الفلسفة وصناعة المفاهيم

بين أزمة المعنى والانشغال بإنتاجه وتوليده

الفلسفة وصناعة المفاهيم
TT

الفلسفة وصناعة المفاهيم

الفلسفة وصناعة المفاهيم

غالبا ما تكون الكتب والدراسات المعنونة بهذا الاستفهام (ما هي الفلسفة؟) كتبا مدرسية تتغيى قصدا بيداغوجيا محدودا، وهو تقريب «ماهية» هذا الحقل المعرفي للدارس المبتدئ أو القارئ غير المتخصص. ويغلب على كُتَّابِ هذا النمط من المداخل التعريفية الاكتفاء باستحضار تعدد تعاريف الفلسفة، التي هي من الكثرة بحيث يجوز أن نقول مع كارل ياسبرز «إن عدد تعاريف الفلسفة يكاد يساوي عدد الفلاسفة». كما تكتفي تلك الكتب التمهيدية باستحضار تطور موضوع اشتغال الفكر الفلسفي، وما حصل خلال صيرورة التاريخ من تقليص له، بسبب استقلال العلوم، حتى صارت الفلسفة «أُمّا ثكلى» بعد أن كانت «أُمَّ العلوم»!

لكن كتاب «ما هي الفلسفة؟» لجيل دولوز وفليكس غاتاري يكاد يكون استثناء ضمن هذه الكتب الكثيرة المشابهة له في العنوان. حيث يجوز القول إنه لا يُعرِّف الفلسفة، بل يفلسفها ويبلور نظرية ذات رؤية خاصة متميزة لماهية اشتغال الفيلسوف. وهو بذلك جَسَّدَ بالفعل قول هيدغر إن الجواب عن سؤال ماهية الفلسفة شروع في التفلسف.
إلا أنني أرى دولوز وغاتاري في كتابهما هذا لم يشرعا في التفلسف فحسب، بل قالا ضِمْنا بنهايته! فهذا المتن ليس تعريفا للفلسفة، بل هو بالأحرى تعريف لمأزقها في الزمن ما بعد الحداثي! حيث إن التحديد الذي يقدمانه لوظيفة التفلسف بوصفه «صناعة مفاهيم»، أراه كافيا بحد ذاته للدلالة على أزمة الوعي وانحلال المعنى في زمن ما بعد الحداثة. إذ لم تعد الفلسفة مع دولوز «بحثا عن الحقيقة» ولا إبداعا لرؤى حول العالم، إنما إبداع مفاهيم. لكن لماذا نجعل من هذا التحديد الدولوزي لفعل التفلسف، علامة على إشكالية أزمة الفكر وضياع المعنى؟! أليس ثمة مفارقة بين زعمنا هذا وماهية الاشتغال المفاهيمي؟ أليس إبداع مفاهيم هو بالضبط إبداع معاني؟ فكيف إذن نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيم دالة على أزمة المعنى؟!
قبل أن نجيب عن هذه الاستفهامات، ونرفع تلك المفارقة، لا بد من تحليل طبيعة الصناعة المفاهيمية في حقل تاريخ الفلسفة الغربية ودلالة تحولاتها الراهنة:
تميز فعل التفلسف - في السياق الثقافي الغربي - منذ سقراط بنزوعه نحو الحد الماهوي، حيث كان مشدودا نحو الصناعة المفاهيمية، بما هي اشتغال سيمانطيقي يطلب المعنى، ويشدد في نقد الاستعمال الدلالي الشائع. وقد أثمر هذا الاشتغال السيمانطيقي في تاريخ الفلسفة إرثا ضخما في المفاهيم الفلسفية، حتى أن الفلاسفة أصبحوا يتمايزون ليس فقط بأفكار ورؤى، بل أيضا بنوع الدلالات التي يعطونها للمفاهيم التي يتوسلونها للتفكير. وأكثر من ذلك لقد كان البعض منهم يحرص على إفراغ المفهوم من مدلوله، ليُبَطِّنهُ معنى يشذ به على نحو مخالف تماما، ليس للاستعمال الشائع فحسب، بل حتى للسائد في الحقل الفلسفي ذاته: فمفهوم الحدس مثلا عند كانط مغاير لمدلوله المألوف في الاستعمال الفلسفي، فهو ليس معرفة مباشرة بلا وساطة استدلالية، بل معرفة حسية! كما أن أسماء الفلاسفة تقترن في الغالب بالمفاهيم التي صنعوها، فكانط يقترن اسمه بمفهوم النقد، وبرجسون بـ«الديمومة»، وهيدغر بـ«الكينونة» و«الدازاين»، وهيغل بـ«المطلق» ولايبنز بـ«الموناد»، وهوسرل بـ«القصدية».. لذا حق لدولوز أن يقارن عمل الفيلسوف بعمل الروائي، فكما أن الإبداع السردي يقترن بإبداع الشخصيات، فإن عمل الفيلسوف يقترن بإبداع مفاهيم. ولَمَّاحَة جدا تلك الرؤية الدولوزية إلى مركزية المفاهيم في الفلسفة، فليست محورية المفاهيم في المتن الفلسفي بمقام محورية الشخوص في المتن الروائي فقط، بل إن التفكير الفلسفي إذا ما استحضر الشخصيات سرعان ما تستحيل عنده إلى مفاهيم. ألسنا نتكلم في فلسفة نيتشه عن ديونوسيوس لا كاسم أسطوري بل كدال مفهومي ؟!
غير أن هذا التحديد لفعل التفلسف بوصفه فعل مَفْهَمَة ينبغي تمييز سياق وروده في الفلسفة القديمة والمعاصرة. فالتعليل الذي يقدمه دولوز لوجوب اشتغال التفكير الفلسفي في صناعة مفاهيم مغاير لسياق الاشتغال المفاهيمي في الفلسفة القديمة. ويكفيني هنا لبيان الفارق أن أشير إلى الحد الماهوي عند سقراط كأساس منهجي للعمل المفاهيمي قديما، فقد كانت السقراطية - وكذا التقليد الأفلاطوني الذي ساد بعدها - يعتقد بإمكان تثبيت الدلالة، وصوغ المفهوم صياغة سيمانطيقية ماهوية. وهذا ما يظهر في ترتيب أفلاطون لمراتب طلب الحد بالانتقال من الأفراد، إلى الأجناس، ثم الأنواع، فالماهيات. وهو الناظم المنهجي الذي سيؤثر في تأسيس المنطق الصوري عند تلميذه أرسطو، بما هو منطق كليات يرفع الحد بالماهية إلى درجة التعريف الحقيقي، ناظرا إلى ما عداه بوصفه مفتقرا إلى القدرة على إنتاج الحد.
صحيح أن المنطق رغم وضعه للحد، بما هو تركيب من جنس وفصل، في أعلى مقام، واحتقاره لأنماط التعاريف الأخرى كالتعريف باللفظ والتمثيل والمخالفة.. بدعوى أنها لا تخلص إلى ماهية المفهوم، ورغم أن المناطقة قالوا بنُدْرة الحدود الماهوية، بل اعترفوا بعُسر إنتاجها، فإن الشاهد عندنا هنا هو أن الوعي الفلسفي في القديم كان يعتقد بإمكانية تحصيل الحقيقة الدلالية؛ بينما الاشتغال المفاهيمي عند دولوز نابع من منطلق فكري مغاير، وهو نسبية الدلالة وعدم وجود حقيقة مرجعية يمكن الاستناد عليها.
وهنا نعود إلى تلك المفارقة التي أبرزناها قبل بالاستفهام: كيف نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيمية علامة ودليلا على أزمة المعنى؟!
في تحليلهما لمعنى المفهوم داخل الحقل الفلسفي يحرص دولوز وغاتاري، تقريبا، على تخطئة جميع التحديدات التي عَرَّفت المفهوم! وكبديل لها يقدمان معنى للمفهوم ينفي أن يحدده بكونه دالة أو صورة أو تمثيلا.. إن المفهوم كل هذا وزيادة، إنه حصيلة إبداع انطلاقا من سؤال إشكالي، وهو في نظرهما ليس لفظا مفردا، ولا كينونة مجردة ولا متعينة، إنه لا مرجع له ؛ لأنه مرجع ذاته. ويشدد دولوز وغاتاري على عدم الخلط بين المنطق والفلسفة، فالمنطق - حسب زعمها - «يكره المفاهيم». ويحرصا على إسناد موقفهما هذا بالإحالة على المنطقي الكبير فريجه الذي عرف المفهوم المنطقي بوصفه دالة. ويلتقطان هذا التعريف لينفيان وجود المفهوم في حقل المنطق! وقد كان هذا في نظري من أضعف آرائهما، فالرؤية القاصرة الانتقائية بادية بوضوح في تحليلهما لعلاقة المفهوم بالمنطق، حيث لا نجد لديهما شجاعة معرفية في الانفتاح على الدرس المنطقي بكل ثرائه وتنوعه، بل ينتقيان منه رؤى فريجه وراسل!
كما يفتقران إلى قوة الاستدلال عندما يطلقان قولا آخر لا يخلو من افتئات على حقل العلم؛ حيث ينفيان أن يكون للعلم مفاهيم. ودليل زعمهما هذا هو أن التفكير العلمي ليس له سوى دوال تتمظهر في شكل قضايا. لذا فمقولات الصواب والخطأ لا ينبغي أن تطبق إلا على الخطاب العلمي، وليس على الخطاب الفلسفي!
صحيح أن كانط كان قد عرف الفلسفة قبل دولوز وغاتاري بوصفها تفكيرا بالمفاهيم؛ بيد أن هذين الأخيرين لم يقتصرا على تعريفها بالتحديد الكانطي السابق، بل بكونها تفكيرا بالمفاهيم وللمفاهيم! وينبغي أن نعي سبب قَصْرِهما لاشتغال الفيلسوف في الصناعة المفاهيمية. إنهما بذلك يريدان أن يُخلصاه من ثقل إنتاج الحقيقة، وبناء رؤى العالم، ومعنى الوجود؛إنهما يريدان أن يقيله من وظيفة إنتاج السرديات الكبرى، إلى اشتغال دلالي ينحصر في توليد مفاهيم، تلك التي ترد عند الفكر ما بعد الحداثي بميسمها الإجرائي الجزئي، لا بميسمها الكلاسيكي الكلي. وهذا ما جعلنا نعد كتابهما دلالة على أزمة المعنى لا اشتغالا في توليده وإنتاجه.

* لماذا صفحة عن الفلسفة؟
من كان ليصدق أن لحركة تمرد شعبية رومانسية، أطلق عليها «ثورة الياسمين» أن تعبر العالم العربي لتعود به إلى عالم القرون الوسطى الروحية، ومجاهيل التاريخ من رق وسبي وتلذذ بسفك الدماء بطريقة بربرية؟
هذا العري السياسي والثقافي والاجتماعي، لم يفضح فقط هشاشة مشاريع التنوير السابقة، بل كشف عن اختلاط مفاهيم التنوير وحقبه الممتدة من التنوير البريطاني القائم على الفضائل الاجتماعية، والتنوير الفرنسي القائم على العقل في مواجهة الأسطورة، وانتهاء بالتنوير الأميركي الذي تلاهما من حيث النشأة والقائم على الحريات السياسية.
نحاول من خلال هذه الصفحة «أروقة فلسفية» إعادة الاعتبار للتنوير من خلال الفلسفة عبر نخبة من المتخصصين والأكاديميين والمهتمين، ليس باعتبار الفلسفة مشروعًا تنويريًا نخبويًا، بل باعتبارها مشروعًا قابلاً للتسهيل وتمريره للطبقة الشابة المتعلمة التي تكبر في العالم العربي في أحلك أيام خريفه الرمادية.
نسعى من خلال الصفحة تقديم مواد مختلفة «تُصحّف الفلسفة» وتخرجها من غرفها المغلقة في الجامعات وتنزلها لجمعات الحدائق العامة والفصول الدراسية المدرسية، وجعلها مادة ممتعة لقارئ يتناول قهوته في مقهى.
ستركز الصفحة على إعادة قراءة تاريخ الأفكار لكن دون اجترارها، كما أن هذه التاريخية التي ستصبغ نقاشات الصفحة للأفكار، لن تجعلها تنسى معاصرتها وأهمية ربطها بواقعنا الحديث، هدفنا أن تكون هذه الصفحة جسرًا صغيرًا من ضمن جسور كثيرة نحاول أن نمدها من خلال هذه الصحيفة نحو صباحات مشرقة بحق، لا نحو أضواء فجر كاذب.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!