سليمان منصور: الإسرائيليون منعوا رسم البطيخ لأن له ألوان العلم الفلسطيني

صاحب «جمل المحامل» يتذكّر ويروي لـ {الشرق الأوسط} معركة التشكيليين مع الاحتلال

التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور إلى جانب لوحته الشهيرة «جمل المحامل»
التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور إلى جانب لوحته الشهيرة «جمل المحامل»
TT

سليمان منصور: الإسرائيليون منعوا رسم البطيخ لأن له ألوان العلم الفلسطيني

التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور إلى جانب لوحته الشهيرة «جمل المحامل»
التشكيلي الفلسطيني سليمان منصور إلى جانب لوحته الشهيرة «جمل المحامل»

شكل عام 1972 بداية مرحلة جديدة في مسيرة الفن التشكيلي الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ يشكل بداية فعلية للفن التشكيلي الفلسطيني الحديث، انطلقت مع معرض الفنان الراحل عصام بدر الشخصي الأول في القدس، الذي اجتذب إليه المهتمين بالفن الفلسطيني.
يتذكر سليمان منصور تلك الفترة، ويقول: «التقينا في هذا المعرض، واكشفنا أن قرابة العشرين فنانًا تشكيليًا يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة)، ومن هنا انطلقت فكرة تأسيس اتحاد أو رابطة للفنانين التشكيليين، رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منحها ترخيصا».
لكن منصور وبدر، وغيرهما، أصروا على تأسيس الرابطة التي نظمت أول معرض مشترك للتشكيليين في القدس عام 1975، انتقل بعدها إلى رام الله، ونابلس، والناصرة، وغزة، وكان بمثابة أول اتصال ما بين الفنان والجمهور. يقول منصور: «في نابلس أقيم المعرض في مبنى البلدية، ولكثافة الجمهور اضطرت البلدية للاستعانة بعناصر من الشرطة لتنظيم دخول الوافدين إليه. فقد عبّرت اللوحات المعروضة عن هموم الشعب الفلسطيني وطموحاته باللون والخط، خاصة في حضور الفنانين أنفسهم، الذين خاضوا نقاشات معمقة مع الجمهور، تركت أثرها عليهم، وهم من آمنوا بأنهم رأس الحربة في مقارعة الاحتلال، وأنهم لا بد أن يصلوا بلوحاتهم إلى كل منزل أو غالبية المنازل الفلسطينية».
ويروي منصور لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل تلك المسيرة التي تنشر للمرة الأولى فيقول: «قررنا طباعة أعمالنا في ملصقات (بوسترات)، وكانت خطوة ناجحة، بحيث وصلت أعمالنا إلى كل بيت تقريبًا، بل وجرى وضع إطارات لها وعرضت في أماكن بارزة في المنازل والمحال التجارية».

هجمة على الفن

وبعد أن تنبهت سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتأثير تلك الملصقات الفنية، نظمت حملات عدة لمصادرتها، بل وفرضت غرامات على من يقوم ببيعها أو توزيعها.
وفي مرحلة لاحقة، بدأت قوات الاحتلال باقتحام المعارض ومصادرة ما فيها من، وخصوصا في «غاليري 79» في رام الله القديمة، المعروفة بـ«رام الله التحتا». وكان قد أشرف عليه، إضافة لمنصور، كل من الفنان الراحل عصام بدر، والفنان نبيل عناني. وخلال فترة قصيرة، باتت هذه المعارض هدفًا للاحتلال، الذي راح يصادر ما لا يروق له من أعمال فنية، ولم يكن هناك قانون ينظم هذه المصادرات في تلك الفترة، بل كانت تخضع لمزاج جنود الدورية الذين يداهمون المعرض.
ولم تكتفِ سلطات الاحتلال وقواتها بذلك، وداهمت منازل الفنانين الفلسطينيين وصادرت أعمالهم، كما حصل مع الفنانين كامل المغني وفتحي الغبن، وغيرهما، قبل عرضها على الجمهور في أغلب الأحيان.

