سارع الرئيس الصيني، شي جينبينغ، منذ أن حطّت طائرته في مطار أورلي الواقع جنوب العاصمة الفرنسية، إلى توجيه رسالة للدولة المضيفة شدد فيها على رغبته في توثيق العلاقات الصينية - الفرنسية التي عدّها «نموذجاً يحتذى به للمجتمع الدولي في التعايش السلمي والتعاون المثمر بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة». وأكملت صحيفة «الشعب» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني رسالته، وفق ما نقلت عنها وكالة «الصحافة الفرنسية»، بتأكيدها أن الصين «ترغب في تعزيز التواصل والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وتكثيف التعاون وحل الخلافات من خلال الحوار».
ومنذ أول اجتماع استضافه قصر الإليزيه للرئيسين؛ الفرنسي إيمانويل ماكرون، والصيني، بمشاركة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، حرص الثلاثة على تأكيد الرغبة بالتعاون بين الاتحاد الأوروبي والصين، مع التركيز على الجوانب الإيجابية؛ ولكن من غير التغطية على الصعوبات التي تعترضهما؛ إن على المستوى السياسي - الاستراتيجي أو على المستوى الاقتصادي - التجاري.
وفي مستهل الاجتماع الذي نقل مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لقصر الإليزيه، حرص الرئيس ماكرون على تأكيد جو «الصداقة والثقة» المخيم على المحادثات، بالنسبة «لأوجه التقارب بيننا، وأيضاً بالنسبة لمخاوفنا» السياسية أو الاقتصادية.
وقال ماكرون، إن الوضع الدولي «يتطلب أكثر من أي وقت مضى الحوار الصيني - الأوروبي بسبب الوضع الدولي»، خصوصاً أن العالم موجود اليوم «في نقطة تحول بتاريخنا، مما يعني أنه علينا أن نواجه الصعوبات الهيكلية ونتغلب عليها». ودعا ماكرون، الرئيس الصيني، إلى «التنسيق» بين الطرفين، الذي وصفه بـ«الحاسم بشكل مطلق»، بخصوص «الأزمات الكبرى» التي يواجهها العالم، وأولاها الحربان في أوكرانيا وغزة، عادّاً هذا التنسيق «سيكون حاسماً بشكل مطلق». وبخصوص الخلافات التجارية التي كانت الطبق الرئيسي في الاجتماع الثلاثي، فقد رسم الرئيس الفرنسي الطريق لحلها وعنوانها «العمل بقواعد منصفة بالنسبة للجميع».
بيد أن وزير الاقتصاد والمال برونو لومير، نبه، بمناسبة مشاركته في اجتماع مجلس الأعمال الفرنسي - الصيني الذي التأم الاثنين، على هامش زيارة شي، إلى أن العلاقة الاقتصادية والتجارية الفرنسية - الصينية «غير متوازنة»، حيث إن باريس تعاني من عجز تجاري بلغ 46 مليار يورو لصالح الصين.
وأشاد ماكرون بالتقارب بين فرنسا والصين، «كما برز في السنوات الأخيرة، وهو قادر على التوصل إلى نتائج ملموسة للغاية». وعدد ما يريد بحثه بحيث يتناول «قضايا التجارة والوصول إلى الأسواق وشروط المنافسة العادلة والاستثمار والتنمية المتناغمة، وفي مرحلة ثانية، سنناقش أوكرانيا والشرق الأوسط، وهما أزمتان كبيرتان حيث التنسيق بيننا أمر بالغ الأهمية». وذهب في خلاصته إلى اعتبار أن «مستقبل قارتنا (الأوروبية) سيعتمد بشكل واضح جداً على قدرتنا على مواصلة تطوير العلاقات مع الصين بشكل متوازن، وهذه هي إرادتنا».
شي: تعزيز التنسيق الاستراتيجي مع أوروبا
كان من الطبيعي أن يرد شي جينبينغ التحية بأحسن منها، وأن يشيد بالتعاون بين بلاده وأوروبا التي تنظر إليها الصين «نظرة استراتيجية بعيدة المدى وكوجهة مهمة لدبلوماسيتنا». وقال: «يجب على الصين والاتحاد الأوروبي، وهما قوتان رئيسيتان في العالم، التمسك بشراكتهما ومواصلة الحوار والتعاون وتعميق التواصل الاستراتيجي وتعزيز الثقة الاستراتيجية المتبادلة وبناء التقارب الاستراتيجي وتطوير التنسيق الاستراتيجي، وذلك بهدف تعزيز التنمية المستقرة والصحية للعلاقات الصينية - الأوروبية وتقديم مزيد من المساهمة في السلام والتنمية بالعالم». وإذ رأى أن «عامنا ولج مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول»، شدد مرة أخرى على ضرورة التحادث والحوار سبيلاً لارتقاء العلاقات بين الجانبين.
