجبلية، وسكان شمال أفريقيا ذوي البشرة البيضاء الذين كانوا موجودين قبل وصول العرب في القرن السابع الميلادي ولا يزالون يمثلون أغلبية سكان جنوب المغرب.

أغادير
بعد الوصول إلى مراكش بدأت رحلة بالحافلة مدتها ثلاث ساعات إلى أغادير التي تعد بوابة على الساحل تمتلئ بالشواطئ المتواضعة، وملاعب الغولف، والمنتجعات السياحية. وكان المنتجع الذي أقمت فيه يسمى «كينزي يووربا» نظيفا ذا طابع يجمع بين العصرية وطابع الموريين، ويبدو أنه ذائع الصيت بين السائحين القادمين من شمال أوروبا ممن يأتون إلى مطار أغادير الدولي على متن خطوط طيران منخفضة التكاليف وينتشرون حول أحواض السباحة حيث تتوافر كل وسائل الاسترخاء. ولعلمي أن أغادير ستكون فرصتي الأخيرة للاستمتاع بالشاطئ، والطعام البحري الطازج، والسهرات الليلية التقليدية، اعتزمت تدليل نفسي قبل تجربة الحرمان في الأراضي النائية. وكان المقصد الأساسي الذي دفعتني إليه حاجتي الأولى هو شارع 20 أوت الذي يمر بين مبان خراسانية بيضاء قاتمة تم تشييدها بعد ما دمر زلزال عام 1960 المدينة، ويؤدي إلى شاطئ المحيط الأطلسي. وتحت أشعة شمس العصر، كان رجال مغاربة ذوو شوارب كثة ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، وأطفال يصيحون بمرح، ونساء يرتدين القفطان الملون الطويل، يتنزهون بين الأشياء المألوفة والطقوس التي تميز النزهات بطول الشواطئ في مختلف أنحاء العالم مثل الرجل الذي يلوي قبعات من البالون، والصفوف الممتدة من أجل تناول الآيس كريم الذي يقدم داخل مخروط من البسكويت، والصبية الذين يتباهون برقصاتهم الحماسية لإثارة إعجاب الفتيات. قد تشبه مدينة أغادير جنوب فلوريدا أو جنوب تكساس، باستثناء أن النساء بها يرتدين غطاء الرأس، وتحمل اللافتات عبارات مكتوب باللغة العربية، ومنها لافتة «ماكدونالدز»، وإن كانت مطعمة ببعض كلمات من اللغة الفرنسية، التي تستخدم كثيرا في الحديث في مختلف أنحاء المغرب، والتي كنت استخدمها في معاملاتي اليومية. وحصلت على مقعد تحت الشمس في نادي «شي عزيز» على الشاطئ مقابل 25 درهما. وعندما دفعت 45 درهما حصلت على كوب من الجعة الباردة منتجة في الدار البيضاء. وكان نورس أبيض وحيد يجوب السماء ذات اللون الأزرق الفاتح، بينما تتلاطم الأمواج محطمة معها كل إحساس بالزمن.
وأرخى الليل سدوله على مرفأ المدينة الزاخرة بالمباني البيضاء ذات الطراز الإسباني - الموري، ومتاجر «زارا» و«ميكس»، وبدأت المرحلة الثانية من التدليل في مطعم «لو كيه». وأخذت أتناول المحار بالفواغرا، أو كبد الإوز، بينما أجلس على أريكة من الجلد الأبيض اللون، واستمع إلى أنغام عازفي غيتار يعزفان توزيعا أندلسيا للحن أغنية «تيك فايف» لديف بروبيك. وكان هناك مجموعة متحمسة من النساء المغربيات يرتدين سترات جلدية أنيقة يصفقون ويدخنون السجائر ويرتشفون عصائر الكوكتيل. وكان المشهد ككل يتناغم مع النبيذ الأبيض المغربي «دومي دي صحاري» الذي كان اسمه نهاية مناسبة لرحلتي.
تارودانت
نقلتني حافلة في الصباح عبر السهول المتفرقة التي تمتد عليها أشجار رفيعة ومساكن عشوائية مبنية من الطوب اللبن. وبعد ساعتين في تارودانت، وجدت متاهة من الأزقة الضيقة تصطف على جانبيها مبان منخفضة الارتفاع ومتهالكة. وكانت النساء المرتديات غطاء الرأس، والرجال الذين يرتدون الجلباب يتجولون حول محال الجزارة التي تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الحيوانات، وأكشاك إصلاح الدراجات، وورش الميكانيكا. وكان صدى خليط الأصوات المزعجة يتردد، حيث اختلطت أصوات أزيز عجلات «السكوتر» الرخيصة، بأبواق سيارات الأجرة، ووقع أقدام الخيل التي تجرّ العربات، فضلا عن موسيقى البوب المغربي الصادرة من المذياع. ورأيت أن هذه هي مراكش الصغيرة، حيث يطلق المغاربة على المدينة تارودانت ربما لتاريخها المشترك مع قريبتها الأبرز والأشهر التي تقع باتجاه الشمال. وتم اتخاذ مدينة تارودانت، كعاصمة للسعديين، الذي كانوا من الأسر الملكية العربية القوية التي قاتلت من أجل السيطرة على المغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وذلك قبل أن تصبح مراكش هي العاصمة. وحافظت المدينتان على الأسوار التي أبلاها الزمن والتي كانت تعلوها شرفات الحصن، وعلى الأسواق الشبيهة بالمتاهات، والميادين التي تعجّ بالحياة وتزخر بالمعالجين بالطب الشعبي وحواة الثعابين.
وبدا أن أوجه الشبه توقفت عند هذا الحد، حيث بدت تارودانت خالية من مظاهر حياة البذخ والعلامات التجارية العالمية التي كانت تزخر بها مراكش وهو أمر سار. ولم يكن بها سلسلة فنادق خمس نجوم، ولا منتجعات فخمة، ولا جلسات تصوير أزياء، ولا ملاه للقمار. ولم يكن هناك الكثير من السائحين، حيث لاحظت قلة منهم في سوق الأحد المفتوح خلف أسوار تارودانت. وبينما كنت أمر أسفل بوابة على شكل فرجة مفتاح باب تسمى باب الخميس، وجدت أزواجا غير متطابقة من الأحذية، وأدوات مطبخ رخيصة، وملابس أطفال، وقطعا إلكترونية متنوعة، متكدسة على أرض ترابية إلى جانب عصير برتقال طازج بلغ سعر الكوب منه 5 دراهم. وكان هناك امرأة تمسك بمنجل تأرجحه بين يديها بفخر حتى إنها كادت تطيح بأعناق بعض الزبائن.
إذا كنت تفتقد مثلي أفلام كـ«جنازة طعام الديم صام»، و«أبناء رامبو»، فهم بانتظارك على أسطوانات «دي في دي» المعروضة في سوق الأحد في تارودانت، وكذلك تنتظرك الماشية. وأفزع اثنان يستقلان دراجة نارية معزة صغيرة انقلبت على رأسها وجفلت اضطرابا بسبب الصوت، بينما أصدرت سيارة لها ثلاث عجلات تحمل مجموعة صغيرة من الماشية صوتا مفزعا هي الأخرى. ورآني بائع أحملق في معزته فابتسم كاشفا عن أسنانه، وصاح قائلا بالعربية: «مائة درهم». أثبتت المهارة جدواها في ميدان «بليس الهالوين» الذي ينتشر فيه الذين يتسولون بالعزف على الآلات الموسيقية ويروج المعالجون أدواتهم. وخلال فترة ما بعد الظهيرة في أحد الأيام رأيت رجلا يجعل ثعبان كوبرا يتمايل ويتراقص ويصيح بكلمات عربية أمام متفجرين مذهولين. وعلى الجانب المقابل من الميدان، كان هناك فرقة من الأمازيغ يعزفون على آلات موسيقية غريبة نغمات ذات طابع عالمي. وبينهم كان هناك رجل أفريقي يرتدي قبعة اليهود ويجلس على غطاء مبعثر عليه جماجم فارغة، وعظام مطلية باللون الأسود، وبيض في حجم الكرة لنعام ميت. وقال مشيرا إلى البيض: «إنه دواء للمعدة»، ثم أعطاني زجاجة بلاستيكية مكتوب عليها بالفرنسية «دواء للخصيتين». ورفضت بأسلوب مهذب موفرًا مهاراتي في التفاوض على الأسعار للأكشاك في الأزقة المغطاة المنتشرة في أسواق تارودانت.
وكان المكان الذي أثبتت فيه مهاراتي هو شيز إبراهيم المليء بالصناديق الملونة، والآنية المصنوعة من الجص الجيري المصقولة بصابونة زيت زيتون سوداء لإضفاء لمسة أخيرة من النعومة، والحلي الفضية المطعمة بالمرجان الأحمر، والفيروز، والمالاكيت، واليشب، وأحجار كريمة أخرى. وقال إبراهيم، صاحب المتجر الذي سخر من محاولاتي في مفاوضته على السعر: «نحن نجدها بين سكان الجبل، الذين يرتدونهم في حفل زفافهم ثم يبيعونها لنا عندما يحتاجون إلى المال». وبدا على وجه إبراهيم إمارات الرضا والاستمتاع كأب يشاهد طفله وهو يتناول الآيس كريم للمرة الأولى.