إغلاق الغاليري

في مطلع ثمانينات القرن الماضي، أقام سليمان منصور معرضًا شخصيا له في «غاليري 79»، فاقتحمت قوات الاحتلال المعرض، وصادرت لوحاته وأغلقته.
ويروي منصور حكاية مثيرة للدهشة في تلك الفترة، فيقول: «تم استدعاؤنا من قبل سلطات الاحتلال، أنا، ونبيل عناني، وعصام بدر، وقرأوا علينا أوامر تتعلق بالممنوعات الإسرائيلية المتعلقة باللوحات والأعمال الفنية الفلسطينية، ومن بينها حظر رسم ألوان العلم الفلسطيني (الأبيض، والأسود، والأحمر، والأخضر)، وأكدوا لعصام بدر، الذي عقب على قراراتهم، أن أي لوحة تتضمن هذه الألوان حتى لو كانت تعرض بطيخا، سوف تجري مصادرتها لتضمنها ألوانا ممنوعة. كما منعنا من إقامة أي معارض دون تصريح من رقابة الاحتلال، التي تذرّعت بقانون من يعود لحقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، ما عقد عملنا كفنانين، لكننا تحايلنا على الأمر من خلال العرض في البلديات، التي كانت ذراعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية في معظمها».
وأضاف منصور: «ساهمت هذه القرارات التعسفية في استقطاب الكثير من الفنانين العالميين الذين عبروا عن تضامنهم معنا، وأقمنا معارض مشتركة تحت عنوان (فليسقط الاحتلال)، واستمرت هذه الحالة حتى الانتفاضة الأولى عام 1987».

الانتفاضة الأولى

وأشار منصور إلى أن الفن لم يلعب دورا بارزا خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت في نهاية 1987، ولم يعد «رأس الحربة»، كما كان، حيث «اكتشفنا أن المشاركين في المظاهرات ضد الاحتلال في تلك الفترة، لا يعرفون الكثير عنا، بل إن بعضهم لا يعرفنا أصلاً، ما أصابنا بحالة من الإحباط، لكننا شعرنا بنوع من الحرية لنصنع ما نريد لا ما يريده الجمهور».
وأضاف: «في ظل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في تلك الفترة، قررنا كفنانين مقاطعة مواد التلوين، واعتمدنا في أعمالنا الفنية على مواد خام من منتجات الأرض الفلسطينية. اتجهت أنا نحو الطين الذي شكل الكثير من أعمالي، في حين اتجه نبيل عناني إلى الجلود والحناء، وتيسير بركات إلى الخشب، وراح يستخلص ألوانه من قشر الجوز والرمان وغيرهما. أما فيرا تماري، فعملت في الخزف، وانسجم الجميع مع فلسفة الانتفاضة ومتطلبات مقاطعة منتجات الاحتلال».
ورأى منصور أن الفن التشكيلي الفلسطيني في تلك الفترة، كان الأكثر تعبيرًا عن الانتفاضة، مع عدم التقليل من أهمية صنوف الفنون والآداب الأخرى، من شعر ورواية ومسرح، وغيرها، على الرغم من الحضور المهم للأغنية أيضًا.

جمل المحامل

وكشف منصور عن أن اللوحة الأصلية لـ«جمل المحامل»، الشهيرة، والتي رسمت في عام 2005، وبيعت منها أخيرا، نسخة ثالثة بمبلغ 257 ألف دولار، خلال مزاد «كريستيز» العالمية للفنون الحديثة والمعاصرة، الذي احتضنته دبي، وهو رقم قياسي وسابقة للفن التشكيلي الفلسطيني.
وكانت النسخة الأصلية من «جمل المحامل»، التي رسمها منصور في عام 1973، فقدت في مكتب في شارع صلاح الدين في القدس القديمة.
وأضاف منصور: «رسمت نسخة ثانية في عام 1975، وبيعت في معرض بلندن لصالح الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، عبر سفير بلاده في لندن آنذاك، ولا أعرف مصيرها الآن. أما العمل المباع في (كريستيز) بدبي، فهو النسخة الثالثة من (جمل المحامل)، وقمت بإضافة بعض التغييرات الطفيفة على النسخة الأصلية، من بينها رسم لكنيسة بالقرب من قبة الصخرة».
وعلمت «الشرق الأوسط» أن المبلغ الذي دفعه السفير الليبي، آنذاك ساهم بشكل كبير في توفير مصاريف حفل زفاف منصور نفسه، وأن اللوحة أصبحت موضوعًا لفيلم وثائقي يعمل عليه الفنان التشكيلي الفلسطيني خالد الحوراني، ويسعى من خلاله إلى توثيق رحلة البحث المتواصلة عن هذه اللوحة، وما إذا أتلفت في قصف قصور القذافي، أم سرقت، أم أنها لا تزال موجودة في مكان ما في هذه القصور، وإن لم يفض البحث بعد إلى نتائج واضحة.
وأشار منصور إلى أن اللوحات التي تتحول كأيقونات يقوم مبدعوها برسم نسخ متعددة منها، وهذا لا يقتصر على «جمل المحامل»، بل هو عرف دولي سار عليه كبار الفنانين منذ قرون، مؤكدًا أن شهرة هذه اللوحة فاقت شهرته كفنان، وأنها باتت علامة فارقة في تاريخ الفن الفلسطيني الحديث، كونها تعكس بشكل أو بآخر، قضية فلسطين، وخصوصا قضية القدس، وإن كنت، من ناحية فنية، رسمت ما هو أفضل منها بكثير على مدار السنوات الماضية.



رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
TT

رقائق ذهبية من مقابر البحرين الأثرية

قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة
قطعتان ذهبيتان من مقبرة أبو صيبع تقابلها ثلاث قطع مشابهة من مقبرة الشاخورة

كشفت أعمال التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الرقائق الذهبية، زُيّن بعض منها بنقوش تصويرية تتميّز بطابعها الفني المتقن. تعود هذه المجموعة إلى الحقبة التي عُرفت بها هذه البلاد الجزرية باسم تايلوس في القرون الأولى من عصرنا، وتشهد لتقليد فني جنائزي شاع في نواحٍ عدة بالشرق الأدنى، وبلغ ساحل الخليج العربي.

خرجت هذه الرقائق الذهبية من مقابر عدة موغلة في القدم، تقع اليوم في المحافظة الشمالية، وتطل على شارع البديع. تُعرف هذه المقابر بأسماء القرى التي تجاورها، وهي مقبرة أبو صيبع، ومقبرة الشاخورة، ومقبرة الحجر. تقع أولى هذه المقابر على تل دائري يبعد نحو 8 كيلومترات غرب المنامة ونحو 500 متر جنوب دوّار جنوسان عند شارع البديع، وهي من المواقع الأثرية التي شرع فريق بحريني في استكشافها منذ عام 1983. أظهرت أعمال المسح قبوراً عدة، حوت مجموعات من الأواني الفخارية والزجاجيات والحلى، دخل قسم كبير منها القاعة التي تحمل اسم تايلوس في متحف البحرين الوطني بالمنامة، ومنها 4 رقائق بيضاويّة مصنوعة من الذهب، تُشكّل زوجين متشابهين من الأقراص كما يبدو.

عُثر على زوج من هذه القطع الذهبية عند أعلى صدر أحد الراقدين في هذه المقبرة، وعُثر على الزوج الآخر المشابه له عند أسفل الصدر، ممّا يوحي بأنها مشابك صُنعت لتثبت عند أطراف رداء الجثمان أو كفنه. يحمل كل زوج من هذه الأقراص صورتين منقوشتين، تمثّل الأولى وجه رجل ملتحٍ يظهر في وضعية جانبية، وتمثّل الأخرى قامة نسر مجنّح يظهر كذلك في وضعية مماثلة. تحتلّ صورة الرجل مساحة بيضاوية مسطّحة يبلغ طولها 5.3 سنتيمتر، وتظهر على شكل نقش ناتئ حُدّدت تفاصيله بأسلوب يجمع بين الدقة والإتقان والرهافة. الطابع الفني يوناني، مع أنف طويل، وعين يحدّها جفنان بارزان، وفم مطبق تحيط به لحية تنسدل من أعلى الوجنتين إلى أسفل الذقن. يرتفع هذا الوجه فوق عنق ترتسم فوق كتفين يعلوهما ثوب يوناني تقليدي، كما توحي ثناياه الملتفة حول المنكب. في المقابل، تحتل صورة النسر مساحة يبلغ طولها 4 سنتيمترات، وتُمثّل طيراً يقف منتصباً، فاتحاً جناحيه المنبسطين في الفضاء.

تتكرّر صورة هذا الرجل الملتحي مع اختلاف في التفاصيل على قطعتين ذهبيتين من الطراز نفسه، مصدرهما مقبرة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع. وهي مقبرة كبيرة تُشكّل موقعاً كبيراً يشمل سلسلة من التلال المنخفضة، تحوي مجموعة من مدافن تعود لفترة تايلوس. تظهر صورة الرجل الملتحي على صفحة منمنمة مستطيلة، كما تظهر على صفحة دائرية، وتوحي ملامحها بأنها تمثّل وجهاً واحداً يختزل في وحدته شبهاً مثالياً يتجاوز الملامح الفرديّة.

