ما علاقة إهمال عاصمة لبنان الثانية بـ «صندوق الرسائل»؟

اطلاق نار أثناء تشييع ضحايا الزوق في شمال لبنان (أ.ف.ب)
اطلاق نار أثناء تشييع ضحايا الزوق في شمال لبنان (أ.ف.ب)
TT

ما علاقة إهمال عاصمة لبنان الثانية بـ «صندوق الرسائل»؟

اطلاق نار أثناء تشييع ضحايا الزوق في شمال لبنان (أ.ف.ب)
اطلاق نار أثناء تشييع ضحايا الزوق في شمال لبنان (أ.ف.ب)

أرخت نكبة غرق المركب البحري قبالة الشاطئ اللبناني، بثقلها على واقع مدينة طرابلس، عاصمة لبنان الشمالي، الغارقة في الحرمان والإهمال، نتيجة الغياب المتمادي لمؤسسات الدولة، والذي حول أبناء المدينة فريسة للهجرة غير الشرعية، ليختاروا «الموت السريع في البحر، عوض الموت البطيء في مدينتهم».
يفترض أن تكون طرابلس من أغنى المدن اللبنانية بالنظر لموقعها الجغرافي على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، حيث كانت قبل إعلان دول لبنان الكبير تسمى «حاضنة الساحل السوري»، وبعده باتت تعرف بـ«الرئة السورية» على البحر المتوسط، لأنها تميزت بمرفأ استراتيجي على المتوسط، وكانت مقراً لأكبر مصانع الشرق، وموقعاً متميزاً للترانزيت والتبادل التجاري، قبل أن تغير الحرب الأهلية وجهتها وتستمر معاناتها بعد الحرب.
لا شيء يفسر غياب السلطة عن طرابلس، وإحجام زعاماتها عن الاهتمام بها، إلا الرغبة بإبقائها مجرد صندوق بريد لتبادل الرسائل الداخلية والإقليمية، وفق ما يرى وزير الشؤون الاجتماعية السابق رشيد درباس. ويعزو ما تعيشه مدينته من اضطرابات وفقر وأزمات اجتماعية وهجرة بقوارب الموت، إلى فقدانها المرجعية السياسية. ويقول في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «غياب (رئيس الحكومة السابق) سعد الحريري عن المشهد السياسي واستنكاف (رئيس الحكومة الحالي) نجيب ميقاتي، وعدم قدرة النائب فيصل كرامي على أن يكون وريثاً حقيقياً لوالده (رئيس الحكومة الراحل) عمر كرامي وعمه (رئيس الحكومة الراحل) رشيد كرامي، جعل طرابلس مفتقدة للقيادة الحقيقية»، مشيراً إلى أن «صراعات المكونات السياسية داخل طرابلس أفقدت مجلسها البلدي فاعليته وحوله إلى أجنحة متصارعة بدل أن يكون مجلساً إنمائياً».
مأساة الزوق البحري وغرق معظم ركابه، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، مع انسداد الأفق وفقدان الأمل بتغيير الواقع القائم في طرابلس كما كل لبنان، من هنا يعتبر الخبير في السياسات العامة زياد الصائغ أن «مأساة هذا الزورق ليس حالة معزولة عن سلسلة المآسي التي تعيشها مدينة طرابلس، والتي حولت للأسف الهجرة غير الشرعية إلى أمر عادي». ورأى الصائغ في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «حادثة غرق مركب المهاجرين، يؤشر إلى حالات غير عادية هي، أولاً: وجود مافيات للتهريب متحكمة بهذه اللعبة، وتنسج علاقات مع مواقع النفوذ في السلطة وتحظى بغطاء واسع، ثانياً: استمرار حملات التضليل والتغرير بأبناء طرابلس وعكار أيضاً، بتأمين وصولهم إلى دول أوروبية للهرب من الواقع الاجتماعي المفجع، ثالثاً: الغياب التام للسلطات المحلية في الشمال اللبناني عموماً، وطرابلس خصوصاً، بالتزامن مع تنامي حالات الفقر والإهمال، رابعاً: وهو الأخطر، الاستغلال السياسي لهذه الحادثة وغيرها لشيطنة طرابلس، وهذا ما برز عبر تصريحات خبيثة تدعو إلى ضبط النفس وعدم أخذ المدينة إلى الفتنة، وكأن حالة الغضب هي دعوة للفتنة، مع موجب التنبه إلى أن هناك من قد يسعى لتمرير أجندة خبيثة لا علاقة لها بما جرى».
غالباً ما يجري التعاطي مع عاصمة لبنان الشمالي على أنها بؤرة حاضنة للتوترات الأمنية وأسباب الصراعات، وثمة من يتخوف اليوم من استثمار مأساتها في تطيير الانتخابات النيابية، أو بروز معالم حرب أهلية جديدة، إلا أن الوزير رشيد درباس غير متخوف على أمن طرابلس رغم بعض المظاهر غير المألوفة، مذكراً بأن «حالات الغضب التي تعيشها المدنية ليست إلا ردة فعل على المأساة، لأن الحرب تحتاج إلى قرار تتخذه جهات داخلية وخارجية تؤمن لها العدة والتمويل، ولا أرى أن ثمة وقوداً لهذه الحرب». وقال درباس: «في السابق كان البعض يستغل البطالة عند الشباب لاستخدامهم في معارك باب التبانة وجبل محسن، أما اليوم من هم بحالة بطالة يعرضون حياتهم للخطر، ويفضلون الخروج والموت في البحر بدل بقائهم في بلدهم»، داعياً إلى «عدم النفخ في نار تسعير العداء للجيش اللبناني حتى لو أخطأ».
ولا تختلف الآراء حيال تقصير الزعامات السياسية من أبناء طرابلس، وإهمال واقع مدينتهم رغم أن بعضهم من أثرياء لبنان، حيث عبر زياد الصائغ عن حزنه العميق لـ«ظاهرة الغياب الكلي للمرجعيات السياسية والمدنية والروحية عن المشهد، وعدم التعاطي بمسؤولية تواكب مأساة غرق الزورق وموت الأطفال والنساء غرقاً»، مبدياً خشيته من «استغلال خبيث للحادثة الفاجعة، وهذا ما بدأ يظهر في بعض الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تتهم طرابلس بأنها تلعب دور الانقلاب على الدولة، في حين أن الدولة هي من تخلت عن طرابلس وأهلها»، محذراً من أنه «إذا كانت طرابلس اليوم في قلب المأساة، وثمة من يتعمد عن خبث ضربها وتصويرها أنها خارج الدولة من أجل تمرير أجندات والتلاعب باستحقاقات، فإن لبنان كله سيدفع ثمن غياب الدولة».
وعكست مشاهد الفوضى التي عمت بعض مناطق طرابلس، قلقاً لدى السكان، خصوصاً أنها ترافقت مع ظهور مسلح وإطلاق نار كثيف وعشوائي بالتزامن مع نقل من انتشلوا من ضحايا الزورق خصوصاً الأطفال إلى المستشفيات، واعتبر الصائغ أن «المشهد الذي رأيناه في طرابلس خلال الساعات الماضية خطير للغاية، لأن الدولة استقالت من مسؤولياتها تماماً، ووضعت الناس بمواجهة الجيش، والجيش بمواجهة الناس، وربما ثمة رغبة لدى بعض السياسيين في هذا الواقع من أجل تصفية حسابات سياسية مع مؤسسة الجيش».



انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.