آيزنشتاين... تدوينات من معمل مخرج

صدر حديثاً عن منشورات «دار المتوسط» بإيطاليا، النسخة العربية من كتاب «الشكل الفيلمي - مقالات في نظرية الفيلم» تأليف المخرج والمُنظر السينمائي الروسي، سيرجي آيزنشتاين، ويعد أحد المصادر التأسيسية المهمة في مجال دراسة السينما، وتركيبِ «شكل» الفيلم في عالم الفن السابع، الكتاب ترجمه المخرج السينمائي المصري عماد إرنست، نقلاً عن النسخة الإنجليزية التي ترجمها وحررها الناقد ومخرج الأفلام الأميركي جاي ليدا، بمتابعة من آيزنشتاين أثناء عمل جاي ليدا مساعداً له في فيلمه «مرج بيجين».
يقع الكتاب في 496 صفحة من القطع الوسط، متضمناً اثني عشر فصلاً تأسيسياً في نظرية الفيلم، جاءت تحت عناوين «عبر المسرح إلى السينما»، و«المباغت»، و«المبدأ الفني السينمائي والإديوجرام»، و«مقاربة جدلية للشكل الفيلمي»، و«البعد الرابع الفيلمي»، و«طرق المونتاج»، و«دروس في المعالجة»، و«اللغة الفيلمية»، و«الشكل الفيلمي: مشاكل جديدة»، و«البناء الفيلمي»، و«إنجاز»، و«ديكنز وجريفيث والفيلم المعاصر»، بالإضافة إلى ذلك يضم ملحقين مهمين؛ الأول «بيان في الفيلم الناطق لآيزنشتاين وبودوفكين وألكسندروف»، والثاني بعنوان «تدوينات من معمل مخرج»، وقام إرنست بإعداد ملحق كبير مرفق بالترجمة العربية تضمن حواشي المقالات وأعلامها، وسيرة وتواريخ مهمة لآيزنشتاين، وفيلموجرافيا محققة له، بالإضافة إلى فصل كامل للمصطلحات والمفاهيم السينمائية التي وردت في الكتاب، مع توسعات في مصطلحات ومفاهيم على صلة بها.
يتحدث آيزنشتاين خلال فصول الكتاب عن بدايات السينما الروسية، ويتعقب المسارات المتنوعة للعاملين في حقل السينما في زمانه وصولاً لبداياتهم الخلاقة، التي شكلت مجتمعة ألوان طيف تجارب السينما السوفياتية؛ ويشير إلى أن فنانيها جاءوا جميعاً في بداية عشرينيات القرن العشرين إلى السينما، بوصفها شيئاً لا وجود له. حيث بدت كأنها مدينة بلا ميادين أو شوارع ممهدة أو حتى أزقة مستوية. كانت بلا أدنى تجهيز يذكر، ولا تملك شيئاً مما يوجد في مدينة السينما المعاصرة، وقد بدا فنانوها مثل الباحثين عن الذهب الذين أتوا لمكان ذي إمكانات عظيمة، تفوق الخيال على أمل المساهمة في تطويرها والنهوض بها.
ويذكر آيزنشتاين أن السينما السوفياتية جذبت في بداياتها خبرات متنوعة في مجالات عديدة، «كان بعضهم ينتمي لأنشطة خاصة، ومهن قديمة عارضة، وقد تميزوا بسعة اطلاع كبيرة، ومنهم من كان يمتلك حرفاً لم يكن معروف وجودها من قبل، وقد تجمع كل هذا من أجل أن يدخل في عملية بناء شيء، لم يكن يتوفر له بعد لا تقاليد مكتوبة، ولا احتياجات أسلوبية دقيقة، ولا حتى متطلبات مُصاغة».
ويقول إرنست في مقدمة الكتاب، أنه يقع في القلب من التوجه الذي تبناه السينمائيون السوفيات الطليعيون منذ أواخر العقد الثاني لبدايات القرن العشرين، وهو توجه «يُنكِر» القصة، ويعتمد في تركيب الفيلم على بُنْيَتِه البَصرية وطريقة توليفِ العناصر السينمائية، وتجاورِ دلالاتها للخروج بدفقة ذهنية تحث المُتفرج على التفكير والإدراك الحسي.
وهذه الترجمة هي الأولى التي تصدر للغة العربية لكتاب يعتبره السينمائيون غاية في الأهمية بمجال دراسة السينما، سواء بشكل فردي أو في المعاهد المتخصصة؛ فهو من أعمدة المناهج الدراسية بكل معاهد السينما في العالم، ويتميز بأهميته البالغة في تأسيس مفاهيم السينما السوفياتية بشكل دقيق لدى المتخصص أو المثقف، وقدرته الهائلة في الحَض على فكرة البحث الأصيل والدقيق لدى الفنان والسينمائي، على حد سواء، وأنه سيساهم في قراءة مكتملة لمجمل أعمال آيزنشتاين النظرية والفيلمية لما يحتويه من مادة مفتاحية إضافية لأفكاره الواردة في الترجمات العربية الجادة لكتابيَهْ «الحس الفيلمي» و«مذكرات مخرج سينمائي»، ورغم كونه «مرجعاً فنياً»؛ كان لا بد من وضع حَد لافتقاد صانعي السينما وعاشقيها ودارسيها للكتاب في لغتهم الأم. وإن إتاحته بين أيدي الأجيال الجديدة من صُناع الفيلم ودارسيه سيُسهم في تأسيسٍ صحي لفكرهم على دقة النصوص لا على اقتباسات غامضة منتشرة في ابتسار، خصوصاً فيما يخص مفاهيمه المونتاجية والإخراجية. وحتى يصبح أيضاً اتكاء النقاد والدارسين والمؤرخين اتكاءً بحثياً سليماً، ينتج عنه نقاشات وأبحاث ودراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه تتسم بالنزاهة والدقة فيما يخص الشكل الفيلمي في فتراته المرجعية.
يشار إلى أن سيرجي آيزنشتاين (1898 - 1948)، هو مخرج ومُنظر سينمائي روسي يعد واحداً من أهم السينمائيين في تاريخ السينما العالمية، رغم أنه لم يقدم عملياً سوى تسعة أفلام، غير أن فيلماً واحداً منها هو فيلم «المُدمرة بوتمكين» (1925) يُعد نموذجاً للكمال الفني النادر، وقد اشتهر بين السينمائيين بلقب «أبو المونتاج»، ولا يزال يُلهم آلاف السينمائيين في العالم بأسلوبهِ الخاص المميز في التصوير والمونتاج، وقدرته على تكثيف الجماليات الجديدة التي وُلدت مع التغييرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها روسيا في مطلع القرن العشرين. وساهم آيزنشتاين في تأسيس نظرية السينما، وأثار بأفلامه وتجاربهِ في التطبيق السينمائي جدلاً عميقاً حول علاقة السينما بالفنون الأخرى وعلم الجمال. ومن أعمالهِ الرائدة الفيلم الصامت «الإضراب» 1924، و«أكتوبر» 1927، بالإضافة إلى ملحمته التاريخية «ألكسندر نفسكي» 1938، و«إيفان الرهيب» في جزأين، «1944 - 1958».