بعد معاناة مع المرض، ترجل فجر أمس الشاعر السعودي علي الدميني (74 عاماً)، عن صهوة الشعر، تاركاً خلفه دهراً طويلاً يصدح بالقصائد التي اختطها على دروبٍ محفورة بالشغف والمعاناة، وغرسها كأشجار السنديان الوارفة.
إنه الشاعر الذي ظل ينافح عن قيم الحداثة والحرية والوطن طوال حياته: «ولي وطنٌ قاسَمتُه فتنة الهوى / ونافحتُ عن بطحائه من يقاتلُه / إذا ما سقاني الغيث رطباً من الحيا / تنفّس صبح الخيل وانهلّ وابلُه / وإن مسّني قهرٌ تلمّستُ بابه / فتورق في قلبي بروقاً قبائلُه / تمسّكت من خوفٍ عليه بأمّتي / وأشهرتُ سيف الحبّ هذي قوافلُه».
قبل أيام قليلة كتب لي الدميني رسالة بعد مقال كتبته عنه في هذه الصحيفة، كانت تحمل شعور فارسٍ يكاد يهزمه الألم... هذه النغمة ليست معتادة من صاحب قصيدة «الهوادج»: «ما تبقى من العمر إلا الكثيرْ / فماذا أسمي البياض الذي يتعقّبني / غازياً أم أسيرا؟ / قم من الليل، يا لابس الخيل كيما ترى أفقاً / ناسكاً ونهاراً طهورا».
عناوين مؤلفاته
شاعر الحداثة
مثّل الدميني «حالة استثنائية» في المشهد الثقافي السعودي. منذ هلّ من قرية «المحضرة» في ريف الباحة الجنوبي المفعم بالتلوينات المُلْهِمة، إلى الظهران على ساحل الخليج العربي في عام 1968، منذ ذلك الوقت وهو يمثّل حالة إبداعية فريدة من نوعها، فقد حوّل القصيدة، والكلمة المكتوبة، عبر الصحافة، خصوصاً ملحق «المربد» إلى مدماك ثقافي يرسم المسارات نحو الحداثة.
لم يكن الدميني مجرد حالة أدبية أسهمت بفاعلية في تأسيس الحركة الشعرية الحديثة في المملكة، وإنما كان عنواناً بارزاً في مشروع الحداثة الثقافية والفكرية والاجتماعية الذي وجد رواداً ينافحون من أجله ويحملون شعلته. وكانت القصيدة في يده «كفاعلية ممكنة لاختراق السائد وإعلان التساؤل حول كمال المنجز، وفتح الأبواب العلنية لتأسيس ذائقة جديدة تؤدي دور المفاعيل الثقافية والاجتماعية الأخرى الغائبة».
امتزجت شعرية الدميني بالوعي: وعي اللحظة الشعورية، ووعي الزمان الذي يتشكل سريعاً، ووعي المكان الذي تسري فيه عجلة التحديث والتطوير والنمو مع اتساع دائرة التعليم والمعرفة.
ولم تكن المعركة بين الحداثيين وخصومهم محصورة باجتراحهم لقصيدة النثر أو التفعيلة، كانت قوالب الشعر الحديثة مجرد واجهة للانفتاح على العالم والانعتاق من الثقافة السائدة. وكان الدميني ينحاز للشعر المنتمي للحداثة «بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، والانتصار للتقدم والرفع من مكانة المرأة».
خاض معارك الحداثة، في وجه دولاب التشدد. ويقول لي في حوار نشرته «الشرق الأوسط»: «أؤكد أن مشروع الحداثة الأدبية والفنية في بلادنا قد تغلّب على كل العنف المضاد له من الجهات كافة»، ورغم أن تلك المعارك أدمت أصحابها، فإنه ينظر بوعي ثاقب إلى أن المعركة لم تنجز بعد، يحدثني قائلاً: (مشوار الحداثة في الأدب والشعر في بلادنا تحديداً لا يمكن له أن ينجز مشروعه الحداثي الحلمي إلا حين تتكامل للمجتمع كل مقومات تبنّي قيم وآليات تحقيق زمن الحداثة، في أبعادها الحياتية المختلفة».