يظهر المثال الأنثوي على قرص دائري يبلغ طول قطره 3.2 سنتيمتر، مصدره كذلك مقبرة الشاخورة. الأنف طويل ومتصل بالجبين، والعين مفتوحة وسط هدبها، والثغر صغير. الوجنة مكتنزة، والعنق منتصب، ويحدّه عقد تنسدل منه سلسلة من الحبات الرباعية الأضلاع. الشعر مرفوع إلى الوراء، مع جدائل معقودة تبلغ أعلى طرف الظهر. تبدو هذه الصورة المنقوشة على صفحة رقيقة من الذهب مماثلة للصور المنقوشة على الجواهر التي يُشار إليها باسم «قميو»، وهو اسم خاص بصنف من الجواهر، عُرف في ميدان الفنون الفاخرة الكبرى بشكل واسع على مدى عصور.

إلى جانب هذه الرقائق الذهبية التي تتبنّى أسلوباً تصويرياً، تحضر رقائق أخرى تحمل طابعاً تجريدياً، مصدرها مقبرة الحجر التي تتبع قرية تحمل هذا الاسم، تقع كذلك على شارع البديع، وتحديداً بين قرية أبو صيبع وقرية القدم. تنقسم هذه الرقائق إلى مجموعتين. عثرت بعثة محلية على المجموعة الأولى خلال عام 1971، وهي مكونة من قطع صغيرة متعددة الأشكال صُنعت لتزيّن أكاليل خاصة بالراقدين. وعثرت بعثة محلية أخرى على المجموعة الثانية بين عام 1992 وعام 1993، وهي مكوّنة من رقائق مستطيلة ذات أطراف مقوّسة، صُنعت لتثبّت فوق أفواه الراقدين في قبورهم.

تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً شاع في مقدونيا القديمة كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا

استُخدم الذهب منذ أقدم العهود في ميادين فنية متعدّدة، وتعدّدت أشكاله بين حضارة وأخرى، وبين حقبة وأخرى. في «اللطائف والظرائف»، نقل الثعالبي عن شداد الحارثي في «باب مدح الذهب»: «الذهب أبقى الجواهر على الدفن، وأصبرها على الماء، وأقلّها نقصاناً على النار، وهو أوزن من كل شيء إذا كان في مقدار شخصه، وجميع جواهر الأرض إذا وضع على الزئبق في إنائه طفا، ولو كان ذا وزن ثقيل وحجم عظيم، ولو وضعت عليه قيراطاً من الذهب لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وله حسن وبهاء في العيون، وحلاوة في الصدور، ومنه الزريابات والصفائح التي تكون في سقوف الملوك، وعليه مدار التبايع منذ الزمان الأول والدهر الأطول».

افتتن أهل الأرض بالذهب «منذ الزمان الأول والدهر الأطول»، وجعلوا منه ثمناً «لكل شيء»، كما تشهد الحضارات المتعاقبة على هذه الأرض. تعكس قطع البحرين الذهبية تقليداً فنياً راسخاً شاع في مقدونيا القديمة، كما في مواقع تقع اليوم في مناطق حدودية من بلغاريا. ويتمثّل هذا التقليد في صناعة رقائق من الذهب تستقر على أعضاء معيّنة من الجثامين، وعلى مواقع محدّدة من الأكفان. امتدّ هذا التقليد إلى الشرق الأدنى، وشاع في الساحل الفينيقي، كما تشهد قطع عُثر عليها في صيدا وجبيل وبعلبك وحمص.

بلغ هذا التقليد الجنائزي نينوى في شمال العراق، ووصل منه كما يبدو إلى الجزيرة العربية، كما تؤكد القطع التي خرجت من مقابر البحرين، والقطع المشابهة التي عُثر عليها في نهاية القرن العشرين بمدفن شُيّد في شرق مستوطنة ثاج التي تتبع اليوم شمال شرقي المملكة العربية السعودية، وتقع على بعد نحو 95 كيلومتراً من مدينة الجبيل غرباً، وسط وادٍ ضحل يمتدّ على الطريق التي كانت تسلكها قديماً القوافل التجارية.