وكعادتها، لم تتوانَ فون دير لاين عن توجيه انتقادات حادة للصين. ففي مرحلة أولى من كلمتها، أكدت على إرادة الطرفين (الأوروبي والصيني) «إقامة علاقات جيدة»، وذلك بالنظر إلى «وزن الصين العالمي»، مضيفة أن الحوار «ضروري لضمان الاحترام المتبادل، ومنع سوء الفهم وإيجاد حلول مشتركة للتحديات العالمية». ونوهت المسؤولة الأوروبية بأن «للصين والاتحاد الأوروبي مصلحة مشتركة في تعزيز السلام والأمن ووجود نظام دولي قائم على القواعد ويعمل بشكل جيد».
وإذ أبدت دير لاين تخوفها من «الاضطراب الكبير في أوروبا والشرق الأوسط وشرق آسيا»، فإنها عبرت عن «تصميم أوروبا على وضع حد للحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا ولإيجاد سلام عادل ودائم». وفي السياق الاقتصادي - التجاري، عدّت أيضاً أن الصين «مهمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، مثل مكافحتنا المشتركة للتغير المناخي أو تصميمنا على حماية التنوع البيولوجي وتنفيذ حوكمة المحيطات».
ولم تتردد فون دير لاين، المتشددة إزاء الصين بالمسائل التجارية، في تحذير شي من «الاختلالات» التي تهدد العلاقات التجارية بين الطرفين؛ مثل «الطاقة الإنتاجية الزائدة التي تتحكم فيها الدولة والوصول غير العادل (للأوروبيين) إلى الأسواق...».
وخلاصة فون دير لاين أن أوروبا «لا يمكن أن تقبل مثل هذه الممارسات المشوهة للسوق التي يمكن أن تؤدي إلى إلغاء التصنيع في أوروبا، ولذا علينا العمل على التأكد من أن المنافسة عادلة وغير مشوهة». ويجد الأوروبيون أنفسهم «محشورين» بين حمائيتين: صينية وأميركية، ولذا عمدت المفوضية الأوروبية إلى إطلاق عدة تحقيقات حول المساعدات الكبيرة التي تقدمها بكين لصناعة السيارات الكهربائية التي تضر بنظيرتها الأوروبية.
وبعد انتهاء الاجتماع، كررت فون دير لاين مخاوفها. لكنها بالمقابل، أكدت أن الاتحاد الأوروبي «لن يتردد في اتخاذ قرارات حازمة» لحماية اقتصاده وأمنه بالاستفادة من «أدوات الدفاع التجاري المتاحة لنا، إذا كان ذلك ضرورياً».
ويمكن فهم كلام المسؤولة الأوروبية بأن الرئيس الصيني لم يبدِ مرونة في التجاوب مع مطالب الأوروبيين، لا بل إن مصدراً أوروبياً وصف المحادثات بأنها «كانت متوترة في بعض مراحلها».
حرب أوكرانيا
وقالت فون دير لاين إن باريس وبروكسل تعولان على الصين «لاستخدام كل تأثيرها على روسيا» لوقف حرب أوكرانيا، منوهة بالدور المهم الذي أداه شي «للحد من التهديدات النووية غير المسؤولة لروسيا، وأنا واثقة من أنه سيواصل القيام بذلك».
وقالت المسؤولة الأوروبية إنها والرئيس ماكرون طلبا من الرئيس الصيني بذل «مزيد من الجهود للحد من تسليم السلع ذات الاستخدام المزدوج لروسيا»، وهي سلع يمكن استخدامها لأغراض مدنية وعسكرية «والتي ينتهي بها الأمر في ساحة المعركة» بأوكرانيا.
وتريد باريس تشجيع الصين على «استخدام الأوراق التي في حوزتها» للضغط على الرئيس الروسي والمساهمة في إيجاد مخارج لهذا النزاع. وتعد باريس أن الصين هي الجهة الوحيدة القادرة على التأثير على بوتين لحمله على إعادة النظر في حربه على أوكرانيا. بالمقابل، تؤكد بكين أنها «محايدة» وتسعى لحل سلمي طرحت خطته قبل أكثر من عام، وهو ما رفضه الغربيون وكذلك كييف. غير أن الكثيرين يشكون في قدرة ماكرون أو الأوروبيين على حمل شي على التخلي عن بوتين الذي من المرتقب أن يزور العاصمة الصينية قبيل نهاية الشهر الحالي.
وبعد ظهر أمس، كرمت فرنسا الرئيس الصيني باحتفال رسمي في باحة قصر «الإنفاليد»، حيث وصل إليه الرئيسان معاً، وقد عُزف نشيدا البلدين وحيّا الرئيسان الرسميين والدبلوماسيين الذين دعوا إلى الاحتفال. بعدها عاد ماكرون إلى قصر الإليزيه ليلحق به الرئيس الصيني مصحوباً بخيالة الحرس الجمهوري وبكوكبة من الدراجين. وفي قصر الإليزيه، بدأت سلسلة جديدة من الاجتماعات التي خصصت للعلاقات الثنائية وللمسائل الدولية بما فيها ملف الحرب في غزة وملف تايوان والمخاوف من التوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي والخلافات مع عدد من البلدان المشاطئة. كذلك كان من المنتظر أن يثير ماكرون 3 ملفات تزعج بكين؛ وهي ملف الإيغور المسلمين وملف التبت وملف هونغ كونغ وحقوق الإنسان.