ترجمة مسجعة تحوّل القصائد إلى نسخة نرويجية من مقامات الهمذاني

الشاعر النرويجي بيورنستيرن بيورنسون منقولاً إلى العربية

ترجمة مسجعة تحوّل القصائد إلى نسخة نرويجية من مقامات الهمذاني
TT

ترجمة مسجعة تحوّل القصائد إلى نسخة نرويجية من مقامات الهمذاني

ترجمة مسجعة تحوّل القصائد إلى نسخة نرويجية من مقامات الهمذاني

حين عثرت، في أثناء مشاركتي الأخيرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، على كتاب «أغنية للنرويج»، لم أتردد في شرائه، لا بسبب الجرْس الإيقاعي الخاص الذي يمتلكه اسم الشاعر النرويجي بيورنستيرن بيورنسون، بل لأنني كنت متلهفاً للتعرف إلى ملامح الأدب النرويجي، الذي تكاد معرفتي به تقتصر على بعض أعمال الكاتب المسرحي الشهير إبسن، إضافة إلى أعمال قليلة لشعراء معاصرين، تمت ترجمتهم مؤخراً إلى العربية. والواقع أن أول ما فاجأني لدى الشروع في قراءة المختارات، التي نقلها إلى العربية وقدم لها الكاتب والمترجم المصري ياسر شعبان، هو كون صاحبها الذي حصل على جائزة نوبل للآداب بُعيد تأسيسها بقليل عام 1903، يكاد يكون مجهولاً بالكامل في العالم العربي، بينما عدّه النرويجيون واحداً من أكبر شعرائهم، وأقاموا له متحفاً خاصاً لتكريمه وتخليد ذكراه. وقد جاء في بيان الأكاديمية السويدية أن الجائزة قد منحت لبيورنسون «تكريماً لشعره النبيل والرائع والمتعدد الاستخدامات، والذي تميز على الدوام بوضوح إلهامه ونقاء روحه النادرة».
وقد تشكّل الكلمة التي ألقاها الشاعر في حفل تتويجه، المدخل الملائم للتعبير عن آرائه في الأدب والحياة، حيث يرى الشاعر أن الكتابة في عمقها هي فعل إيمان راسخ بتجديد عقد الأرض مع الأمل، حتى في ذروة المأساة والحروب الكارثية. وفي ذلك يقول: «كلما كان العبء الذي يحمله الإنسان فوق كتفيه كبيراً، كان عليه أن يكون أكثر قوة ليتمكن من حمله. وهكذا لا توجد كلمات لا يصح ذكرها، أو فعل أو حدث مرعب يتجاوز قدرات الوصف، ما دام المرء نداً لها». وقد اتخذ قلق الشاعر الفكري وبحثه المضني عن اليقين، مسارين اثنين، تَمثل أولهما في انقلابه على نشأته الدينية المتزمتة وانحيازه إلى القوى المكافحة من أجل التقدم والتغيير في بلاده، فيما تَمثل الآخر في انتصاره للحقيقة أكثر من الجمال. وهو ما تؤكده نصوص الشاعر التي رغم احتفائها بتضاريس بلاده الخلابة، لا تتعامل مع الطبيعة بوصفها وجوداً منعزلاً ومستقلاً عن البشر، بل بما هي امتداد جسدي وروحي لحيواتهم الظامئة إلى الحرية والعدالة وسعادة الإنسان.
أما نتاج بيورنسون الشعري فيعكس التزامه بقضايا بلاده والتصاقه بترابها الأم، واستلهامه الواضح لتراثها العريق ووجدانها الجمعي، كما لطبيعتها الخلابة التي «تتراقص في زرقة من لون البحر الرمادي والأخضر البهيج وتدور حولها جزرٌ مثل صغار الطير ويحتوي بحرها على ألسنة مرهفة». وقد بدا هذا الأمر جلياً من خلال حرص الشاعر على تحويل جزء من نتاجه إلى أناشيد وأغانٍ يرددها مواطنون من مختلف الأجيال والمستويات، ومن بينها النشيد الوطني النرويجي، وقصيدتا «إلى الأمام»، و«نحن نحب هذه الأرض». ولعل تعلق الشاعر المفرط ببلاده هو الذي حدا به إلى قيادة الحركة الوطنية النرويجية لفترة من الزمن، كما دفع الكثير من الدارسين إلى عدّه واحداً من المجسدين القلائل لروح النرويج وهويتها القومية الساعية إلى مزيد من التبلور والرسوخ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ومع تقديري التام للجهد البالغ الذي بذله ياسر شعبان لإطلاع القارئ العربي على الشعر النرويجي، من خلال أحد أفضل نماذجه وأكثرها عراقة، وعبر لغة ثالثة وسيطة هي الإنجليزية، فإن القارئ المهتم بالاطلاع على تجربة بيورنسون، لا بد أن يشعر بخيبة أمل صادمة، وهو يرى أمام ناظريه نصوصاً بالغة الوهن وركيكة الصياغة وخالية من نبض الشعر وروحه. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الشعر يتخذ في تلك الأصقاع من العالم، أساليب وأشكالاً للتعبير مختلفة إلى حد بعيد عما هو حال الشعر العربي، المشحون بالانفعالات والمشاعر الجياشة والغنائية العالية، فإن ما نحن بصدده هنا شأن آخر، يتصل بإفراغ النصوص من شعريّتها من خلال الاجتهاد الشخصي للمترجم، الذي قضى بتقفية غير مسوغة للأبيات، كنوع من المواءمة الإيقاعية «المفتعلة» بين اللغتين الأصلية والعربية. وهو ما يعكسه قول شعبان في الهوامش التوضيحية للكتاب: «تهدف الترجمة إلى إنتاج نموذج من الشعر، والوزن الشعري، والقافية التي تضاهي النص الأصلي قدر الإمكان. ولقد حظي هذا الأمر باستحسان، لأنه قد تم تلحين موسيقيّ لكثير من هذه الأغاني والقصائد. ومثل هذا الإنتاج يبدو الأكثر مطابقة للأصل والأكثر قبولاً، عندما لا يمتلك المترجم موهبة العبقرية الشعرية بدرجة مساوية لتلك التي يمتلكها المؤلف».
وإذا كنا لا نعرف على وجه التحديد مصدر الاستحسان الذي أشار إليه المترجم، أو هوية «المستحسنين»، فإن مثل هذا الاجتهاد مستغرَب تماماً، من كاتب واسع الاطلاع وذي باع طويل في الترجمة، حيث نقل إلى العربية الكثير من الروايات والأعمال السردية والدراسات الفكرية والأدبية. وهو يدرك كشاعر أن ترجمة الشعر، بما هو تجسيد لنبض اللغة الأم وهويتها الأصلية، هي مجازفة خطرة تنبغي مقاربتها بحذر شديد، وبطريقة حاذقة لا تُميت «ذئب» الشكل، ولا تُفني «غنم» المعنى. وليس بالمُجدي تبعاً لذلك، نقل الوزن أو القافية من النص الأصلي إلى النص المترجم، لأننا سنبتعد عن الأصل بما يكفي لطمس معالمه وتغيير بنيته التعبيرية، بحيث لا يبقى من هويته الفعلية إلا النزر القليل. ولم يكن المترجم بالقطع مضطراً إلى إفراغ النصوص الأم من تلقائيتها، بهدف الحصول على تقفيات متعسفة التركيب لأبيات القصائد، كما هو الحال في مقطع من مثل:

شمس المساء تشرق في جمال
وقطة تستلقي على الدرج
في كسل ودلال
فأران صغيران يميلان
في الحجم إلى الاضمحلال
لقد كانت القشدة لطيفة جداً
ولذيذة المذاق
وأربع قطع من السمك الشهي
الذي يثير الاشتياق
كانت قد سُرقت من أحد الأطباق...
والمؤسف أن مثل هذا النص «البائس» في صيغته المترجمة، لا يشكل استثناء القاعدة في الكتاب الشعري الذي تربو صفحاته على الثلاثمائة والخمسين، بل إن الأمور تستمر على هذا المنوال من التسجيع الذي يجعل من قصائد بيورنسون نسخة نرويجية، معدلة جينياً، من مقامات بديع الزمان الهمذاني. ومع أنني لا أميل بالمطلق إلى نقل الوزن من لغة إلى لغة، لأن ما نحصل عليه في هذه الحالة سيكون نصاً هجيناً ومختلفاً تماماً عن الأصل، فإن الخسارة ستكون أقل وطأة لو كانت التقفيات مقرونة بالأوزان، كما هو حال ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام، أو نقولا فياض لـ«بحيرة» لامرتين. لكنّ شعبان لا يكتفي بخلع الوزن مقابل تثبيت القافية، بل هو يلوي عنق النص وسياقه الطبيعي، للحصول على تقفيات ممجوجة وجمل ركيكة لا تمتّ إلى العربية بِصلة، من مثل ترجمته لقصيدة «إلى النحات بورش» التي يجيء في مطلعها:

مع الأصدقاء تقف شجاعاً ومنصفاً هُماما
وريث إلى اليوم من خمسين عاما
تبتهج بالمدح أعمالك الماضية الشمام
ولكن تشخص بناظريك للأمام
واللافت في هذا الإطار أن النصوص الوحيدة القابلة للقراءة في كتاب «أغنية للنرويج» هي تلك التي آثر المترجم أن ينأى بها عن التسجيع، مؤثْراً الحفاظ على سياق النص وصوَره وبنيته التعبيرية. وهو ما نعثر على نماذجه في مثل هذا النص:

أحبك أيتها الشقراء البكر
الجالسة في وشاح جمالك
الأبيض النقي
أحبك لعينيك الزرقاوين الحالمتين
تتحركان مثل ضوء القمر
فوق الثلج
أعشق الجمال المتكامل لهذه الجبهة
لأنها تقف بوضوح النجوم
ولعل في المقطع الأخير، الذي حرصت على إثباته في نهاية هذه المقالة، ما يشكل شيئاً من الإنصاف للمترجم شعبان، الذي كان قادراً لولا اجتهاده الخاطئ، على أن يُطلعنا بشكل أفضل على إحدى أكثر التجارب الشعرية تجسيداً لروح النرويج وهويتها القومية ورسالتها إلى العالم.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.