مجيد طوبيا... جعل فكرة السفر والترحال موازية لفعل الكتابة

مجيد طوبيا... جعل فكرة السفر والترحال موازية لفعل الكتابة
TT

مجيد طوبيا... جعل فكرة السفر والترحال موازية لفعل الكتابة

مجيد طوبيا... جعل فكرة السفر والترحال موازية لفعل الكتابة

ظل يتمتع ببصيرة روائية مسكونة بالإنسان منفتحاً على همومه في العيش الكريم والبحث عن الأمان والحرية والعدل

انشغل الكاتب المصري مجيد طوبيا، في مشواره الأدبي بفكرة السفر والترحال، داخل المكان، وداخل الشخوص، وداخل الحياة، حتى أصبحت هذه الفكرة موازية لفعل الكتابة نفسه، وبمثابة قانون داخلي، فأنا أكتب إذن أنا أسافر داخل الذات والشخوص والمكان والزمان والواقع والحياة، ودون ذلك سيظل المشهد السردي قاصراً، قصار جهده أن يناور على السطح دون التوغل في العمق والإمساك بحقيقة الصراع وجذوره المتشعبة في مرايا الذات والوجود.
تلازم الفكرة نفسها حياة الكاتب، وتمتد من قوس الميلاد في 25 مارس (آذار) 1938 بمحافظة المنيا بصعيد مصر، والتحاقه بكلية المعلمين، وبعد حصوله على البكالوريوس يسارع للالتحاق بمعهد السينما، ويحصل على دبلوم في فن كتابة السيناريو، ثم يمد حبال السفر والمغامرة ليحصل على دبلوم الدراسات العليا في الإخراج السينمائي من المعهد نفسه عام 1972، وفي يوم الخميس الماضي 8 أبريل (نيسان) من الشهر الحالي، وبعد صراع مع أمراض الشيخوخة يضع قوس النهاية النقطة الأخيرة في الكراس، حيث غيبه الموت بمسكنه بالقاهرة عن عمر يناهز 84 عاماً، تاركاً مسيرة أدبية حافلة بالعطاء والتجدد، مثل الكثير من أقرانه الذين شكلوا متن جيل الستينيات الأدبي في مصر.

آثر مجيد طوبيا ألا تزاحمه في الحياة زوجة أو حبيبة أو أطفال موفراً لذاته فضاءً فسيحاً للإبداع، يمنحه القدرة على التأمل الصافي من دون عقد أو حواجز تفرضها الضرورة الاجتماعية. وفي كل هذه المحطات من السفر والترحال ظل يتمتع ببصيرة روائية مسكونة بالإنسان، منفتحاً على همومه في العيش الكريم، والبحث عن الأمان والحرية والعدل، وكانت الكتابة سلاحه الأكثر ألفة وحميمية والتصاقاً بالنفس والحياة. كما شكلت بوصلة الاتزان وضابط إيقاع التنوع بين أشكال مختلفة من الإبداع خاض غمارها بشغف وحب. اكتشفت الناقدة الدكتورة سهير القلماوي بذرة هذا التنوع في مجموعته القصصية الأولى «فوستوك يصل إلى القمر» (1967)، التي قدمت لها، مشيرة إلى أنها تبشر بكاتب موهوب، وهو ما تحقق لاحقاً في رواياته ومجموعاته القصصية.
لكن اللافت في مغامرة التنوع، هذا التنقل السلس بين أنماط شتى من الكتابة، فبروح تبحث عن التجديد كتب: القصة القصيرة والرواية، والسيناريو والحوار والنص السينمائي أحياناً، بل المشاركة كعنصر مساعد في الإخراج أحياناً أخرى، وبالروح نفسها كتب الدراما التلفزيونية، واليوميات وأدب الاعتراف، وهو ما تجسد على نحو لافت في كتابه «مأساة ديانا وفضائح مونيكا»، ومحاولة القبض على اللحظة الخطرة الهاربة من سلطة الجسد وسطوة الواقع، راصداً تداعياتها في علاقة عشق جمعت بين أربعة أفراد، بينهم من كان يتربع على هرم السلطة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً في بلاده والعالم، وفي رواية «الهؤلاء» جعل من وهم الخرافة والكبت واقعاً ملموساً، مجسداً أحد مآزق المثقفين والحياة الثقافية تحت سقف نظام متسلط وديكتاتوري، حيث اختراع الوهم يصبح هو البديل لمواجهة تعسف وقمع وترصد السلطة الحاكمة، وعيونها المتلصصة المندسة في كل مفردات الحياة، وتصبح «أيبوط» ليس مجرد بلد وهمية، إنما واقع حي وملموس، جاثم على أهلها، يحاصرهم في خطواتهم وأنفاسهم، واقع كابوسي، يسير دائماً في عكس عقارب الساعة والحياة. كما احتفى بالضحك كقيمة إنسانية مجردة في مواجهة شرور العالم وأمراضه، مجسداً ذلك في مسرحية هزلية جعل عنوانها «بنك الضحك»، وداعب الأطفال في «مغامرات عجيبة» و«كشك الموسيقى»، وهما روايتان قصيرتان أعلى فيهما من شأن الخيال كعتبة أساس للمعرفة والترويح أيضاً.

