البُعد الفانتازي في رواية «شاهندة» لراشد عبد الله النعيمي

تقوم على هيكل معماري متماسك رصين تعززه حبكة متينة

غلاف «شاهندة»
غلاف «شاهندة»
TT

البُعد الفانتازي في رواية «شاهندة» لراشد عبد الله النعيمي

غلاف «شاهندة»
غلاف «شاهندة»

تلعب فكرة الانتقام دورًا مهمًا في البناء المعماري لرواية «شاهندة» لراشد عبد الله النعيمي، وقد تذكِّرنا بمحاولة انتقام هاملت من قاتل أبيه، لكن الأمر يتطلب وقتًا طويلاً من الانتظار الذي قد يُحيلنا هو الآخر إلى انتظار غودو أيضا مع فارق التشبيه، فحينما وقعت شاهندة في غرام محمود لم تكن تحبه أصلاً لأنه ابن سالم النخّاس الذي باعهم عبيدا، وسلبهم حريتهم الشخصية، وهي أثمن شيء في الوجود. فهي تُحبه وتكرهه في آنٍ معًا. وحينما اعترضها على مقربة من البيت المهجور، غرزت أنيابها في صدره، لكنها في الوقت ذاته كانت تريد أن تُوقعه في حبها، والأغرب من ذلك أن تجعله عبدا مملوكًا، لها في محاولة لردّ الاعتبار لكرامتها المسلوبة، وأن تكون سيدة عقله وقلبه في الوقت ذاته.
لقد بنى النعيمي روايته على هذه المفارقة والموقف الإشكالي الذي لا يخلو من تناقض ملحوظ، الأمر الذي يضعنا أمام شخصية مركّبة في أقل تقدير؛ فلقد استطاعت هذه الفتاة الوافدة الحسناء، أن تقلب قرية الحيرة رأسًا على عقب بدلعها ودلالها ومشيتها الفاتنة التي قضّت مضاجع الرجال حتى إن أحدهم، وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال، قد طلب يدها للزواج، لكنها رفضته لأنها تحب محمودًا، ابن سالم، وتريد أن تقترن به ويكون من نصيبها على الرغم من فظاظة والده الذي لا يجد حرجًا في المتاجرة بالبشر.
تتعمّق العلاقة العاطفية بين شاهندة ومحمود إلى الدرجة التي تمنحه معها أعزّ ما تملك، وحينما تعرض عليه فكرة الزواج يتذرع بأنه لا يستطيع التمرّد على الأسرة والتقاليد الاجتماعية، فكان ردّها على محمود بأنه «جبان ونذل وحقير»، ثم يوغل في الإساءة إليها حينما يتهمها بممارسة البغاء «كفاكِ، كفاكِ.. لم تكوني لي وحدي قط». (الرواية، ص146). عند ذلك تهدده وتتوعده بأنه سوف يدفع ثمنًا باهظًا لخيانته. تُرى، ما الطريقة التي ستنتقم بها شاهندة من محمود؟ قد يعتقد القارئ أنها قد تقتله لتشفي غليلها وتنتقم لشرفها المُضاع بسببه، وقد تفكر بقتله معنويًا كي تُطفئ النار المتأججة في أعماقها؟ هكذا يتشظى البناء المعماري للنص، وتتوسع أحداثه؛ حيث تغرق السفينة ويموت النوخذة شهداد، لكن ميتته هي بالتأكيد ميتة بطل عظيم.
لم ينتبه حسين إلى جمال شاهندة من قبل، ولم يصخ السمع إلى الأقاويل التي شاعت عن «بغائها» كما يدّعي الوشاة الطامعون بها. وها هو الآن ينظر إليها امرأة ناضجة، بل يطلب منها أن تجلس إلى جواره طالما أن كل شيء مُباح للرجل في هذه المضارب الصحراوية، لكنها ترفض بشدة، الأمر الذي يدفع إلى الانتقام منها، فيبيعها إلى التاجر جابر بن سلطان حتى من دون أن تودّع أمها، فلا غرابة أن تتسع الرغبة عندها للانتقام من كل الرجال على حدٍ سواء.

