هل يمكن فصل النتاج الإبداعي للأدباء الكبار عن حياتهم الشخصية العاطفية إن لم نقل الغرامية؟ مستحيل يقول لنا الكاتب الفرنسي الشهير جان دورميسون. ومعلوم أنه كان معجباً جداً بسلفه الأكبر شاتوبريان. وربما كان يعده أهم كاتب في اللغة الفرنسية. وعلى أي حال فإذا كان الإنجليز يفتخرون بشكسبير، والألمان بغوته، والإسبان بسرفانتس، والإيطاليون بدانتي، والعرب بالمتنبي أو المعري، فإن الفرنسيين يفتخرون بشاتوبريان الذي استشهد به ديغول أكثر من مرة في مؤتمراته الصحافية على رؤوس الأشهاد.
وأكبر دليل على ذلك أن فيكتور هيغو الذي هو مفخرة فرنسا بالإجماع صرخ في بداية حياته الأدبية قائلاً: «إما أن أكون شاتوبريان أو اللاشيء»! وقد كان. ومعلوم أن شاتوبريان عاش من منتصف القرن الثامن عشر تقريباً إلى منتصف القرن التاسع عشر (1768 - 1848). لقد عاش على ضفتَي قرنين: وبينهما يقع زلزال الثورة الفرنسية. في تلك الفترة العاصفة من تاريخ فرنسا عاش شاتوبريان. وكتاب جان دورميسون يتحدث عن ذلك أيضاً وليس فقط عن مغامراته العاطفية وفتوحاته الغرامية. بل إن الكتاب يستمد أهميته من موضعة هذه المغامرات داخل العصر والظروف والفتوحات الفكرية والسياسية والأدبية التي حققتها فرنسا في تلك الفترة.
الكتاب مكثف جداً وغنيٌّ بالمعلومات والإضاءات عن إحدى أهم الفترات في تاريخ فرنسا. على أي حال هناك علاقة وثيقة بين الفتوحات الغرامية لشاتوبريان وفتوحاته الفكرية والأدبية. هذه من تلك. في كل مرحلة من مراحل حياته كانت تظهر له سيدة تعشقه ويعشقها ويبدع أجمل النصوص على أثرها أو بفضلها.
وقد نجح جان دورميسون في الربط بين حياة شاتوبريان العاطفية وحياته السياسية لأنه كان سياسياً كبيراً أيضاً بل ووزيراً للخارجية في عهد الملك لويس الثامن عشر. من هنا كثافة الكتاب وقيمته الحقيقية. أنه يقدم لنا صورة غنية عن أوضاع فرنسا الأدبية والفلسفية والسياسية في تلك الفترة الحاسمة من تاريخها.
يقول لنا جان دورميسون ما معناه: لقد ربط شاتوبريان حياته العاطفية بحياته الأدبية والسياسية أكثر من أي شخص آخر. لا يمكن فصل هذه عن تلك. ومعلوم أنه عرف عدة قصص حب كبرى مع ست سيدات متلاحقات. هذا ناهيكم بزوجته الشرعية غير المحسوبة والتي يبدو أنها كانت مجرد ديكور أو فولكلور. وكل واحدة كان يقول لها هذه العبارة: «آخر أحلامي سيكون لأجلك يا حبيبتي»... نذكر من بينهن سيدة أرستقراطية تدعى باولين دو بومون.
ويبدو أنه ذاق في عهدها طعم المجد لأول مرة. فقبل ذلك كان لا يزال كاتباً مغموراً. وقد وصفها أحدهم بأنها «عندليب» شاتوبريان. إنها ملهمته الأولى. لقد تفجرت عبقريته على يدها. ولكنها مرضت فجأة وانتهت نهاية مأساوية وهي في عز الشباب. لقد ماتت في أحضانه وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها فقط. وقد بكاها بكاءً مراً ولم يتخلَّ عنها لحظة واحدة طيلة فترة المرض. بل سمعوه ينتحب بحرقة في الغرفة المجاورة وهي تُحتضر.
بصراحة أكبرت شاتوبريان عندئذ وغيّرت نظرتي عنه كلياً. كنت أعتقد أنه شخص انتهازي خبيث يتلاعب بقلوب السيدات فإذا بي أكتشف شخصاً آخر مختلفاً تماماً. هل يمكن لكاتب كبير أن يكون شخصاً حقيراً؟ هل يمكن ألا يكون مشبعاً بالنزعة الإنسانية العميقة؟ ويرى البعض أنه لولا هذه المغامرات العاطفية المتلاحقة لَما أصبح شاتوبريان أكبر كاتب في عصره. فالعشق الولهان هو الذي ينعش الإبداع الأدبي ويغذيه. وكذلك الفراق والقطيعة والهجران. من سيؤلَّف كتاباً ضخماً ألف صفحة بعنوان: «لوعة الفراق»؟ متى سأتفرغ له كلياً وأتوّج حياتي به؟ ولكن هل أنا قادر عليه؟ أشك في ذلك كل الشك. على أي حال، تظل الكتابة بحاجة إلى تجارب حياتية معيشة، مكثفة، وإلا فلا تكون كتابة.