* خدمة «نيويورك تايمز»



جنوب سردينيا القسم الجميل والمهمل في إيطاليا

جزيرة نائية تسكنها نسبة قليلة من الإيطاليين (نيويورك تايمز)
جزيرة نائية تسكنها نسبة قليلة من الإيطاليين (نيويورك تايمز)
TT

جنوب سردينيا القسم الجميل والمهمل في إيطاليا

جزيرة نائية تسكنها نسبة قليلة من الإيطاليين (نيويورك تايمز)
جزيرة نائية تسكنها نسبة قليلة من الإيطاليين (نيويورك تايمز)

كان الضجيج نادراً في جنوب سردينيا منذ مدة طويلة، يقول البعض ربما منذ انحدار الحضارة النوراجية من العصر البرونزي في المنطقة. ومع ذلك، في ثاني أكبر جزيرة إيطالية، حيث تفوق الأغنام عدد السكان إلى حد كبير، هناك طاقة جديدة لا لبس فيها في «كالياري»، عاصمة البحر الأبيض المتوسط الصغيرة، والريف المحيط بها.

تشتهر سردينيا بطبيعتها وشواطئها الجميلة (نيويورك تايمز)

يقول المؤرخ المحلي فينتورينو فارغييو، بينما كنا نشاهد احتفال الأزياء الشعبية السنوي في سانت إفيزيو في المدينة: «لقد اعتدنا أن نعدّ أنفسنا ريفيين، معزولين في هذه الجزيرة النائية. لكن سكان سردينيا بدأوا يدركون أن ثقافتنا لها قيمة حقيقية بالنسبة إلينا وللأجانب».

في كالياري، هناك زيادة في الفخر، إلى جانب موجة من التنمية الجديدة، أغلبها يهدف إلى زيادة الأعداد المتزايدة بالفعل من السياح. في حي مارينا الذي يتغيّر بسرعة، وهو معقل سابق لصيادي الأسماك، صار اليوم مزيجاً نابضاً بالحياة من المهاجرين والمقيمين منذ مدة طويلة، سوف يُنشئ متنزه، جرى تصميمه من قبل المهندس المعماري «ستيفانو بويري»، حديقة مورّقة على طول الواجهة البحرية. سوف يوصل خط قطار خفيف المارينا بضواحي كالياري، ويجري إنشاء ميناء جديد، من المتوقع أن يكون عام 2026 لنقل سفن الرحلات البحرية بعيداً، ما يسمح للسفن الشراعية بالرسو (وإنفاق الأموال) في وسط كالياري.

«لاي» من أشهر الأجبان في جنوب سردينيا (نيويورك تايمز)

بالنسبة إلى كالياري والجنوب الذي يمتد على طول ساحل رملي أبيض وبحر أزرق من الشواطئ الخلابة يمكن أن يثبت المد السياحي إما أنه مدمر وإما أنه نعمة للمنطقة التي تعاني من نقص الفرص. منذ عقود مضت، أصبحت «كوستا إزميرالدا» في شمال سردينيا ملعباً ومنتجعاً للأثرياء مثل ميلانو على البحر الأبيض المتوسط التي ترمز إلى كيفية استعمار السياح لمنطقة ما.

جبن محلي الصنع في سردينيا (نيويورك تايمز)

لكن هل يمكن إنشاء صورة أكثر انسجاماً من السفر في الجنوب؟ مع السياحة المفرطة التي أصبحت الآن لعنة عديد من المواقع الإيطالية، زرت المنطقة وسألت السكان المحليين: ما الذي قد يشكّل مستقبلاً أفضل؟

قال سامويلي موسكاس، أحد مؤسسي «سابوريس»، وهو مطعم خلاّب ومقهى في مارينا: «هذه المدينة تتطوّر لتناسب السياح». يتميّز المطعم بمظهر باريسي رائع، ولكنه يقدّم قائمة طعام محلية وزواراً محليين، وهو واحد من كثير من المطاعم الحضرية في كالياري التي تنافس تلك الموجودة في المدن الإيطالية الكبرى. قدّم لي موسكاس الذي بدأ رحلته في «سابوري دي سردينيا»، وهو متجر قريب للأغذية، الذي كان يضم «سابوريس» وجاره القريب «بيبيت»؛ طبقاً من الهليون البري من شمال سردينيا، وأشار إلى أنني كنت الشخص الوحيد غير السرديني في غرفة الطعام. ثم قال: «لقد أنشأنا هذا المكان لمجتمعنا. ونرحّب بالسياح أيضاً، لكننا نريد منهم أن ينغمسوا في ثقافتنا، في مكان خاص بنا».

مقارنة بالمدن الإيطالية الأخرى، قد تبدو المواقع الثقافية في كالياري قليلة بعض الشيء، رغم أن المتحف الأثري يحتوي على مجموعة رائعة من القطع الأثرية النوراجية والفينيقية والرومانية القديمة في سردينيا، بما في ذلك الرماة النوراجيون المنحوتون على الحجر، والمعروفون باسم عمالقة «مونتي براما». وفي أماكن أخرى، هناك مواقع مثل «غياردينو سونورو»، وهو تركيب خارجي من منحوتات حجرية لصنع الموسيقى من قِبل الفنان المحلي «بينوكيو سيولا»، وكاتدرائية الباروك مع قبوها المقوّس المغطى بالبلاط الذي يُصوّر ما يقرب من 200 قديس.

جزيرة نائية تسكنها نسبة قليلة من الإيطاليين (نيويورك تايمز)

إنها مدينة يكون الاستمتاع بها بشكل أفضل من خلال التجول. يُعدّ شاطئ «بويتو» الذي يمتد لمسافة أميال مكاناً رائعاً للخروج في كالياري خلال الطقس الدافئ، مع نوادي الشاطئ ومطاعم المأكولات البحرية الكلاسيكية مثل مطعم «ريستورانتي كالاموسكا» على حافة الماء. تتجمع طيور الفلامنغو الوردية، وهي أكثر سكان المدينة تقديراً، بالقرب من مسطحات «مولينتارغيوس» الملحية. يتدفق السياح والسكان المحليون على حد سواء إلى حصن سانت ريمي، أفضل نقطة مراقبة في هذه المدينة ذات التلال المتحدرة. وفي وقت مبكر من المساء، تمتلئ ساحة «غيتانو أورو» بالشباب الذين يتجمعون حول بار «فينيريا فيلانوفا»، ويتوجهون لتناول العشاء في المطاعم الكلاسيكية مثل مطعم «تراتوريا ليليكو»، الذي يرجع تاريخه إلى عام 1938، أو أحد مطاعم الجيل الجديد مثل «ريتروبانكو»، و«وسابوريس».