مثلت رباعيته الروائية «تغريبة بني حتحوت»، التي اختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين التجلي الأمثل لفكرة السفر والترحال، فعلى مستوى الزمن تدور أحداث الرواية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حينما كانت مصر خاضعة لحكم المماليك والعثمانيين ثم احتلها الفرنسيون لثلاث سنوات في حملة نابليون بونابرت الشهيرة. وتتنوع الرباعية على مستوى المكان، فهناك الرحلة إلى بلاد الشمال والجنوب، ثم إلى البحيرات، وبلاد سعد. هذا المزيج من التاريخ والجغرافيا بكل محمولاته التراثية من الأعراف والتقاليد أكسب الرواية طابعاً ملحمياً، انعكس على فكرة الترحال نفسها، فبدت وكأنها محاولة لاستكشاف الذات والمجهول، متخذة من تغرب شخصين من عائلة حتحوت بقرية «تلة» بصعيد مصر محور ارتكاز لرحلة تتنوع دفتها بين الشمال والجنوب، بينما يمثل نهر النيل شاهداً وراوياً ضمنياً على مآلات تلك الرحلة، حيث عمل الاثنان على مركب لنقل الأفراد والبضائع عبر نهر النيل من الصعيد إلى الوجه البحري، فتحكى الرواية ما رأياه من فظائع وأهوال حلت بمصر على يد حكامها في تلك الفترة، وتروي كيف أصبح كرسي الحكم وحاشيته عجينة مملة ومتكررة ورمزاً للعسف والظلم والطغيان.
في كل هذا التنوع لعب مجيد طوبيا، على فضاء الثنائيات الضدية للوجود، وتحديداً في المسافات البينية الرخوة فيما بينها، حيث الأشياء في منطقة الظل قابلة للوضوح والغموض، للظهور والتخفي، حينئذ تصبح مهمة الكتابة ليس فقط تعرية أقنعة هذه المراوحة، وإنما أن يبني من خلالها الكاتب جسوراً للإبداع. لذلك لم يحيد هذه الثنائيات، ولم يقم بينها تصالحاً زائفاً في أعماله، بل تعامل معها بوعي وبصيرة كاشفة، مشربة أحياناً بروح من السخرية البناءة، والفكاهة الاجتماعية والسياسية اللاذعة، وفي كل الأحوال كان حريصاً على أن يبقى التمردُ الشعلة التي تحرك جدلية الصراع وتكشف أبعاده، وتحيله إلى نسق سردي مهموم بأشواق الإنسان ومعاناته من أجل غد أفضل. ويتم هذا بالقدرة على المصارحة ومساءلة الذات، ومواجهة اللحظات المصرية بشجاعة. وهو ما تكشف في روايته «أبناء الصمت»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي شهير، يجسد واقع حرب الاستنزاف والصراع مع العدو الإسرائيلي، في مشهدية سردية مليئة بالشجن، والتشبث بالأرض وإرادة الحياة، تتبدى بقوة في ملامح مجموعة من الجنود هبطوا خلف خطوط العدو بسيناء في مهمة خاصة، وتكشف فجوات القلق والتوتر في الحوار بينهم عن مدى الشفافية والمصارحة، ومساءلة الذات بشجاعة حول أسباب الهزيمة في حرب 1967، والقدرة على العبور والانتصار. ليتحول المكان من خندق ضيق بمسرح المعركة إلى فضاء رحب يسع الوطن كله. كتب مجيد طوبيا السيناريو والحوار للفيلم، وأخرجه سيد راضي، وشهد الفيلم ميلاد كوكبة من النجوم، من أبرزهم أحمد زكي، وصنف «أبناء الصمت» ضمن أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية.
من الملامح المهمة أيضاً في أعمال مجيد طوبيا التعامل مع الجمال من منظور إنساني يتمتع بصفة الديمومة والخلود، فهو وعاء للحب، وفعل وجود وحياة، وليس محض علاقة سطحية عابرة. هذا الوعي يطالعنا في روايته الأولى «دوائر عدم الإمكان»، حيث تتحول عناصر البساطة والألفة بفعل الجمال نفسه إلى نوستالجيا خلاقة، تومض في حزن بطلها الفلاح البسيط الذي لا تغادره صورة زوجته الفاتنة الجميلة بعد أن فارقت الحياة، فظل يرفض تصديق أنها ماتت، في دلالة لافتة على أن الجَمال لا يموت.
يعزز هذه الإحساس الفارق بقيمة الجمال، الوقوف في صف المرأة ضد سطوة الرجل والمجتمع. ففي «ريم تصبغ شعرها»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان «قفص الحريم»، تسعي ريم إلى التحرر من سطوة الأب، العمدة كثير الزواج، ونظرته الدونية إلى أمها، وإلى النساء باعتبارهن مجرد حريم، وبعد بتر ساق أمها إثر حادث أليم، ومفارقتها الحياة، تستطيع ريم من خلال الإقامة مع جدتها أن تتحرر من هذه السطوة، وتكمل دراستها الجامعية بعيون مفتوحة على غد أكثر عدلاً، يحفظ كرامتها، وحقوقها كشريك في المجتمع والحياة.
تبقى في هذه الإطلالة على عالم مجيد طوبيا الثري الخصب، الإشارة إلى أنه حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1979، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب في العام نفسه، وفي عام 2014 حصل على جائزة الدولة التقديرية للآداب، وبرغم ابتسامته الوقور الخجول عاش الحياة محباً للضحك وللبشر، وغادرها بعد أن ترك أثراً يبقى.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.