ويقول إن «الحداثة وفق قيمها الناظمة لسيادة العقلانية والحرية والديمقراطية وتحرير الكينونة الذاتية والإبداعية من أحمال الإرث والعادات والنمط والقهر الاجتماعي والسياسي، لا تتحقق بشكل عام إلا ضمن منظومة من التفاعلات الجدلية والتكاملية بين المكوّن الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأي مجتمع، وليست مقتصرة على الفكر والآداب والفنون فقط، وإن كانت هذه الأخيرة تحتفظ بخصوصية واستقلالية مختلفة».
ويتحدث عن تجربته قائلاً: «إذا أتينا إلى حقل الشعر تحديداً، فإنني أعد نفسي غصناً في شجرة التجديد والرنو إلى الحرية والحداثة في العالم كله، مثلما أراني في بلادنا واحداً ممن مضوا في هذا الدرب الطويل، الذي امتد من العواد إلى حسن القرشي وغازي القصيبي إلى محمد العلي، وجيلي الذي أنتمي له».
صدرت للشاعر علي الدميني دواوين شعرية عدة: «رياح المواقع»، و«بياض الأزمنة»، و«مثلما نفتح الباب»، و«بأجنحتها تدق أجراس النافذة». كما صدرت له رواية وحيدة بعنوان «الغيمة الرصاصية»، وتعد قصيدته (الخبت) من أشهر القصائد على المستوى العربي.
أشرف الدميني على ملحق «المربد» الثقافي الشهير في الثمانينات في جريدة «اليوم»، ومن ثم أسس مجلة «النص الجديد» التي عرفت باحتضانها للتجارب الحديثة واحتوت على تجارب ونصوص حداثية.
هنا شهادات شعراء ونقاد ومثقفين عن الفقيد
عبد الرزاق الربيعي: لم تكتب وصيتك فأنت «لست وصياً على أحد»
ليس من المصادفة أن ألتقيه، وجهاً لوجه، بعد سنوات من لقاءات الكلمات بالدمّام في عيد الحب عام 2014 الموافق ١٤ فبراير (شباط)، فالمحبة عنوان عريض في حياة شاعرنا الكبير الراحل علي الدميني، وقد تهجّى حروف هذا العنوان كلّ من عرفه عن قرب، أو قرأ تعليقاته على منشورات الأصدقاء في صفحته بـ«فيسبوك»، أو قرأ شعره، وعرف مواقفه الإنسانية والوطنية.
جرى ذلك اللقاء في ملتقى الوعد الثقافي، عندما استضافنا بتنسيق مع الصديق الكاتب حسين الجفّال في أمسية جمعتني بالعزيزين عدنان الصائغ ود. أمين الزاوي بمقرّه بالدمام، أدارها الشاعر حسين آل دهيم، في تلك الأمسية رمى صنّارته في شباك القلب، ولم نفترق تلك الليلة إلا بوقت متأخّر، وظلّ تواصلنا مستمراً، حتى اللقاء الأخير الذي جمعنا في المنامة أواخر ديسمبر (كانون الأول) ٢٠١٨م، فما أن سمع بوصلنا، أنا مع صديقي الشاعر عدنان الصائغ، حتى قدم من (الدمّام) ليحضر الأمسية التي نظمتها أسرة الأدباء في البحرين، وقدّمها د. علوي الهاشمي، وقد جاء مصطحباً زوجته، وابتسامته العريضة وقلبه الكبير، وما تيسّر من إصدارات جديدة، ودعانا للغداء في اليوم التالي، وكان قاسمنا الأعظم هموم المنطقة، والقصيدة، والناس، ومشروع جمع أعمالي الشعرية، ونهاراتي التي بلا تجاعيد، و(نرد النص) كتاب عدنان الصائغ الذي لم يتسنَّ له قراءته بعد صدوره هذا العام، والتخطيط لمشروعات مقبلة أجهز عليها المرض الذي لم يمهله طويلاً، فيا علي الدميني، أعرف أنك لم تكتب وصيتك فأنت «لست وصياً على أحد» كما عنونت سيرتك، واليوم، ونحن نلوّح لك، وأنت تغادرنا، يلزمنا «الكثير من الوقت، والكثير من العباءات السود لنقيم الحداد» عليك.
عزاؤنا أنّ حياتك «لم تكن خاوية،، بل كانت ملأى بأجنحة الأحلام المنكسرة والمتع المجهضة والحكايات الكبرى».
دخيل الخليفة: الدميني
محرك الحركة الإبداعية
يرحل المبدع جسداً لكن روحه تظل محلقة في آفاق المشهد الشعري والفكري، وقامة كبيرة كعلي الدميني ستبقى راياته خفاقة، كيف لا وهو الذي ربط في تجربته بين الإبداعي والإنساني والأخلاقي، بين القلق المعرفي والانزياحات الشعرية. لقد أسس الدميني ورفاقه بدءاً من الكبير محمد العلي لمفهوم حقيقي للحداثة في المملكة العربية السعودية في وقت صعب، خضع خلاله الوضع الاجتماعي والثقافي لسيطرة فكر متشدد ومناهض لحركة التحديث في بنية المجتمع وعاداته التي ينشدها الدميني ورفاقه.
ويكمل قائلاً: «اللافت طبعاً أن تلك الأهداف المنشودة تحققت الآن مع الرؤية الجديدة التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي منحت المواطن السعودي طاقات جديدة وأفكاراً نالت إعجاب العالم». المؤكد أن تجربة الدميني ورفاقه، أثّرت جداً في الحركة الإبداعية التي تلتها، وفتحت الباب واسعاً للأجيال التالية، خصوصاً من ممتهني قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ليعبروا عن أفكارهم وأساليبهم دون ارتجاف من مفهوم الشكل، الذي كثيراً ما تحجج به أتباع النص التقليدي ومناهضو الحداثة، فبرزت أسماء كمحمد الثبيتي ومحمد جبر الحربي وخديجة العمري وعبد الله الصيخان وأحمد الحربي ومحمد الألمعي ومحمد الدميني... وتبعهم التسعينيون أمثال أحمد الملا وحمد الفقيه وأحمد كتوعة وعلي العمري وإبراهيم الحسين ومحمد حبيبي ومحمد الحرز وعبد الله السفر وإبراهيم الوافي وآخرين هم الآن في طليعة كتاب هذا النمط الشعري الحداثي.
ويختتم خليفة قائلاً: «كل هذا وعلي الدميني كان زاهداً في الظهور الإعلامي والحوارات، وجل تركيزه المساهمة بصنع واقع فكري وثقافي مغاير».
سعد البازعي: اسم محفور
على واجهة الشعر
علي الدميني اسم كبير محفور على واجهة الشعر العربي الحديث ومثقف ترك أثره الذي لا يُنسى على مشهدنا الفكري والإبداعي.
لا أعرف تعبيراً أعمق أو أجمل عن الضيق بالحياة حين تضن بالمؤمل وتحجب الأحلام من عبارة علي الدميني «ما تبقى من العمر إلا الكثير». الكل يقول «ما تبقى من العمر إلا القليل»، لكن قلب العبارة أبلغ في الدلالة على أن السنين لا قيمة لها حين تخلو مما نتمنى».
سعيد السريحي: كان أنموذجاً
في النبل والصدق
«فقدنا بفقد علي الدميني رمزاً من رموز الوطن والثقافة. فقد عرفتُه، مُذ عرفتُه، أنموذجاً في النبل والصدق والإخلاص والعمل والإيمان بالقيم العليا، حتّى تنزّل منا منزلة المعلّم الذي نستلهم من سيرته ومسيرته ما يصحح مساراتنا حين تشتبه علينا معالم الطريق».
حسين آل دهيم: كان عرّابنا
«تربينا على قصائده منذ بداياتنا، كان عراباً لنا بنصه المتجدد المدهش حد الانتشاء، ثم التقيناه فغدا موجهاً وعلامة من علامات تلمس طريقنا نحو الكتابة، جيل بأكمله يدين للأستاذ الشاعر الكبير علي الدميني بالفضل في تهذيب الكتابة الإبداعية».
وأضاف: «علي الدميني لا يموت وهو صانع رتلاً من المبدعين عبر عطائه الطويل جداً... وداعاً يا (سيد الخبت) فقد أورثتنا سيرة الحقول وسورة الإبداع».
جبير المليحان: متفرد في الشعر
كتب علي الدميني الشعر بتفرد خاص به، وأعتقد أنه أشبه بالنحت في دواوينه، ذلك أنه يكتب القصيدة الموجهة للآخرين، وليس لغواية الشعر».
في مقال نشره في مجلة «اليمامة» قال المليحان إن قصائد الدميني «هي رسائله للوقت وللآخرين، ومع بروزه كشاعر في وقت مبكر، فإن إسهاماته في المجال السردي معروفة؛ روايته (الغيمة الرصاصية)، وهي تجربته الروائية الوحيدة التي لم تأخذ حقها في الدراسات القرائية اللاحقة من قبل الكتاب. لكن هذا الشاعر برز في قراءاته التحليلية النقدية للكثير من الأعمال الأدبية، متسلحاً بحصيلة معرفية متراكمة، ومتابعة دقيقة للمنجز الأدبي المحلي والعربي والأدب العالمي».
أحمد بوقري: صاحب الديوان الاستثنائي
> في ذروة صراعه المرير مع تيارات التشدد، أصدر علي الدميني ديوانه الأول «رياح المواقع» الذي يعد من أهم دواوينه الشعرية، وضمّ فيه قصيدته المشهورة «الخبت». كتب الناقد السعودي أحمد بوقري، عن هذا الديوان صفة «الاستثنائي»، معتبراً أن «هذا الديوان يكتسب أهميته الفريدة في تجربة علي الدميني كلها لكونه جذّر المفهوم الحقيقي لمعنى الحداثة الشعرية في أبعادها الأسطورية والآيديولوجية والحضارية والحلمية، وخصوصياتها المكانية، كامتداد أصيل لبادئتها الرائدة التي تحققت على يد شاعرنا الكبير محمد العلي، بل أرى فيها امتداداً محليّاً ومغايراً للحركة ذاتها التي انطلقت في العراق وسوريا ومصر ولبنان، فلم تكن حداثتنا الأدبية في انفصالٍ عما كان يجري عربيّاً وإن جاءت متأخرة بضعة عقود، لكنها اكتسبت خصوصيتها وأسطوريتها ومنابعها المحلية ونكهتها المائزة، واستمراريتها في بيئتها المتشددة الضروس».
في مقالة نشرها بوقري في مجلة «الفيصل» يقول: «ديوان علي (الدميني) الأول يكتنز ملحمية ورموزاً أسطورية وشعبية ونَفَساً لغوياً حارقاً عالي الوتيرة ينتمي ويتقاطع مع التجربة الشعرية العربية القديمة برمتها تفعيليّاً وكلاسيكيّاً أمتحها من رؤيته الحداثية الخاصة ومن قدرته العالية (النقدية الشعرية) في امتصاص واستيعاب تجربة الحداثة الشعرية العربية المعاصرة كلها التي تخلّقت وأنجزت في تجارب الرعيل الحداثي الأول: السيَّاب وأدونيس وسعدي يوسف ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي مروراً بأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور وصولاً إلى تجربة محمود درويش في أوج فنيتها وخروجها من حصار الهاجس السياسي المباشر مع القضية وهمومها الإنسانية اليومية».
بل إنني أجد كل دواوينه اللاحقة وربما في شيء من المبالغة والحب معاً ليست إلا تنويعات تجريبية على هذا الديوان الماستر، نتلمس فيها الدفق الشعري نفسه والقلق المعرفي وقد اختفت عنها تلك الإنشادية القلقة وملحمية اللغة المؤسطرة، التي كتب بها شاعرنا ديوانه الأول وتميزت بها قصائده الأولى كما نجده في قصيدة «الخبت» الشهيرة.