ونفهم من كلام جان دورميسون أنه على أنقاض الحب الجارف المشتعل ينهض الكتاب الكبار. ثم يتحدث بعدئذ عن رائعة شاتوبريان التي خلّدته على مدار العصور والأزمان. ونقصد بها كتابه الشهير ذا العنوان العبقري: «مذكرات ما وراء القبر». وهي مذكرات لم تُنشر إلا بعد موته وبعد أن أصبح في القبر. يبدو أن هذا الكتاب بهر جان دورميسون بهراً طيلة حياته كلها. وقد عايشه وعاشره على طول الخط. وما معنى حياة من دون دهشة أو إعجاب وانبهار؟ وهو يقول لنا إن هذا الكتاب يشكّل واحداً من خمس أو ست روائع كبرى للآداب الفرنسية كلها. وإذا كانت اللغة الفرنسية قد وصلت إلى مثل هذه الشهرة العالمية فإن الفضل في ذلك يعود إلى كاتب عبقري كبير كشاتوبريان من جملة آخرين بالطبع. ثم يواصل جان دورميسون كلامه قائلاً: «هذا الكتاب الضخم يصل إلى مصاف (الإلياذة والأوديسة)، وكتاب (الكوميديا الإلهية) لدانتي، وكتاب (دونكيشوت) لسرفانتس، وكتاب (آلام فرتر الشاب) لغوته، وكتاب (الحرب والسلام) لتولستوي».
ثم يضيف هذه الفكرة المهمة: لا ريب في أن كل أدب مرتبط بشكل أو بآخر بتجربة الفشل في الحياة والانتقام من هذا الفشل بالذات. وكلما فشلت أكثر كان أدبك عظيماً أكثر. بمعنى آخر فإن الأدب العظيم ليس إلا تعويض عن الفشل الذريع في الحياة. وبالتالي فلا تخافوا من الفشل أيها الكتاب والشعراء. لا تخافوا من الآلام والفواجع المدمِّرة. إنها كنزكم الوحيد.
الحياة الفاشلة أو الخائبة هي التي تصنع الكتاب الكبار. وكذلك التجارب المريرة والأحداث الجسام. انظروا إلى نيتشه أو دوستيوفسكي أو بودلير على سبيل المثال لا الحصر. وانظروا أيضاً إلى المتنبي أو المعري أو بدر شاكر السياب في جهتنا نحن. الناجحون في الحياة ليسوا بحاجة لأن يكتبوا أدباء. الأغنياء، الأثرياء، أبناء العائلات، ليسوا بحاجة لأن يكتبوا حرفاً واحداً. يكفيهم أن يعيشوا ويستمتعوا بالفلوس والوجاهات والمقامات.
ولكن المشكلة هي أن جان دورميسون ذاته كان غنياً أرستقراطياً مترفاً من أعلى طراز. لقد «وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب» كما يقول المثل الفرنسي. وكان ناجحاً كل النجاح في الحياة. وكان يسكن القصور في باريس أو ضواحيها الراقية جداً. ومع ذلك فقد أصبح كاتباً كبيراً. وبالتالي فهناك استثناءات. ولكنه يعترف بكل تواضع: «أنا لست في مستوى شاتوبريان، ولا في مستوى فلوبير، أو بلزاك، أو ستندال، أو بروست. كنت أتمنى أن أكون. ليتني كنت، ليتني استطعت. لقد حاولت جهدي ولكني لم أستطع الارتفاع إلى مستوى هذه القمم». برافو جان دورميسون! شكراً على هذه الصراحة، على هذا التواضع الجمّ. ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. ولكنك كاتب كبير يا سيدي. وقد استمتعت بقراءة مؤلفاتك كل الاستمتاع ولا أزال. إنك تعرف كيف تطرب لسحر البيان. قصيدة واحدة لبودلير أو فيرلين قد تدوخك وتُخرجك عن طورك. كل من يحب الأدب شعراً ونثراً هو أستاذي، سيدي، معلمي. أنا تلميذ صغير في محراب الأدب.
أخيراً نقول ما يلي: كان جان دورميسون يتموضع في قلب السلطة الفرنسية وفي مركز الأحداث على مدار ستين سنة متواصلة. فقد كان رئيساً لتحرير جريدة «الفيغارو»، وكان موظفاً كبيراً في القسم الثقافي في «اليونيسكو»، وكان مستشاراً كبيراً لجيسكار ديستان وجاك شيراك. كان له صوت مسموع. كان أحد المنظّرين الفكريين الكبار لليمين الفرنسي المعتدل بالإضافة إلى ريمون آرون وبعض الآخرين. كان ديغولياً مشهوراً. لقد اعتلى سلطة السياسة وسلطة الأدب في آن معاً. ويمكن القول إنه عاش حياة الأرستقراطيين الكبار. ولا ننسى أنه كان عضواً في الأكاديمية الفرنسية: قمة القمم. ولهذا السبب تحسر كثيراً عندما اقتربت منه لحظة المنية وقال هذه العبارة: كيف يمكن لشخص مثلي عاش أرقى حياة في العالم وأسعد حياة أن يموت؟ كيف يمكن أن يترك كل ذلك ويرحل عن هذه الحياة؟ والله مصيبة! ونحن نقول له: هنا في هذه النقطة بالذات يتفوق الفقير على الغني يا جان دورميسون، وابن الشارع على أكبر أرستقراطيٍّ في العالم. إنه لا يتفوق عليه إلا في لحظة الموت. لولا العيب لقلت إنه ينتصر عليه بالضربة القاضية! فهو لا يملك شيئاً لكي يخسره أو يتحسر عليه. إنه يرحل سعيداً عن هذا العالم. إنه يرحل وهو في قمة السعادة. وربما صرخ قائلاً: اللهم عجّلْ، خذّ وديعتك وخلّصنا!
السيرة العاطفية لشاتوبريان: آخر أحلامي سيكون لأجلكِ يا حبيبتي
جان دورميسون يكتب عن العلاقة الوثيقة بين مغامراته وإنجازاته الفكرية والأدبية
السيرة العاطفية لشاتوبريان: آخر أحلامي سيكون لأجلكِ يا حبيبتي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة