ميشال فوكو: الهيمنة باسم العقل.. صناعة السيطرة

ميشال فوكو: الهيمنة باسم العقل.. صناعة السيطرة
TT
20

ميشال فوكو: الهيمنة باسم العقل.. صناعة السيطرة

ميشال فوكو: الهيمنة باسم العقل.. صناعة السيطرة

بمنهجه الأركيولوجي القائم على البحث والحفر في الأرشيفات يذكر فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب»، الذي لدينا ترجمة له بالعربية من طرف: د. علي مقلد، ومراجعة د. مطاع صفدي، عن مركز الإنماء القومي سنة 1990، قصة ذلك الجندي الفرنسي «روبيرت فرنسوا داميان» في أواسط القرن الثامن عشر الذي هاجم الملك لويس الخامس عشر بسكين فأصابه بجرح خفيف، فتم القبض عليه وحكم عليه بالإعدام سنة1757 ونفذ الحكم علنيا وبطريقة وحشية، وذلك بسحله وتقطيع أوصاله.. وذلك كله أمام أنظار عدد كبير من الناس. وبعد ذلك ينتقل فوكو للحديث عن قصة أخرى وقعت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي بعد مرور ما يناهز 80 عاما فقط، تحكي طريقة أخرى في عقاب بعض الشباب المخالفين للقانون الفرنسي، ليذكر لنا أنهم سجنوا وكانت يوميات سجنهم تتم وفق برنامج محكم: حيث يبدأ اليوم على الساعة السادسة صباحا في فصل الشتاء والساعة الخامسة في فصل الصيف. ليعمل السجناء تسع ساعات يوميا وتخصص ساعتان يوميا للتعليم، فينتهي العمل واليوم على الساعة التاسعة في الشتاء والثامنة صيفا.
انطلاقا من المثالين سعى فوكو إلى تقديم نموذجين من تكنولوجيا العقاب، الأول خام، وفيه عنف وترهيب مادي واعتداء مباشر على الجسد عن طريق القصاص، والثاني تبدو عليه ملامح التحضر والإنسانية، أي العقاب بطريقة أكثر لطفا. لكن فوكو على الرغم من ذلك كانت لديه شكوك في هذا التحسن الملحوظ في طريقة العقاب مما جعله ينبه على أن الحداثة نعم قد غيرت من أسلوب الهيمنة والسيطرة على الأفراد فانتقلت به من مستوى التعذيب الوحشي وغير المحدد إلى العقاب السجني «الأكثر لطفا»، وهو ما قد يظهر الأمور بالشكل الإنساني التقدمي والإيجابي، لكن لو تأمل المرء الأمر عن كثب لتبين له أن الهدف لم يكن هو جعل العقاب أقل، بل جعله أفضل وأكثر نجاعة، فالحداثة وعن طريق أفقها العقلاني أصبح لها ولع بالسيطرة الكلية والشاملة، فمنذ أن تراجعت مشاهد التعذيب في الساحات العمومية أصبحت السلطة في المجتمع الحديث، وخصوصا بعد القرن التاسع عشر تستعمل آليات جديدة للمراقبة والضبط والعقاب والإخضاع تتسم بالعقلانية والتوظيف المحكم للمعارف، خاصة العلوم الإنسانية، فلم يعد مثلا القضاة هم الذين يحددون ويضبطون نوع العقاب ومدته، بل أصبح يتدخل في الأمر حتى الخبراء من معالجين نفسيين وأخصائيين اجتماعيين ومجالس لتسريح السجناء.. فعوضا عن القمع والترهيب والعنف المادي المباشر أصبح اللجوء لتقنيات أخرى أكثر جدوى وأكثر فعالية وأقل مقاومة، وتمت الخطورة بحسب فوكو، لهذا نجده قد جند نفسه لإثبات أن الإنسان الحداثي ليس حرا كما يمكن أن يعتقد، بل هو يعيش في أغلال وبطواعية كاملة، فالمجتمع الحديث غارق في الانضباط والنظام حتى النخاع، وما مؤسسات السجن والثكنات العسكرية والمستشفيات والمدارس إلا آليات للهيمنة والتدجين وقهر حتى للجسد من حيث حياته أو موته وذلك من أجل مزيد من التحكم وعلى أكمل وجه، ولعل الدراسات الإحصائية للسكان وتعدادهم واحد من المؤشرات التي توضح هاجس تكميم عملية الضبط والهيمنة.

* الفيزياء الدقيقة للسلطة: الحداثة وخلق الأجساد المذعنة
إذا كان السياسيون التقليديون قد اهتموا بـ«ماكرو فيزياء السلطة»، أي بالمشكلات الفلسفية السياسية الكبرى، وعلى رأسها السلطة والحكم، فميشال فوكو قد اهتم بـ«ميكروفيزياء السلطة»، أي بالاستراتيجيات الدقيقة التي تمارسها السلطة، بعبارة أخرى أصبحت السلطة عند فوكو ليست مشخصنة، كما هو الحال عند أفلاطون بفكرته حول الحاكم الفيلسوف أو مع توماس هوبز بفكرته حول الحاكم التنين «الليفيتان» أو مع ميكيافيلي بنصائحه للأمير.. بل أصبحت السلطة تصدر في كل مكان وعن كل شيء وليست تقتصر على مجرد استعمال القمع والعنف، بل تنتج المعارف والحقيقة، لقد وسع فوكو مفهوم السلطة وأخرجه من ذلك الإطار الضيق الذي ألفناه في الفكر السياسي الكلاسيكي المرتبط بالنظام المسير للشأن العام لدى شعب معين من طرف هيئة سيادية معينة في رقعة جغرافية معينة نحو فضح وكشف لآليات وتقنيات السلطة في أدق جزئياتها وتفاصيلها، فالسلطة عند فوكو لها القدرة على التغلغل والتسلل في عمق النسيج الاجتماعي كله، فهي توجد بين العشيقة والعاشق، بين رب العمل والعامل، بين الوالدين والابن، بين بائعة الهوى وزبونها، بين المعلم والتلميذ.. وهي العلاقات التي تنجز في أرض الواقع بتكتيك جد معقد، فالسلطة عند فوكو لا تملك، بل تمارس، فهي عبارة عن إرادة قوة وتوجد حيثما وجد الصراع، فهي لا توجد بين أيدي البعض أو يتم تقاسمها بين عدد ضئيل من أصحاب الامتيازات على حساب الآخرين، وليست خاصة بطبقة اجتماعية، وإنما هي العنصر الذي يمر بين الجميع من أجل ربطهم وفصلهم في الآن ذاته، فالسلطة حاضرة دوما حتى في الأماكن التي ليس من السهل أن ينتبه إلى وجودها، كحضورها مثلا في مختبرات البحث أو دور النشر أو قاعات المحاضرات.. ولنضرب بعض الأمثلة توضح بعض آليات السلطة غير المرئية، والتي حاول فوكو الوقوف عندها بمجهره الدقيق

* مثال التدريب في الثكنة العسكرية:
إن الجنود في الزمن الحديث يخضعون «لتدريب تأديبي» شاق يعمل على جعلهم ينصاعون بطريقة آلية، وذلك عن طريق العمل على الهيمنة على أجزاء بعينها من الجسد، فعند تعليم الجندي طريقة إطلاق النار من البندقية فهو يمر بتدريب منظم ومرتب عبر خطوات مكررة ومضبوطة، فالمطلوب منه أن يوجه البندقية نحو العدو بطريقة محددة وأن يرفعها على كتفه ويسدد ويضغط على الزناد بشكل جد محدد، فالجندي يخضع لإدارة جسدية تجعله ينفذ كالآلة ما يطلب منه، فكأن المطلوب ليس فقط أن ينفد الجندي ما يطلب منه، لكن أن ينفد أيضا بالطريقة المحددة له. فالهدف الأكبر هو دائما خلق نوع من «الأجساد المذعنة»

* مثال المدرسة والامتحان:
إن ما أصبحت تقوم به المدرسة عند فوكو شبيه بما تقوم به الثكنة العسكرية، فهي أيضا أصبحت وسيلة للمراقبة، ويعد الامتحان في المدرسة الحديثة وسيلة من أجل الانتقاء، ومن تم إقصاء فئة على حساب فئة أخرى، لكن بطريقة مشروعة يقبلها الكل عن طواعية فالامتحان يعد سلطة ورقابة محكمة وفعالة لأنها تقوم على الحساب والحساب كما هو معلوم هو أساس العلمية في الزمن الحديث وهو الطريق الذي سلكته العلوم الإنسانية، وهو ما جعل فوكو يؤكد أكثر من مرة أن العلوم الإنسانية هي وليدة مجتمع الرقابة. إن الامتحان أصبح سلطة يتم من خلالها قبول الرسوب أو التفوق، ناهيك بأنها لحظة لا يمكن الاستخفاف بها نهائيا لأنها مرتبطة بمستقبل الفرد العملي وهو ما يزيد من قوة الامتحان كآلية سيطرة، فالمدرسة إذن وعن طريق إدارة التعليم تعمل على توجيه الأفراد كل بحسب قدراته من أجل الاستفادة منهم عمليا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتم تصنيف الناس بشكل مدروس بحيث يتم مسبقا تحديد مبادئ التعليم المتوافقة مع مصالح محددة ومن تم تعد المدرسة كوسيلة آيديولوجية للتدجين تسيطر على الأفراد رغبوا في ذلك أم لا، لأن الامتحان ينتظر لا محالة، وهو ما يثبت العلاقة الحميمية بين السلطة والمعرفة.

* مثال التحقيق القضائي:
إذا كان التحقيق بحسب فوكو آلية قديمة ارتبطت بالخراج والضرائب والأعمال الإدارية فإن التحقيق في الزمن الحديث ازداد بروزا وحدة لأنه ارتبط بالعلم القائم بالأساس على التحقيق فهو رحم العلوم التجريبية، لهذا تستغله السلطة الحديثة كآلية معرفية لمزيد من المراقبة والضبط، وهو ما أصبح يلاحظ في مجالات القضاء والقانون والشرطة العلمية، حيث يتم توظيف آليات التحقيق من أجل فك أسرار الجرائم وكشف دقيق ملابساتها.

* مثال الانضباط الصحي:
روج فوكو لمصطلح السياسية الحيوية وهي أسلوب لممارسة السلطة في المجتمع الحديث مرتبط بالحياة والصحة لضمان مزيد من الطاقة والإنتاجية، فالسلطة أصبحت وعن طريق تدابير وإجراءات دقيقة من قبيل الضمان الصحي والتقاعد وخلق كل الظروف اللازمة التي تضمن إطالة عمر السكان والعمل على التحكم في نسبة الولادات والوفيات وتجنب الموت الدائم بمحاربة الأمراض القاتلة وأسباب وجودها.. تسعى إلى الرفع من المردودية الاقتصادية، لأن أمر الولادة والخصوبة والإنجاب والأمراض كلها أمور تؤثر إما على رفع أو انخفاض الطاقة والجهد وهو ما ينعكس على الإنتاج. يقال إن فوكو قد مارس السياسة من الخلف، وكان له هدفا عمليا رغم الطابع العلمي الذي كان لكتاباته، فهو كان يهدف إلى فضح البنى السلطوية والإعلان للجميع في عملية نقد لاذعة للمنظومة الحداثية أن ما يبدو عقلانيا فيها يعمل في الواقع كقمع خفي، فالحقيقة ليست هي ما يقال، بل هي المسكوت عنه.



أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
TT
20

أسلحة مزخرفة من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي
خنجران من موقع ساروق الحديد في إمارة دبي

يحتلّ موقع ساروق الحديد مكانة عالية في سلسلة المواقع الأثرية التي كشفت عنها عمليات التنقيب المتلاحقة في الإمارات المتحدة، ويتميّز بترابه الأثري الذي يشهد له الكم الهائل من اللقى التي خرجت منه في العقدين الأخيرين. تشكّل هذه اللقى مجموعات عدة مستقلة، منها مجموعة كبيرة من الأسلحة المعدنية تحوي خنجرين فريدين من نوعهما، لكل منهما مقبض منحوت على شكل فهد رابض يمدّ قائمتيه الأماميتين في الأفق.

تتبع منطقة ساروق الحديد إمارة دبي، وتجاور قرية الفقع بين مدينة دبي ومدينة العين التابعة لإمارة أبوظبي. شرعت دائرة التراث العمراني والآثار التابعة لبلدية دبي في استكشاف هذا الموقع في عام 2002، بالتعاون مع عدد من البعثات الأجنبية، وأدت حملات التنقيب المتواصلة خلال السنوات التالية إلى العثور على مجموعات متنوعة من اللقى تعود إلى فترات زمنية تمتد من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي، منها مجموعة من الأختام، ومجموعة من الأواني الطينية، ومجموعة من الأدوات المعدنية.

تنقسم مجموعة الأدوات المعدنية إلى مجموعات عدة، أكبرها مجموعة من الأسلحة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تشابه في صناعتها وفي صياغتها أسلحة معاصرة لها خرجت من مواقع أثرية أخرى في الإمارات وفي المناطق المجاورة لها. يأخذ القسم الأكبر من هذه الأسلحة شكل خنجر من الحجم المتوسط، يتكوّن من مقبض بسيط ونصل مروّس. يبدو المقبض مجرّداً من الزينة في أغلب الأحيان، غير أن بعض النماذج تخرج عن هذا السياق، وتتميّز بنقش زخرفي متقن يشهد لأسلوب فني ساد في هذه الناحية من الجزيرة العربية كما يبدو.

يتجلّى هذا النقش الناتئ في خنجر من البرونز يتكون من مقبض يبلغ طوله 13 سنتيمتراً، ونصل طوله 16 سنتيمتراً. يتكوّن هذا النقش من مساحات زخرفية مختلفة، تشكّل معاً تأليفاً تجريدياً يجمع بين تقاسيم متناغمة. يعلو هذا التأليف شريط أفقي يحدّ قاعدة نصل الخنجر، تزيّنه سلسلة من الحبيبات المتلاصقة. يستقرّ هذا الشريط فوق مساحة مكعّبة تأخذ شكل تاج تزيّنه زخرفة حلزونية مكوّنة من مفردتين تشكيليتين معاكستين. في النصف الأسفل من هذا المقبض، تحضر مساحة مستطيلة تزينها سنابل منتصبة محوّرة هندسياً، تستقرّ في إطار يحدّه شريطان مزخرفان بشبكة من الخطوط الأفقية. ترتفع هذه الكتلة المتراصة فوق قاعدة أسطوانية، وتشكلّ هذه القاعدة الطرف الأسفل لهذا المقبض البديع.

يحضر هذا النقش بشكل مشابه في خنجر آخر يبلغ طول نصله الحديدي 13.7 سنتيمتر، وطول مقبضه البرونزي 9 سنتيمترات. ويظهر هذا التشابه من خلال السنابل المنتصبة في كتلة مستطيلة تشكّل عموداً يعلوه تاج يزينه تأليف حلزوني مماثل. يستقر هذا العمود فوق قاعدة أسطوانية مجرّدة، ويشكّل معها تكوين مقبض هذا الخنجر الذي تأكسد نصله الحديدي العريض.

يبرز في هذا الميدان خنجران فريدان من نوعهما يحمل كل منهما مقبضاً نُحت على شكل حيوان من فصيلة السنّوريّات، يمثّل كما يبدو فهداً رابضاً. يتشابه هذان الخنجران البرونزيان من حيث الحجم تقريباً، غير أنهما يختلفان في التكوين، ويظهر هذا التباين عند دراسة مقبض كل منهما؛ إذ يحمل أحدهما صورة فهد مجسّم، ويحمل الآخر صورة مزدوجة لهذا الفهد. يظهر الفهد المفرد في خنجر يبلغ طول نصله المقوّس بشكل طفيف 19.5 سنتيمتر، وطول مقبضه 14 سنتيمتراً. يتكوّن هذا المقبض من مجسّم على شكل فهد ينتصب عمودياً فوق قاعدة تأخذ شكل تاج تزينه زخرفة حلزونية، تماثل في تأليفها النسق المعتمد. يشكّل رأس هذا الفهد قمة المقبض، وملامحه واضحة، وتتمثّل بعينين دائريتين، وأنف شامخ، وشدقين مفتوحين. يرتفع هذا الرأس فوق عنق طويل مقوّس، يحدّه عقد من الحبيبات الناتئة، يفصل بينه وبين البدن. يتكوّن هذا البدن من صدر طويل مستطيل، تعلوه قائمتان أماميتان تمتدّان في الأفق، مع قدمين مقوّستين بشكل طفيف. الفخذان عريضتان، والذيل منسدل، وهو على شكل ذيل الأسد، ويتميز بخصلة عريضة تعلو طرفه، تنعقد هنا بشكل حلزوني.

يتكون الخنجر الآخر من نصل يبلغ طوله 16 سنتيمتراً، ومقبض على شكل قوس منفرج طوله 12.5 سنتيمتر. تتكرّر صورة الفهد، مع اختلاف في التفاصيل؛ إذ يغيب الطوق الذي يحيط بالعنق، وتستقيم القائمتان الأماميتان عمودياً، وتحضر في وسط العين نقطة غائرة تمثّل البؤبؤ. ينتصب هذا الفهد فوق فهد آخر يظهر بشكل معاكس له، ويشكّل رأس هذا الفهد المعاكس الطرف الأسفل للمقبض، وقاعدة للنصل المنبثق من بين فكّيه.

يمثّل هذان الخنجران حالة فنية استثنائية في ميدان مجموعات الأسلحة المتعددة التي خرجت من مواقع الإمارات الأثرية، ومواقع سلطنة عُمان التي شكّلت امتداداً لها، ويبرزان بطابعهما التصويري الذي يأخذ هنا شكل منحوتتين مجسّمتين. تعكس هاتان المنحوتتان أثر بلاد السند وبلاد الرافدين، غير أنّهما تتميّزان بطابع محلّي خاص، ويظهر هذا الطابع في قطع أخرى تنتمي كذلك إلى ما يُعرف تقليدياً بالفنون الصغرى.