نموّ الشخصيات

لا شك في أن شاهندة شخصية ذكية، قوية الملاحظة، سريعة التعلّم، أحبّت محمودًا، لكنه خانها وطعنها في الصميم، فقررت الانتقام منه، ومن كل الرجال الذين يمكن أن تطالهم، فحينما طلب جابر أن يقضي وطره منها، قالت له: «هاك جثتي بين يديك.. افعل بها ما تشاء» (الرواية، ص194)، الأمر الذي يدفعه للزواج منها على سُنّة الله ورسوله، وتُنجب له فتاة سوف تسمّيها حليمة، لكنها سوف تخونه مع خادمه عبد الله الدلال الذي لا يتورع عن إيصالها إلى مخادع التجار الأثرياء والموسرين في القرية. حينما عاد زوجها من إحدى رحلاته، جلب معه امرأة شقراء، فعرفت بحس الأنثى وغريزتها التي لا تُخطئ بأن جابرًا قد واقعها في ظلام الصحراء، فقررت في نفسها أن تخونه مع علي، الشاب الأسمر الذي أبدى إعجابه بها غير مرة، وحينما استدرجته إلى كهف مجاور للقرية انقضّ عليها مثل حيوان مفترس، فصرخت بأعلى صوتها وادعت أمام مجموعة من الرجال أنه حاول الاعتداء عليها، فانتقمت من رجلين في آنٍ معًا!
لم يكن عبد الله يحب سيده جابر، ولكنه يخشاه، كما أنه لم يكن يحب شاهندة، بل كان يشتهي جمالها الأخاذ، فلا غرابة أن يأخذها إلى أثرياء القرية ويتاجر بجسدها الغضّ، فلا فرق بين تجارة العبيد وتجارة البغاء! وحينما اكتشفت شاهندة طريق البغاء لوحدها، هدّدها الخادم عبد الله بالانتقام، وعاشت أيامًا غير قليلة بانتظار أن يصبّ هذا الأخير جام غضبه عليها، لكن جابرًا قد سبقه إلى الانتقام من الزوجة الخائنة والخادم غير الأمين، وشعر بأنه قد أخطأ حينما ترك الذئب والحَمَل في قفص واحد!
لم يكن انتقام جابر سهلاً، فلقد أمر رجاله أن يتركوا عبد الله كي يموت من العطش وتنهشه الصقور حتى الموت. أما شاهندة، فلقد تركها عند رجل وحيد في السبعين من عمره ماتت زوجته، وهرب أولاده بحثًا عن الحياة، وظل هو وحيدًا في هذه الواحة مكتفيًا بما لديه من ماء وطعام. لكن هذا الرجل الطاعن في السن فارق الحياة، فانقطعت القوافل. وحينما قررت أن تهيم على وجهها، سقطت في غيبوبة، ثم وجدت عند رأسها عددًا من الرجال الذين يصيدون الحُبارى، حيث سقوها بضعة قطرات من الماء واصطحبوها معهم إلى المدينة.

النهاية الفانتازية

على الرغم من أن الحياة تنطوي على مفاجآت كثيرة، فإن نهاية شاهندة لم تكن لتستقيم لولا استعانة الروائي راشد عبد الله بالبُعد الفانتازي الذي يُذكِّرنا بالأساطير والقصص الخرافية. فشاهندة التي سُلبت منها حريتها الشخصية وأصبحت أَمَةً تُباع وتُشترى للأثرياء والموسرين، تجد نفسها فجأة في صحبة قائد الحرس الملكي وتحت رعاية زوجته التي أحبتها وعاملتها كشقيقة لها، كما وجدت فيها ضالتها المنشودة بعد وفاة الملك؛ إذ كانت تتمنى أن يصبح زوجها وزيرًا، وسوف تكون شاهندة مفتاحًا لهذه الحقيبة الوزارية المغلقة.
قد تشتبك الأحداث في القصر الملكي «المُفترض» الذي «تتضبب» صورته تمامًا وكأننا أمام بلاط أسطوري بالفعل، حيث تصبح شاهندة محظية الملك الأولى وتطلب منه تعيين قائد الحرس وزيرًا، وحينما تُنجب له الأمير فايز، تصبح ملكة البلاد ومحط اهتمامه الأول على الرغم من وجود كثير من المحظيات. وبعد مرور سنتين تطلب الملكة شاهندة عبدا يُدعى محمود سالم النخّاس، فيؤتى به سريعا، وحينما تسأله إن كان يعرف فتاة اسمها شاهندة، يرد بالإيجاب، ثم تستفسر عن مكان وجودها، فينفي معرفته بذلك، مكتفيًا بالقول إنها رحلت قبل خمس عشرة سنة، ثم تصل إلى ذروة ما تصبو إليه، وربما كانت تجد عزاءها الوحيد في إجابته عن هذا السؤال ذي الشقّين المتوازيين: هل كنت تُحبها؟ فيجيب: لا يا مولاتي. وهل كانت تُحبكَ؟ لا يا مولاتي. لقد كانت بغيًا لكل شباب القرية. حينها تضطر للمواجهة فتخبره: أنت كاذب وحقير. ارفع رأسك وأنظر يا ابن النخّاس أنا شاهندة! عندها يقع مغشيًا عليه. ويبدو أن نبوءتها قد صدقت، ولكن ما شكل الطريقة التي ستنتقم بها منه وهي السيدة الأولى في هذه المملكة المُفترضة. أمرت قائد الحرس أن يأخذه معه ويعود به بعد أسبوع وقد أصبح أحد «آغوات» القصر، ووصف الآغا آنذاك هو الرجل الذي يُقطع عضوه الذكري كي لا يشكِّل خطرًا على نساء القصر.
لم يكتفِ عبد الله راشد بصدق نبوءة شاهندة وانتقامها القاسي من محمود الذي خانها، وشهّر بها، وجعلها مجرد وعاءٍ جميل لشهواته الإيروسية العابرة، بل ذهب أبعد من ذلك حينما جعل شاهندة تبكي بشكل متواصل ومرير حتى تحوّل القصر إلى دير موحش، بينما انقلبت هي إلى راهبة متوحدة فيه على الرغم من أنها سيدة البلاد الأولى.
نخلص إلى القول إن «شاهندة» رواية متماسكة، لأنها تقوم على هيكل معماري رصين، تعززه حبكة متينة جمعت بين دفتيها شخصيات متنوعة على الرغم من هيمنة شاهندة على مدار النص الروائي، الذي مزج فيه الكاتب بين الحقيقة والخيال، ليقدّم لنا نصًا روائيًا رائدًا استطاع الصمود على مدى أربعة عقود ونيّف، ولما يزل يقدّم نفسه نصا حديثا قابلا للقراءة كأي نص روائي متجدد ومتوهِّج على الدوام.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.