في الوقت الحالي، لا تزال كالياري تبدو وكأنها مدينة تنتمي إلى سكانها، على عكس فلورنسا أو البندقية أو غيرهما من المدن التي يكتظ بها السياح. قال جوزيبي دي مارتيني، المدير العام لمطعم «ريتروبانكو»: «لكننا نريد زيادة الزوار هنا». وأضاف: «يجب أن تصبح كالياري عاصمة البحر الأبيض المتوسط».

يُعد جبن «لاي» سبباً كافياً لزيارة المنطقة. ففي «سينوس»، ورشته الصغيرة، يتبع تقليداً سردينياً قديماً لصنع الأجبان الطبيعية باستخدام الحليب الطازج من الأغنام التي تملكها عائلته. ويقول: «يُصبح الطعام المصنوع بطريقة واعية وسيلة لنقل الثقافة»، بينما كنا غارقين حتى مرافقنا في الحليب الساخن، ونسكب اللبن الرائب في وعاء نحاسي مسخن بالنار. يمكن للضيوف زيارة المتجر لتذوق أجبانه العتيقة الرائعة أو، كما فعلت، تجربة صناعتها بأنفسهم.

في منطقة «سولسيس» المجاورة، واجهت تفسيراً آخر لـ«سردينيا»، حيث يتم الجمع بين الحرف التقليدية والتصميم المعاصر بلا خجل. «بريتزايدا» هي الاستوديو الإبداعي لكل من «إيفانو أتزوري» و«كاير تشينڨن»، وهما مهاجران من كاليفورنيا وميلانو، يصممان وينتجان الأثاث مع الحرفيين المحليين. هذا الربيع، افتتح الثنائي «لوكسي بيا»، وهي مجموعة من بيوت الضيافة الحجرية المحيطة بها أشجار الزيتون والحقول الخضراء. أعادا بناء المساكن وفقاً للأسلوب التقليدي للمنطقة وملأوها بأسرّة «بريتزايدا» ذات الإطارات الخشبية المنحوتة المذهلة، وطاولات جانبية من الفلين المنحوت، وغير ذلك من القطع المعاصرة المصنوعة يدوياً.

طبيعة جميلة في واحدة من أكبر جزر إيطاليا (نيويورك تايمز)

لاحقاً، استقللت دراجة كهربائية للوصول إلى «تومبي دي جيغانتي»، وهو موقع «نوراجيكي» مع مسارات المشي لمسافات طويلة تطل على التلال المشجرة. تقع شواطئ الأحلام «بورتو بينو»، و«سو بورتو دي سو تريغو»، و«إيس سوليناس» في البحر الأبيض المتوسط على مسافة قصيرة بالسيارة، وكذلك مجتمع الصيد الغني بالتاريخ في جزيرة «سانت أنتيوكو»، المتصلة بالجزيرة الرئيسية عبر جسر بري رفيع.

في أعماق «سولسيس»، وهي منطقة معروفة بأعمال التعدين السابقة، وعلى طول الساحل الجنوبي الغربي، افتُتح «لو ديون بيسيناس» في مايو (أيار)، بوصفه فندقاً فخماً في مستودع سابق للتعدين، وهي محاولة طموحة لتحويل منطقة فارغة الآن من الصناعة إلى وجهة ذات طابع طبيعي. أصبحت الحديقة المحيطة جزءاً من درب المشي «سانتا باربرا»، باتباع المسارات التي كان يسير عليها عمال المناجم ذهاباً وإياباً من العمل. لكن موطن الجذب الحقيقي هو العزلة الرائعة للفندق وشاطئه المواجه للغروب، والمدعوم بشكل كبير ببعض أطول الكثبان الرملية في أوروبا «ربما الجزء الأكثر عزلة من ساحل سردينيا»، كما قالت المالكة «مارسيلا تيتوني»، التي قضت 10 سنوات في تجديد الفندق: «ما أفضل طريقة لإحيائه سوى من خلال الزوار وهذا العمل المفعم بالمحبة؟».

* خدمة «نيويورك تايمز»