كمال الرياحي: الفنون تتقاطع في نصي وأكتب لمواجهة العنف

الروائي التونسي يرى أن النقد في مأزق أخلاقي ومعرفي

كمال الرياحي  - غلاف «المشرط»  -  غلاف «واحد- صفر للقتيل»
كمال الرياحي - غلاف «المشرط» - غلاف «واحد- صفر للقتيل»
TT

كمال الرياحي: الفنون تتقاطع في نصي وأكتب لمواجهة العنف

كمال الرياحي  - غلاف «المشرط»  -  غلاف «واحد- صفر للقتيل»
كمال الرياحي - غلاف «المشرط» - غلاف «واحد- صفر للقتيل»

منذ روايته الأولى «المشرط»، وحتى روايته «البيريتا يكسب دائماً»، يحفر الكاتب والناقد التونسي كمال الرياحي في أرض اليومي والعادي والمسلَّمات، بحثاً عن الحقائق أو طرح الأسئلة حولها، باعتبار أن الكتابة مغامرة وجودية لا قيمة لها إذا لم يضع صاحبها حياته في موضع الخطر! يتردد صدى كل هذا في أعماله القصصية ويومياته التي تنهل من فنون بصرية أخرى، مثل الفوتوغرافيا والمسرح والسينما.
حصد جائزة «الكومار الذهبيّ» عن رواية «المشرط»، وجائزة «ابن بطوطة لأدب الرحلات» عن «واحد- صفر للقتيل».
هنا حوار معه حول أعماله وهموم الكتابة:

> في روايتك «عشيقات النذل»، يبدو النص أقرب للفيلم السينمائي؛ حيث تقنية المشاهد واللقطات القريبة والبعيدة، وكأنك تكتب بعين الكاميرا، فما علاقتك بالسينما عموماً؟ وكيف تستفيد من تقنياتها؟
- بين السينما والأدب علاقة قديمة مستمرة، فالسينما التي جاءت متأخرة عن الرواية والأدب عموماً استفادت من السرد القصصي، وهو بدوره استفاد لاحقاً من السينما، وأثرى أشكاله بمكاسب السينما والفنون البصرية عامة. جئت إلى عالم الأدب من ممارستي لفن الرسم وفن التصوير الفوتوغرافي، قبل أن أدرس السينما، وتحليل الصورة، وأهتم بالنقد السينمائي والدراما. لذلك لا أنكر أنني أتحرك في عالم الأدب بعقل بصري، وأكتب بطريقة مشهدية، وأحياناً مسرحية. وقد مارست كتابة المسرح والتمثيل لوقت في الجامعة. الفنون تتقاطع في نصي ويمكن رصد ذلك من أول رواية لي «المشرط» إلى «البيريتا يكسب دائماً». لا أكتب رواية تروي حكاية بطريقةٍ كلاسيكية وأحداثٍ مرتبةٍ زمنياً «كرونولوجياً»؛ بل أكتب رواية معقدة تشكيلياً، تتداخل فيها الأزمنة والفضاءات، والواقعي بالاستيهامي، والسيري بالمتخيل، وهذا يتطلب ما يعرف بـ«الايهام بالواقعية». وأجد في الكتابة المشهدية تلبية لهذا الهدف، وهذا النوع من الكتابة. والسينما اليوم صارت بدورها أكثر تعقيداً، وفي بعضها تجريب كبير يتطلب متلقياً ذكياً يساهم في إنتاج الفيلم، ولا يكتفي باستهلاكه.
> تقدم هذه الرواية عالماً صادماً مليئاً بالأنذال والنفاق والصفقات المشبوهة، والانتهازية لأشخاص لا تعنيهم سوى المظاهر الخارجية والوجاهة الاجتماعية، هل هذه رؤيتك للمجتمعات العصرية حالياً؟
- يمثل الشر موضوعاً رئيساً للرواية، وهي تقارب هذه «التيمة» باعتبارها هوية أصيلة في الكائن البشري منذ الخطيئة الأولى بين آدم وحواء. اهتمت الرواية بالشر الكامن في المجتمع، والذي تكشفه التحولات السياسية، وانطلقت من الانتفاضة التونسية التي كشفت زيفاً كبيراً في المجتمع، واحتياطياً كبيراً من العنف والاستعداد لارتكابه. وتعمقت الرواية في موضوع الفساد باعتباره عنفاً رمزياً يمارسه الشعب على الشعب نفسه، في الإعلام وفي المشهد الثقافي. وليس المثال التونسي إلا نموذج لمجتمعاتنا الموبوءة بهذا الداء الذي يحول دون تقدمها. الرواية نافذة من نوافذ كثيرة لمقاربة أمراض المجتمعات وصراع الطبقات واستحالة تعايشها.
> في «واحد- صفر للقتيل»، تستعيد ذكريات إقامتك في الجزائر ما بين عامي 2009 و2010، لماذا اخترت «اليوميات» شكلاً فنياً لهذا الكتاب وليس الرواية؟
- هي تجربة خاصة جداً، وجدت نفسي مدفوعاً نحو الكتابة عن الذات لتسجيلها عوضاً عن التخييل المحض، وهي مغامرة فنية؛ لأن هذا النوع من الكتابة نادر عربياً، وسنكتشف أنه أكثر ندرة عندما نحاول أن نحلل نقدياً المدونة التي تدَّعي انتسابها لفن اليوميات، وهذا أيضاً مبحث شخصي أهتم به نقدياً وإبداعياً، كتبت فيه مصنفات نقدية وثلاثة أعمال إبداعية، ظهر منها «واحد- صفر للقتيل» الذي حصل على جائزة «ابن بطوطة لفن اليوميات» 2018؛ غير أن تجربة كتابة اليوميات لم تخرج عن مشروعي السردي والإبداعي، وهو كتابة العنف.
> يحتوي الكتاب على جرعة استثنائية من الصدق وعدم التجمل في تناول حياتك عموماً، مثل الحديث عن تهريبك للملابس في 1993، وتعرضك لطعنة سكين، والعلاقات مع الجنس الآخر، واكتشاف حنان الأب... إلخ. ألم تتخوف من تعرية الذات أمام قراء قد يرفضون هذا التوجه؟
- كتابة السيرة الذاتية واليوميات من الكتابات التي إذا قاربتها بنصف الجرأة ستفشل فيها فشلاً ذريعاً، أو تدخل في كتابات «البروباغندا» التي لا تعنيني. ما يعنيني وأنا أخوض هذه التجربة هو كتابة هشاشة الكائن البشري وضعفه أمام الشارع العنيف، والرأي العنيف، والآخر العنيف، والطقس العنيف، والذات الكاتبة نفسها التي تعنف ومحاولة لجمها وكتم صوتها. وهي كتابة في أصلها مناهضة للخوف والتقية والتستر، فهي كتابة البوح، والبوح يؤذي ويصدم. ومنذ ظهور أعمال محمد شكري «الأوتوبيوغرافية» تحرر الأدب العربي من وصفة طه حسين في «الأيام»، وميخائيل نعيمة في «سبعون»، وغيرهما ممن اكتفوا بسرد انتصاراتهم. الأدب ليس بريئاً، وعليه أن يعترف، كما يقول الفيلسوف والأدبي الفرنسي جورج باتاي، صاحب كتاب «الأدب والشر». لم أكن أكتب لقراء ينتظرون مني أن أكتب ما يريدون؛ بل أكتب لكي يظهر قارئ أذكى، ويحمل النص ويعبر به سطح الكلمات لعمق الرؤية، فهنا تكمن فلسفة الأدب. لم يكن يوماً نجيب محفوظ يكتب ليرضي القارئ؛ بل ليحرجه، ما دفع بعضهم إلى تحريض من غرز خنجراً في رقبته. يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي أنجزت معه كتاب «نصر حامد أبو زيد- التفكير في وجه التكفير» إنه لا يخاف الموت، رغم كل ما حصل له من تشريد وهدر دم؛ لأنه آمن كما آمنتُ بمقوله الفيلسوف الألماني نيتشه: «الذي لا يملك الشجاعة ليكون مزعجاً، هو وعمله، ليس -بكل تأكيد- مفكّراً من الطراز الأول».
> تبدو عناوين مؤلفاتك محملة بكثير من الحدة والعنف، فهناك دائماً مفردات من نوعية «مسدس، قتيل، أنذال، غوريلا... إلخ».. من أين تأتي كل هذه الحدة، وكأنك تكتب بحد السكين؟!
- تشكل مشروعي السردي بالتراكم، وتمركز حول تيمة العنف والجريمة بكل تنوعها الاجتماعي والشعبي والسياسي والرمزي، لذلك تظهر أدوات القتل والعنف في العناوين متناغمة مع النصوص ومع لغتها الغاضبة التي تؤذي في أحايين كثيرة ذائقة معينة فتهاجمها.
> لك مقولة تتنبأ فيها بأن الرواية العربية ستتطور يوماً في مشاعر اليأس، أي تلك اللحظة التي ييأس فيها الروائي من أن يكون له شأن رسمي، ويغامر وحيداً كلقيط في هذا العالم، لا ينتظر اعترافاً عبر الإعلام أو الجوائز أو حتى القراء. لماذا كل هذا التشاؤم؟ وهل عشت أنت هذه اللحظة؟
- نحن نعيش مستوى غير مسبوق من التردي الذي نراه في إجازة الكتب الأقل جرأة تيمة وشكلاً، والجوائز يديرها أناس لا علاقة لهم بالأدب أو بالاختصاص الذي يتقدم كل يوم في العالم. كيف يمكن أن نثق في جائزة للرواية مثلاً يحكم فيها أساتذة الأدب القديم؟ نفتح تلك الأعمال فنجدها الأردأ في ذلك العام. لذلك قلت إن الرواية ستتقدم في مشاعر اليأس، عندما يقطع الكاتب تماماً مع أفق الانتظار النقدي أو «الجوائزي» ليركض كالخيل البري بعيداً عن مرابض الترويض. أشعر بأن بعض الجوائز بشروطها الغريبة تقوم بعملية ترويض للكتابة والكتّاب، وهذا يتناقض تماماً مع فكرة الإبداع نفسها.
> تنبأتَ أيضاً بما سمَّيته «نهاية النقد»، ولك ملاحظات «سوداوية» حول «عالم مراجعات الكتب» في الفضاء الثقافي العربي؛ كيف ذلك؟
- هذه ظاهرة عالمية مع انحسار فضاءات إنتاج النقد وتلقيه من مجلات أدبية محترمة وملاحق ثقافية جيدة، كما أن الطابع التجاري الاستهلاكي هيمن على الكتابة مع حالة البؤس التي يعيشها الكتاب، وأصبحت مراجعات الكتب البديل عن النقد، تسير نحو مصير سيئ السمعة؛ حيث صار بعض مراجعي الكتب يشتغلون عند دور النشر، ويكتبون مراجعات للترويج لدور بعينها، لا للترويج للكتاب الجيد، كما أن المشرفين على المنابر والمنصات والصفحات انخرط عدد مهم منهم في «شللية» مقيتة، أضرت بإنتاج الأدب. الكتابة لتصفية الحساب خطر على الأدب، كما الكتابة المجاملة أيضاً. فعلاً النقد في مأزق أخلاقي ومأزق معرفي؛ لأنه عندنا لا يتطور وإن تطور الأدب، كما أنه نزيل المؤسسات الأكاديمية وبرامجها ونظريتها الغربية القديمة التي تخلى عنها الغربيون أنفسهم.
> بالتوازي مع إبداعاتك في الرواية والقصة القصيرة، لك مؤلفات في النقد والتنظير، مثل «حركة السرد الروائي ومناخاته»، و«فن الرواية»، ماذا عن هذا الوجه النقدي لديك؟
- حياتي الإبداعية كانت موازية لحياتي النقدية، فقد بدأت قصاصاً سنة 1999، وسنة 2005 صدر لي أول كتاب نقدي عن «حركة السرد الروائي ومناخاته»، ثم تلته الكتب: «الكتابة الروائية»، و«فن الرواية»، وسلسلة «هكذا تحدث» مع النقاد والمفكرين. وأنا أكتب من أكثر من عشرين سنة مقالاً نقدياً أسبوعياً، أقدم فيه الكتب؛ خصوصاً الروايات والأعمال السردية، إلى جانب ممارستي لتدريس الكتابة الإبداعية عبر ورشات الكتابة. لا يمكن أن تمتهن هذه المهن دون أن يكون لك مرجعية نقدية ونظرية تشحذها كل يوم بالجديد، لكي تمارس هذا النشاط الثقافي. أؤمن كل الإيمان بأدبية التعلّم، وأن الأدب صنعة، ويجب إتقانها بمزيد التعلّم والمعرفة.
> ترأستَ «بيت الرواية» في تونس، كما أسستَ عديداً من النوادي الأدبية، بماذا كنت تحلم؟ وإلام انتهت تلك التجارب؟
- كان مشروعاً خاصاً، عندما عدت من الجزائر فكرت في إطلاق أكاديمية للرواية فيها ورشات كتابة وتوثيق وتفاعل مع الفنون الأخرى، ومحاضرات دورية للتعريف بهذا الفن، ثم جاءت الثورة التونسية فأهديته للقطاع العمومي، وأشرفت على تأسيسه في مدينة الثقافة كأول بيت للرواية في العالم العربي، وحقق معي منذ 2018 إلى 2021 نجاحاً كبيراً محلياً وعربياً وعالمياً. صالحت فيه الجماهير على فن الرواية والأدب، وقدمت الروائي كنجم يقتدى به، ونزعت عنه الصورة البائسة التي التصقت به لسنوات. اكتملت التجربة وغادرتها لمغامرة ثقافية وحياتية أخرى في كندا.



نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

تشومسكي
تشومسكي
TT

نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسماً واحداً

تشومسكي
تشومسكي

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة أُصيب بها العام الماضي، بسيل من المقالات الصحافية العاجلة التي تحاول تقديم سيرة ذاتية لهذا المفكّر واللغوي والناشط السياسي اليهودي الأميركيّ.

لكن الحقيقة أن كثيراً مما كُتب في الصحف والمواقع الإلكترونية قصر عن رسم صورة وافية لهذه الشخصيّة، ليس فقط بسبب تعدّد فضاءات انشغاله بين النشاط السياسيّ، والبحث الأكاديمي، والكتابة في السياسة والحروب والإعلام، ولكن أيضاً لصعوبة تفسير مواقفه أحياناً في واحد من هذه الفضاءات بالمقارنة مع التوقّعات منه في الفضاء الآخر، ولأن كثيرين - من منطلقات متباينة – منَحوه مكانةً خاصةً رفيعة أكبر من حياة البشر في مجالات علميّة، وفكرية، وسياسيّة عدّة، حتى ليظن المرء أنّه يقرأ عن عدّة شخصيات تحمل اسماً واحداً؛ حيث هو الأكاديمي النجم الذي قضى سحابة عمره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أقرب الجامعات الأميركية إلى البنتاغون (وزارة الدّفاع الأميركية)، ولكنه في ذات الآن أبرز المثقفين الأميركيين الناقدين للإمبريالية، ولخطاب السلطة، وللحرب، والرأسمالية النيوليبرالية، وهو أمر أقرّ به تشومسكي نفسه فقال: «كأنّ في دماغي جزأين؛ أحدهما علم محض في خدمة المؤسسة، والآخر نشاط سياسي ناقد له»، معترفاً بأن لا تواصُل ممكناً بين تشومسكي العالِم وتشومسكي الناشط السياسي.

ولعل مَردّ هذا الانفصام بين عديد الشخصيات العميقة والثرية لتشومسكي متأتٍّ من تجارب حياة مديدة متعدّدة المراحل بدأت من بنسلفانيا، حيث وُلد في 1928 لعائلة مهاجرة من اليهود الأشكناز (والده أوكرانيّ، ووالدته بيلاروسيّة بمقاييس اليوم).

كان والده باحثاً وأكاديمياً في العلوم العبرانية، يعمل لساعات طويلة بأجر قليل، بينما تُدرّس والدته للصغار في كنيس يهودي، لكن تأثير عمّه الناشط اليساري عليه كان أعمق فيما يبدو؛ إذ كثيراً ما تردّد على مجلسه عندما يجتمع عنده ناشطو اليسار اليهود من الطبقة العاملة لمناقشة الأمور المُلحّة في ذلك الوقت، فكان يستمع ويتأثر، ويتشكّل وعيه السياسيّ الأوّلي، فكانت إحدى اللحظات المبكرة التي علِقت بذاكرته من تلك الفترة مشهد رجال الأمن وهم ينهالون ضرباً على النساء المُضرِبات عن العمل خارج مصنع للنسيج خلال فترة الكساد الكبير، فانتهى إلى تبنّي وجهات نظر اليسار الفوضوي.

كان تشومسكي الصغير محظوظاً لأنه أُرسل لتلقّي علومه الأساسيّة بمدرسة رائدة تأسّست على مبادئ المصلح التربوي والفيلسوف البراغماتي الأميركي جون ديوي، وسعت لجعل التعليم تجريبياً، والمعرفة اكتشافاً بدلاً من التلقين، فأبدع وتفتّحت مداركه، فقُبل وهو لمّا يزال في السادسة عشرة من عمره بجامعة بنسلفانيا المرموقة لدراسة الفلسفة والمنطق واللغات.

كان تشومسكي وقتها قريباً من الأفكار الصهيونية الطوباوية التي انتشرت بين اليساريين اليهود، وكاد يترك دراسته الجامعية للتطوع في كيبوتس يهوديّ في الأراضي الفلسطينية، لكنّه لم يحب أجواء الحماسة القوميّة هناك، ودفعه إعجابه حينئذ باللغوي وعالم الرياضيات زيليج هاريس إلى الانصراف بكليّته إلى اللسانيات، ليحصّل فيها درجات البكالوريوس والماجستير، ويحوز بعدها على الدكتوراه بأطروحة أصبحت أساس أول كتبه المنشورة «الهياكل النحويّة - 1957».

من هذا الكتاب تحديداً بدأت، وفق أنصار تشومسكي في فضاء اللغويات، ثورة معرفية؛ إذ قبله كانت اللغة والكلام مفهومَين على نطاق واسع على أنهما سلوك بشري مكتسَب، حيث كانت المدرسة السلوكيّة التي أطلقها الروسي الحائز على جائزة نوبل، إيفان بافلوف، سائدة خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وجعل منها البروفيسور بورهوس فريدريك سكينر، الكاهن الأكبر لمختبرات جامعة هارفارد، النموذجَ القياسي المهيمن في علم النفس بالولايات المتحدة.

وعَدّت السلوكية أن أدمغة البشر تبدأ صفحةً بيضاء ثم تتطوّر وفق المعطيات البيئية، ولذلك فإن تعليم اللغة للأطفال يتم بخطوات صغيرة متدرّجة، وبتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، فإن هم أصابوا يجب الثناء عليهم، وإن وقعوا في الخطأ ينبغي تصحيحهم.

مضى تشومسكي في كتابه إلى تحدّي هذا التصور، مشيراً إلى السرعة المثيرة للدهشة التي يتعلّم بها الصغار الكلام بمجرد الاستماع إلى البالغين والأطفال الآخرين وتقليدهم، وعَدّ محاولة سكينر غزوَ مجال اللغة تطبيقاً اختزالياً سخيفاً للافتراضات السلوكية، وأن دراساته في هذا المجال ذات أهمية ضئيلة، أو حتى معدومة، عندما يتعلّق الأمر باللغة والقدرات العقلية العليا للبشر، وبشكل حاسم جادل تشومسكي، دون الاستناد إلى أبحاث مختبرية، إلى أننا كما لو كنا «مصمَّمين خصيصاً بطريقة أو بأخرى» لاكتساب اللغة.

كانت المدرسة السلوكيّة قد بدأت بالترنّح بعدما فشلت في تقديم حلول عمليّة لإسناد الملاءة النفسيّة لعمليات الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، لكن تشومسكي كان كمن دفع بها إلى حافة القبر.

في تلك المرحلة بدأ البنتاغون في تجميع جهود خبراء المعلوماتية والكمبيوتر وعلماء النفس وخبراء اللسانيات ومُصنّعي الأسلحة من أجل بناء منصة لـ«دمج المشغّلين البشريين في تصاميم أدوات القتال»، كان حلم وزارة الدفاع الأميركية وقتها صنع «آلة لغوية» تكون بمثابة واجهة تعامُل بين القادة العسكريين متخِذي القرار وأنظمة أسلحتهم، بحيث يُصدر هؤلاء القادة أوامرهم بإنجليزيتهم اليومية، فتنطلق الصواريخ والقذائف بناءً على ذلك.

لقد حان وقت تشومسكي الذي تم تقديم أفكاره على أنها موضوعية، وضمنياً مناسِبة للأغراض العسكريّة المأمولة، ولذلك استُقطب، رغم توجهاته الفوضوية الظاهرة، إلى منصب أكاديمي مرموق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وحصل لأبحاثه على دعم سخي ومُعلَن من المجمع الصناعي العسكري رغم الأجواء المكارثيّة التي كانت سائدة حينها، التي كانت تُشيع مناخاً من الشكوك بكل اليساريين.

لم يَبنِ تشومسكي ما يمكن القول إنّه كان ذا فائدة في تصميم أجهزة القيادة والتحكم الصاروخيّة مثلاً، ولم يَبنِ جهاز كمبيوتر أو نظام ذكاء اصطناعيّ، وحتى نموذجه في التعامل مع الدّماغ البشري ككمبيوتر رقمي مبرمَج مسبقاً تجاوَزه سريعاً علم الأعصاب، لكنه قدّم تصوّراً مناسباً للغة في فترة تطور العسكريتاريا العلميّة في الولايات المتحدة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان من المناسب فصل اللسانيات عن السياسة والمجتمع، وتكريس مشهد فصل العلم عن النظرية السياسية.

هذا الفصل النظري العميق سمح للمؤسسة العسكرية الأميركية بتقبّل تشومسكي السياسي في قلب الأكاديميا المعسكرة، وفي ذات الآن سمح لتشومسكي الموظف في معهد تطوير الأسلحة بأن يتحوّل إلى الناقد، الأهم عالمياً ربما، للإمبريالية الأميركية.

لتشومسكي اليوم تراث في فضاءات كثيرة يمكن في كل منها انتقاده ونقضه وتجاوزه

كانت حرب فيتنام نقطة مفصلية في حياته كناشط سياسي، فأصدر كتابه الشهير عن مسؤولية المثقف، ووقف بصرامة ضد الحرب، وشارك في الاحتجاجات ضدّها، مع أنّه لم يترك العمل في ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأصبح لاحقاً أستاذ شرف مدى الحياة هناك، كما عُيّن أستاذاً في فلسفة العدالة الاجتماعية بجامعة أريزونا.

وقد كتب بعدها أكثر من مائة كتاب في مسائل السياسة، اشترك في العديد منها مع مثقفين يساريين من مختلف أرجاء العالم، أربعة منها عن مسألة فلسطين، وإن كان فيها لا يرى في الدولة العبرية قبل حرب 1967 أمراً ينبغي الشك بأحقيّة وجوده.

أما كتابه الأخير فقد وضعه بالمشاركة مع ناثان روبنسون بعنوان «أسطورة المثالية الأميركية... كيف تُعرّض السياسة الخارجية الأمريكية العالم للخطر».

لتشومسكي اليوم تراث في فضاءات كثيرة يمكن في كل منها انتقاده ونقضه وتجاوزه، لكن الرجل تحوّل بمجموع شخصياته إلى ظاهرة أكبر من الحياة بالفعل، فهو كما شامان لجيل من اللغويين الذين تربوا على نظرياته وكسبوا عيشهم من وراء تعليمها لغيرهم، ويراه اليساريون «أسداً لليسار» يزأر في قلب الإمبراطورية الأميركية، وانتخبه قُراء «بروسبيكت» (المجلّة اليمينية البريطانية) في 2005 المثقف الأوّل في العالم.