أوكرانيا... حرب في شرقها وسياحة في غربها

بينما تتمتع المناطق الغربية من أوكرانيا بموسم أقرب إلى الأجواء السياحية، تدهور الوضع في شرقي البلاد مع إعادة تجميع الجيش الروسي لقواته وتركيز هجماته في الشرق والجنوب. ومنذ ليل الخميس، تعرضت المدينة الثانية في البلاد خاركيف لعمليات قصف مركزة، قد تؤدي إلى محاصرتها المدينة بعد فشل الهجوم الرئيسي في الأسبوع الأول من الحرب.
لم يتوقف القصف صباح الجمعة أو السبت، بل تركز على خطوط إمداد الجيش الأوكراني ومراكز وجوده، أو تلك القريبة منه. ومع افتقاد المدفعية الروسية الدقة في إصابة أهدافها، تؤدي غالباً عمليات القصف إلى تدمير منشآت مدنية أو إصابة مجمعات سكنية، إلا أن القوات الروسية تستهدف في بعض الأحيان بتعمد أيضاً مرافق مدنية تشكل جزءاً من محاولتها ضرب الصمود البشري، كما حصل ليلاً في خاركيف، حيث قصف مصنع الخبز الرئيسي في المدينة للمرة الثانية خلال أقل من شهر.
يوم الجمعة، طلبت السلطات المحلية من السكان في المنطقة إخلاءها، والعائلات التي سبق أن قررت البقاء سابقاً غيّرت من موقفها وبدأت بالنزوح إلى الأماكن الأكثر أمناً، خاصة في غرب البلاد. ومع تجدد محاولات اقتحام عدد من الجبهات في لوغانسك، فإن المعلومات التي يوزعها الجانب الأوكراني تقول إن القوات الروسية فشلت حتى الآن في اختراق أي جبهة أو تسجيل أي نصر في مناطق لوغانسك.
ضرب محطة القطارات في كراماتورسك (شرقي البلاد، على مسافة ١٢٠ كيلومتراً غرب لوغانسك) ومقتل ٥٠ على الأقل في الضربة الصاروخية، يشير بالنسبة إلى السكان الذين أمكن التواصل معهم إلى نوايا الجيش الروسي بعزل المنطقة، وهو ما أثار موجة هلع وأدى إلى ازدياد عمليات النزوح من الشرق. السلطات المدنية في سومي (١٣٠ كيلومتراً شمال غرب خاركيف) أعلنت كل مناطقها محررة من القوات الروسية، بعد أن كانت محاصرة بشكل شبه كامل من هذه القوات منذ بداية المعارك، ومع هذا الإعلان بات بالإمكان القول إن الهجمات التي شنتها روسيا من أراضي بيلاروسيا ومن أراضيها باتجاه الأراضي الشمالية والشمالية الشرقية في أوكرانيا قد فشلت تماماً.
في وسط البلاد، لا تزال عمليات تنظيف المناطق التي انسحب منها الجيش الروسي تسير على قدم وساق، وفي كل يوم تعثر السلطات الأوكرانية على المزيد من الألغام التي خلفها الروس، تعلن حظر التجول في مناطق جديدة بهدف فتح طرقاتها وإزالة الذخائر التي لم تتفجر، داعية السكان إلى عدم العودة مؤقتاً.
هذه الصور القاتمة في شرق البلاد غير موجودة تماماً في مناطق في غرب البلاد، حيث الحياة تسير بشكل طبيعي، لا بل يمكن القول إن غرب أوكرانيا يشهد موسماً سياحياً مزدهراً عماده أبناء الطبقة الوسطى التي هجرت منازلها وأعمالها في الشرق والجنوب وبعض مناطق الشمال. في مدينة لفيف أو في مدينة شيرنفستسي تزدحم الشوارع منذ الساعة الثامنة صباحاً بالمارة والسيارات. أكثر من ١٤٠٠ شركة طلبت نقل تراخيصها ومراكزها من العاصمة وخاركيف ومناطق أخرى إلى غرب أوكرانيا، حيث بات البعض يتوقع أن الأعمال العسكرية الروسية ستتركز في المناطق الشرقية، ويذهب آخرون إلى التأكيد على أن تلك المناطق ستشهد احتلالاً روسياً طويلاً، على غرار ما جرى في مناطق القرم ودونيتسك، وأن مناطق الغرب ستبقى آمنة وصالحة للأعمال.
كل أنواع الأعمال تسير في غرب أوكرانيا، وكأن لا حرب تجري، قلة من الأماكن التي يمكن مشاهدة التلفاز فيها ينقل الأخبار، حالة من اللامبالاة تسري هنا بين أغلبية الموجودين بمن فيهم النازحون، التحصينات القليلة التي رفعت في الأيام الأولى للمعارك بقيت رغم ندرتها شاهدة على حرب تدور في البلاد، ومنع التجول يبدأ عند العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً، دون أن يمنع حركة الحياة المعتادة بالنسبة للسكان. بينما في مناطق عدة من البلاد يبدأ الحظر عند السادسة مساء ويرفع عند السابعة صباحاً.
