«بيت درب التبانة»... أحاديث افتراضية بين سماء بيروت وأرضها

معرض فني يجمع الثنائي الإيطالي أنتونيلو وغتزي

أنتونيلو وغتزي اختارا بيروت لإطلاق معرضهما «بيت درب التبانة»
أنتونيلو وغتزي اختارا بيروت لإطلاق معرضهما «بيت درب التبانة»
TT

«بيت درب التبانة»... أحاديث افتراضية بين سماء بيروت وأرضها

أنتونيلو وغتزي اختارا بيروت لإطلاق معرضهما «بيت درب التبانة»
أنتونيلو وغتزي اختارا بيروت لإطلاق معرضهما «بيت درب التبانة»

تملك الفنون مجتمعة قدرات مختلفة تسمح بابتكار مساحات خيالية واسعة، ويعتبرها هواتها متنفساً لهم وواحة ملونة يقطفون منها الآمال، ويزرعون فيها التمنيات. في «بيت بيروت» بمنطقة السوديكو، انطلق معرض «بيت درب التبانة» (The milky way house)، للفنانين الإيطاليين ناديا أنتونيلو وباولو غتزي، يعرضان فيه نحو 6 تجهيزات فنية لتؤلف مشروعاً متعدد الحواس، يرتكز على الفنين التصوري والعاطفي، إضافة إلى فن الأداء العام.
وما أن تدخل المعرض حتى تشعر أنك في مجرة مختلفة، مليئة بالأعلام والفضاءات والنجوم، فتوحي لزائرها أنه يمشي بين الغيوم، وأن خيوطاً رفيعة وغير مرئية تربط بين السماء والأرض. فهدف أنتونيلو وغتزي، هو التأكيد بأن لا اختلاف بين سكان الكرة الأرضية أجمعين، وأنه من الأفضل أن نتوحد بدلاً من أن ننقسم، فنؤلف كتلة قوية مشبعة بالإنسانية والوجود.
وفي جولتك على المعرض الذي يقام برعاية «المركز الثقافي الإيطالي» في لبنان، تطالعك أعمال الفنانين الموزعة على أرجائه.
وتشير منسقة المعرض مي الحاج في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن ميزة هذين الفنانين تكمن في اعتمادهما مفهوم الفن الفكري الذي ترافقه الأحاسيس. فلا تكون مجرد أشياء تراها، بل فنوناً تتفاعل معها بصرياً وشعورياً.
وترى الحاج التي سبق وأقامت معرضاً افتراضياً للفنانين الإيطاليين في بلدة دير القمر، أن المعرض هو كناية عن دعوة يطلقها أنتونيلو وغتزي لتوحيد الناس. وأن العلم الذي استحدثاه لـ«درب التبانة» هو كناية عن رمز لوطن يجمع كل سكان الأرض. ولذلك يتلون المعرض برموز كثيرة تشير إلى مجرة «درب التبانة».
لماذا اختار الفنانان بيت بيروت لإقامة المعرض؟ ترد الحاج «لقد أُعجبا كثيراً بهذا المكان، واختارا الطابق الثالث منه، ليكون بمثابة مقر ومكتب تسجيل أسماء الراغبين في الانتساب إلى هذه المجرة كمواطنين فيها».
ومن بين أعمال الفنانين أنتونيلو وغتزي، يلفتك علم ضخم بعرض 3 أمتار وطول 10 أمتار، يتمدد عليه الزوار ويلتقطون الصور وكأنهم يعيشون في قلب هذه المجرة. وهو يجمع صوراً مختلفة للسماء في الليل، التقطت من دول العالم، ونكتشف معه تدرجات لألوان السماء، فنراها مرات ذات فضاءات قاتمة تميل إلى البنفسجي، ومرات أخرى زرقاء مزروعة بالنجوم وبشهب مضاءة. وتشرح الحاج لـ«الشرق الأوسط» قائلة «إنها أماكن مختلفة منتقاة من كوكب الأرض، ولكنها جميعها واحدة تقع تحت السماء نفسها. وقد جمع الفنانان كل هذه الصور معاً، وخاطوها لتبدو على ما هي عليه. وهما يؤكدان من خلالها أننا مهما تفرقنا، فإننا نبقى موحدين تحت سماء واحدة».
وتستوقفك في ركن من أركان المعرض، أوراق التسجيل للمواطنية في هذه المجرة. وتشرح الحاج «يمكن لكل زائر أن يسجل اسمه على هذه الورقة، ونوقعها له بدمغة (مواطن درب التبانة)، فتصبح بمثابة شهادة تبرز انتماءه إليها».


يقام المعرض برعاية «المركز الثقافي الإيطالي» في لبنان

وفي تجهيز فني آخر، يجلس زوار أمامه بانتظار مرور النيزك ليطلبوا منه أمنية قد تتحقق. وهي عادة مشهورة عالمياً، ندرك أنها مساحة حقيقية تربط بين لبنان وبولونيا، حيث يسكن الفنانان. وتوضح مي الحاج «لقد ثبتنا عبر الإنترنت تقنية خاصة بالأقمار الصناعية، تنقل مباشرة إلى معرض (بيت درب التبانة) تحركات النجم الشهاب في سماء بولونيا. صوت الضوضاء هذا، يحدث في كل مرة يمر فيها النجم بسماء بولونيا. وهو ما يحصل من 30 إلى 50 مرة في الساعة الواحدة، نلمحه هنا كسهم مضيء يتيح لناظره إطلاق تمنياته».
وبين تركيبات وتجهيزات تحمل بصمات وخرائط لمجموعة نجوم (كنستيليشين) من دول مختلفة، إضافة إلى أعلام خاصة بـ«درب التبانة»، يطالعك في غرفة أخرى فيلم فيديو. وتشرح الحاج «هذا الفيلم القصير يحمل اسم (ربط الأرض بالسماء)؛ ونشاهد بقرب شاشة العرض، مجموعة بالونات منفوخة بمادة الهيليوم، وهذا الحبل المتدلي منها، مصنوع من مادة فوسفورية تضيء في العتمة. صور الفنانان هذا الفيلم في مدينة سيفينيا البولونية، ويظهر أن هناك شيئاً ما، يربط الأرض بالسماء في الليل يشبه هذا الحبل، ليقولا لنا إن السماء ليست بعيدة عنا. وهي تجربة فنية تحمل الكثير من المشاعر والأحاسيس التي تشكل الفكرة الأساسية للمعرض».
وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، تؤكد الفنانة ناديا أنتونيلو أن هناك لا شك علاقة مهمة جداً بين الأرض ونجوم السماء. وتوضح قائلة «فنحن في حاجة دائمة إلى التطلع إلى فوق، وتأمل النجوم. ومرات كثيرة نتساءل عن هذا الكون الذي نعيش فيه، ونحن نرى نيزكاً يمر بسرعة أمامنا. لذلك؛ ارتأينا إقامة معرض، وكأنه حديث يجري بين السماء والأرض».
أما الفنان باولو غتزي، فيقول، إن اختيارهما العاصمة اللبنانية بيروت لإقامة هذا المعرض، ينبع من الغنى والتعددية، التي تتلون بها رغم صغر مساحتها. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»، «أردناها أول مدينة شاهدة على المعرض، وعلى هذه العلاقة الرائعة بين السماء والأرض. فهي تجمع جنسيات وديانات ومجتمعات مختلفة، وكلها تعيش تحت سماء هذه المدينة فتترجم فكرة المعرض تماماً».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».