قررت أن أقاوم دمار الحرب الأخيرة بطريقة مختلفة ... عبر مخيلة دوستويفسكي

العراق وأيامنا السوداء الغبراء بلوني النفط والدماء

قررت أن أقاوم دمار الحرب الأخيرة بطريقة مختلفة ... عبر مخيلة دوستويفسكي
TT

قررت أن أقاوم دمار الحرب الأخيرة بطريقة مختلفة ... عبر مخيلة دوستويفسكي

قررت أن أقاوم دمار الحرب الأخيرة بطريقة مختلفة ... عبر مخيلة دوستويفسكي

منذ متى كان للحرب رزنامة أخرى غير ما تتركه على وجوه ضحاياها من تواريخ وحكايات. الناس قبلها ضائعون في تفاصيل حياتهم اليومية، فيما تستعمر الحوادث الفارقة ذاكرتهم. كانت أمي، مثلاً، تؤرخ لولادة شقيقتي: إنها قد حدثت في شتاء ما بعد مصرع من «صعد لحم ونزل فحم». وستقول لي، بعد حين: ولدتك في ليلة شتائية قارسة البرودة. بعدها بسنتين سيذهب خالك لقتال اليهود في سوريا. الحرب، أي حرب خاضها العراقيون، مجبرين ولا شك، حرب الثمانينات، حرب الكويت، حرب بوش واحتلال البلاد، وحرب الطوائف. أي حرب، لا فرق، هي التي ستصنع تاريخ من لا تاريخ له. ولن نختلف على مسمياته ومسوغاته: تاريخ الجنود مثلاً، تاريخ القتلى المغدورين، تاريخ المهزومين، تاريخ المنتصرين، لا فرق؛ فالحرب هي التاريخ الوحيد المتاح أمامنا. تواريخ أخرى ستتوقف عن تذكرها أمي ونساء أخريات مع وصول التابوت الأول الملفوف بالعلم العراقي إلى محطة الباص. ستتوقف النساء عن تذكر حكاياتهن عن أزمنة ضاعت تفاصيلها، بعد مشهد العجوز والضابط الشاب الذي تلفت حوله بحثاً عمن يسأله عن بيت النائم في التابوت، فلم يجد غير عجوز تعتقد أن ابنها هو المقصد.


                                                               فؤاد التكرلي  -  ريمارك -  دوستويفسكي

لا جندي، لا علم عراقياً، لا أم حسين
السجل الكبير الذي كتبت فيه بعض الأشعار والطرائف وحكم ما بعد المراهقة الأولى، هو ذاته الذي كتبت فيه حكايتي الأولى. أتذكر أنني كنت أعود من المدرسة متحمساً للكتابة. في الظهيرة، كما في المساء، كنت أكتب جملاً مؤلفة بطرق صادمة تستدعي الفخر، كما كنت أنابز بعض الأصدقاء؛ وكيف لا أفخر وأنا أكتب عن ليلة ماطرة وامرأة عاشقة تهرب من أهلها فجراً. لم يخطر ببالي أبداً، أن أكتب عن الحرب التي ما زالت، حتى ذلك الوقت، تطحن البلاد والعباد، عن أم حسين والتوابيت الملفوفة بالعلم العراقي التي لم تتوقف عن التدفق كما مياه النهر والغبار والحكايات التعيسة. أسأل نفسي الآن: أين ذهب ذلك «السجل»، أين صارت حكايتي الأولى؟
حرب الكويت... لا راسكولينيكوف في بغداد
هل تشبه هذه الجملة صيغة أخرى أشهرت بعد صدام وحروبه «فرانكشتاين في بغداد»؟ لا أظن؛ فصاحب الجملة الشهيرة، مثلما الجملة ذاتها، يحيلان إلى يقين ثابت لا يتزحزح جوهره الوجود المفارق للمخلوق العجائبي في بغداد بعد احتلالها الأخير. بينما الصيغة المقترحة تنفي وجود أي يقين سوى أن هناك موتاً لا أعجب منه ينتظرنا. في وقتها، قبل أن يسمع الناس بفرانكشتاين، كان لدينا مخلوقان، لا أعجب منهما: الحرب وصاحبها، حاكم البلاد ذو الوجه البشع. نعم، لا راسكولينيكوف في بغداد آنذاك؛ لا أحد كان لديه الوقت الكافي ليفكر بجريمة قتل حدثت بعيداً في بلاد الثلوج. الجميع كان يفكر بموته المحتم بعد قليل، بعد أن جمعتهم فجأة سيارات الحمل الكبير ومضت بهم مسرعة صوب الصحراء. كانت أحشاؤها قد مُلئت بالجنود، وكان أغلبهم ما زال بلباسه المدني. من كان لديه وقت يتسع لأمر آخر غير خوفه ليفكر بدوستويفسكي ومخلوقاته. هل كان الأمر مختلفاً معي؛ أنا الذي كنت أحث الخطى، وقتها، عائداً للبيت بعد أن دكت الطائرات، فجراً بغداد ومدناً أخرى؟ مثل غيري لم أفكر، وأنا ألاحق شبح الطائرات الأميركية المحلقة بعيداً في سمائنا، بذلك الشاب التعيس «راسكولينيكوف»، ولا بصاحبته العجوز «الشمطاء». ربما فكرت بما لم يقله لنا مدير المدرسة العصبي غالباً، قبل أن يحمل رشاشه ويذهب لقتال الغزاة المحتلين: اذهبوا إلى بيوتكم. كذلك لم تفعلها الطائرات السابحة في الفضاء المدلهم، إنما قد رسمت أمامنا، في البعيد أحرفاً كبيرة صنعتها بدخانها الأبيض، قبل أن تتوارى في الأفق: «USA». ولقد فهمنا الإشارة؛ لا صباحات باردة بعدها، لا دروس مؤجلة، لا مدير يجلدنا بشتائمه الحماسية كما لو أنه يقوم بعمل بطولي لا نظير له. في المساء، منتصف ليلة الحرب الأولى، وجدت نفسي أفكر بمشهد غابات النخيل في جيكور «التي لم أزرها حتى تلك الليلة!»، باللؤلؤ والمحار في الخليج «سأقف هناك، بعد ثلاثة عقود، وسأحاول أن أسمع صرخات الغزاة وأغاني البحارة الحزانى!»، ومنطق المقاول ونظرته الأخيرة للحمام الساكن في جدارية السلام. ولا شيء سوى مشهد بغداد المحطمة تحت مطر النفط الأسود.
أين الحرب من كل ذلك؟ أسأل نفسي الآن لماذا أندفع صوب عالم دوستويفسكي ولا أفكر بعوالم «الحرب والسلام» مثلاً؟ هذا السؤال فكرت به وأنا أقرأ رواية الألماني ريمارك «للحب وقت... للموت موت»، منتصف التسعينات في الكوفة القديمة. حقاً؛ لماذا لم يخطر ببالي أن أرى الحرب عبر مشهدين: مشهد الطائرات التي تعجن البشر بما حولهم وتدك ما تحتها دكاً، ومشهد الحرب المتخيلة. ريمارك مثلاً سيقول لي في ليلة شتائية ماطرة غرقت فيها المدينة القديمة حتى أنني كدت أعجز عن العودة إلى غرفتي، في بناية إسكان الطلبة، بعد أن خضت في وحل المدينة ومطرها: إن مشهد الحرب يرتبط، عميقاً، بمنطق المذنب، أو من كان وراء خراب «تخريب» حياتنا. «إرنست غريبير» الشاب ذو الـ23 عاماً، بطل رواية ريمارك، يعود بإجازة إلى مدينته المخربة «برلين» فلا يجد عائلته، لكنه يجد «الحب» مع «إليزابيث» الفتاة اليهودية التي يسجن هتلر أباها. يهيم العاشقان على وجهيهما؛ فلا مأوى لهما في مدينة دمرتها الحرب. في تلك الليلة، ليلة غرق الكوفة القديمة بالظلام والأوهام وأحلام العشاق المتعثرين برغباتهم المحمومة، كنت أسأل شبحي العابس دائماً؛ إن كانت هناك «حالة» عراقية تشبه حالة «إرنست غريبير»؛ هل عاد عراقي لمدينته فشهد ما شهده صاحبنا الألماني؟ وقد يكون الأصعب في حالتنا العراقية أن يسأل العراقي عن «المذنب» المتسبب في كل هذا الشقاء الذي يفتك بنا؟
حرب الديكتاتور الأخيرة