وتشير لوحات السيارات إلى نسبتها العالية الآتية من مناطق النزاع، وإلى مستوى معيشة هؤلاء السابقة على بداية الحرب. وبعد الظهر يمكن مشاهدة الازدحام في المناطق السياحية، حيث يتجول أبناء الطبقة الوسطى الأوكرانية بثيابهم الفاخرة ونظاراتهم الشمسية وبرفقة كلابهم وتعج بهم المقاهي والمطاعم وأماكن الترفيه المختلفة. بينما المحال التجارية التي تبيع الكماليات دائماً مشغولة بزبائن جدد لم تعهدهم في هذه المدن.
النمط السياحي لحياة هؤلاء يثير سخط هيلينا (٣٨ عاماً) التي تعمل متطوعة متجولة بين أشد مناطق النزاع سخونة، وتنقل المساعدات للمدنيين ووحدات الجيش الأوكراني. ويتركز عمل هيلينا على نوعية خاصة من المساعدات الطبية، خاصة تلك التي تستخدم مباشرة بعد الإصابة، وهي تقضي أغلب أوقاتها في الباصات متنقلة بين شيرنفستسي والمناطق القريبة من جبهات القتال.
في شيرنفستسي، تتحدث هيلينا عن انعدام مسؤولية البعض تجاه بلدهم، حيث أخذوا من البلاد كل شيء ولا يريدون تقديم أي شيء الآن. وتضيف أن هؤلاء المستمتعين بالهدوء في الغرب لم يغادروا البلاد كلياً لسببين: الأول أن السلطات تمنع خروج الذكور في زمن الحرب، والآخر أن الحياة هنا أرخص نسبياً من الدول الأوروبية المجاورة. وبالتالي سببوا ازدحاماً في هذه المناطق يعوق أحياناً حركة الإغاثة.
هذا الازدحام انعكس أيضاً على الأسعار، حيث تضاعفت إيجارات وأسعار الشقق السكنية والمكاتب التجارية، ونشطت عمليات الانتقال الكامل لكثير من العائلات، حيث يفضل مَن لا يزال يجد في البلد متسعاً للعمل أو لنقل مصالحه التجارية البقاء ولو بمفرده بعد إرسال عائلته إلى بلاد مجاورة.
بولندا هي الوجهة المفضلة طبعاً، ومنذ بداية الحرب، بينما تشكل باقي دول الاتحاد الأوروبي إغراء أيضاً للعديد من الشبان، وإن كانت مغادرة الذكور ما زالت غير قانونية بانتظار فك الحظر الرسمي، فإن عمليات تهريب كبيرة تجري على الحدود وتكافحها قوات حرس الحدود بشكل متواصل. التوجه نحو الاتحاد الأوروبي ليس من أجل لجوء مؤقت، بل الكثير من الشبان يتحدثون عن توفير مبالغ مالية بغية الدفع لمهربين محترفين لمغادرة الأراضي الأوكرانية والحصول على لجوء دائم وإقامات في دول الاتحاد الأوروبي، بعد أن فشلت أوكرانيا حتى الآن في الانضمام إلى هذا الاتحاد، وعلى اعتبار أن نوعية الحياة في الدول الأوروبية أعلى من بلادهم.
أندريا (٢٢ عاماً) يعمل سائقاً لسيارة تاكسي، حاول في البداية العمل في كييف مع صحافيين، ولكنه اكتشف أن معرفته المحدودة بالإنجليزية ومغامرات الصحافيين لا تسمح له بالعمل معهم، فاكتفى بالعمل ما بين كييف ولفيف، وهو يقول صراحة إنه يسعى لجمع بضعة آلاف من الدولارات الأميركية للخروج من أوكرانيا. ويبدي اعتقاده بأن بضعة آلاف من الدولارات يمكن أن تكون كافية لبدء حياته إذا ما أضيفت إلى المساعدات التي سيتلقاها بصفته لاجئاً.
يقول أندريا: «أنا متأكد من أن أوكرانيا ستكون بلداً عظيماً في المستقبل، ولكن ليس لدي وقت لأنتظر كل هذا الوقت».
ويتحدث آخرون عن ترحيل نسائهم وأطفالهم إلى الغرب والبقاء مؤقتاً في أوكرانيا إلى أن تسمح السلطات بسفرهم، معولين على عمليات لمّ الشمل للذهاب غرباً والحصول على جوازات سفر أوروبية في المرحلة اللاحقة. إيغور (٢٤ عاماً) واحد من هؤلاء، وهو أرسل عائلته إلى ألمانيا، وينتظر أول فرصة للحاق بهم وترك بلاده نهائياً.
يسعى إيغور لتصفية شركته التي أسسها منذ أعوام، وبيع موجوداتها في كييف قبل الانتقال إلى الغرب. مقابل هؤلاء يمكن ملاحظة ازدياد عدد المتطوعين في الجيش والحرس الإقليمي ومنظمات الإغاثة، والراغبين في التوجه نحو المناطق الأشد اشتعالاً للمساعدة في الأعمال الحربية.