في حربين طاحنتين عشت أولهما شاباً لم يدرك العشرين، وثانيتهما مطلع الثلاثينات، كان لي، شأن ملايين العراقيين، بعد ثلاثة عشر عاماً من أيام المطر الأسود، أن أشهد أيام الغبار الأحمر، بعدها بقليل سأرى الناس، في سطوح بيوتهم، أو وهم يصطفون على جانبي الطريق، وينظرون بذهول لمشهد الدبابات الزاحفة صوب قصر الرئيس المعلق بسماء بابل. قبل أن أرى جاري المهلل للوجوه السوداء والعيون الزرقاء المختلفة، كنت قد قررت أن أشهد الحرب بطريقة مختلفة هذه المرة، أن أقاوم فعلها المدمر عبر مخيلة دوستويفسكي. لماذا هذا الكاتب بالتحديد؟ لا أتذكر الآن السبب المباشر الملح، لكني أعرف أن رغبة عارمة استبدت بي، قبلها، ودفعتني للاعتكاف مع مخيلة دوستويفسكي. أفكر الآن أن منطق الجريمة هو السبب المهم في الاعتكاف لعوالم دوستويفسكي. في ليالي القصف، ثم في ليالي الغبار المظلمة، كنت أحاول أن أفهم مغزى اهتمام مخيلة البشر في كل مكان وزمان بالجريمة، بفعل القتل. الديانات السماوية الكبرى كانت قد «دشنت» عوالمها السردية بمنطق الجريمة. ثمة أخ يقتل أخاه، قابيل ضد هابيل، هذه صياغة أولى لقصة قاتل ستكررها الديانات الثلاثة. منطق القاتل هو جوهر التفكير المفارق لراسكولينيكوف. فهل كانت الأمور واضحة أمامي كما تبدو الآن؟
على عجل جمعت كتبي وأشياء أخرى مما أمكن لي حمله في حقيبة متوسطة وغادرت بغداد؛ كان ذلك عشية الحرب الأخيرة. لا أتذكر أني عدت بأحد كتب دوستويفسكي ولا ريمارك، ربما كان منها رواية «يوم قُتل الزعيم». في كراج (العلاوي) كان الناس يتكدسون فوق بعض. وقفت هناك أتأمل المشهد المرير، حتى انتبهت لسؤال عجوز عن سيارة تأخذه لـ«كربلاء»، أجبته بابتسامة ساخرة: «هل ترى أمة لا إله إلا الله هذه؛ كل هؤلاء، فرداً فرداً، يريدون الذهاب لكربلاء!». هز العجوز رأسه ومضى صوب الجمهور المتدافع أمام باب باص كبير. مشية العجوز المتعثرة أعادتني لقصة محفوظ، وكنت قد كتبت عنها، فيما مضى، تقريراً في الجامعة. في الطريق فشلت باستعادة مسار الأحداث في رواية محفوظ، كنت أفكر، لحظتها، بقصة القاتل، فيما عنوان رواية محفوظ مشغول بزمن القتل. هل ثمة فارق بين الأمرين؛ بين قصة القتل وقصة القاتل؟ على مستوى تحليل الخطاب ربما لا نجد ذلك الفارق الجوهري بين الروايتين؛ إذ تشرح القصتان كيفية تحقق «حدوث» فعل القتل بصفته حدثاً سردياً يتحقق ضمن سياق زمني – مكاني، غير أن الحدث السردي سيختص، في الأولى، بفعل القتل ذاته وبسياسة التحقيق/ الإخفاء مما لا يحتل مكانة مهمة في التأويل السردي في رواية القاتل التي تهتم بشخصية القاتل في سياق تنفيذ جريمة القتل. المفارقة أنني لم أتذكر، وقتذاك، أن محفوظ نفسه هو من كتب الرواية الشهيرة «اللص والكلاب: 1961»، وأنها سابقة بالصدور والتداول على رواية «يوم قتل الزعيم: 1985»، وهي ذاتها التي «دشنت» النقد السياسي بصيغته الفلسفية لعهد «عبد الناصر»، لكنها الصياغة العربية الأولى، كما أفترض، لقصة القاتل العربية التي لا تحيل إلى الرواية البوليسية، برغم أنها تأخذ منها، في الوقت نفسه، التأويل السردي لفعل القتل المتصل، هذه المرة، بالسؤال المختلف: من القاتل؟ فيما بعد ستتحول شخصية القاتل في الرواية العربية، لا سيما العراقية منها، لدى كتاب الستينات العربية إلى مقولة سردية رئيسة. في العراق، مثلاً، هناك ما يسميه القاص «محمد خضير» بـ«ثلاثية شباط». وهو يقصد الروايات الثلاث التي تعلقت واختصت بـ«رواية الجحيم العراقي» صبيحة الثامن من شباط عام 1963، نتحدث هنا عن «القلعة الخامسة: 1972» و«الوشم: 1972» و«الرجع البعيد: 1980». هذه الروايات صدرت كلها خارج العراق، وهي إشارة كافية تفضح الرغبة العارمة لدى السلطة، آنذاك، بالتكتم الشديد على شخصية القاتل صانع حكايات الجحيم العراقي. وستصبح تلك الروايات، مع أخريات صدرت قبلها وبعدها، علامات فارقة تشهد على قصة القاتل وستمهد، ربما، لتبلور الصياغة الأخيرة لقصة عراقية جديدة، لا عنوان لها سوى «ليلة القبض على بغداد». وستكون القصة الجديدة هي المحصلة لـ«تأميم» كل شيء في العراق، وفي الطليعة منه حق القص واختراع المصائر؛ إذ لن يكون بمقدور أحد أن يخترع «قصة» من عندياته؛ بعد أن صار هناك «جهاز» ثقافي – سياسي مهمته الأولى والأخيرة هي إنتاج القصة الوحيدة المسموح بتداولها. ولا ضرورة بعدها لأي سؤال عن موضوع تلك القصة ولا عن شخصياتها وأبطالها. نعم، لا أظن ذلك ضرورياً على الإطلاق!



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.