«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

تنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن
TT

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

يبدو أن نجاح الأجهزة الأمنية الأردنية في القبض على خلية تنظيم داعش داخل مخيمات اللجوء السوري في الأردن، تثير الكثير من التساؤلات حول خطورة استثمار الجماعات المسلحة مخيمات اللجوء الإنساني لتحقيق عمليات اختراق وتجنيد للحواضن الشعبية المختلفة. وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال التالي: هل تشكل «داعش» تهديدًا حقيقيًا للأردن في ظل التهديدات المتواصلة التي تطلقها له، ما حجمها وطبيعتها؟
لا شك أن العالم أصبح اليوم بأسره ساحة مفتوحة لانتقال مَن يحلو لهم أن يتسموا بـ«المجاهدين» عبر الحدود، بأفكارهم وأجسادهم وأفعالهم غير مكترثين بالحدود التي يصفونها بـ«صنيعة الاستعمار / سايكس بيكو». ولقد كسروها بالآيديولوجيا عبر مختلف الحواضن (الاجتماعية والفكرية والدينية والأمنية والعسكرية) مستخدمين العالم الافتراضي، ثم الواقعي، لنشرها واعتبارها ساحة مشروعة لأعمالهم العنيفة، حتى باتت آيديولوجيا «فقه الدماء» معولمة عبر انتشار مؤيديها وأنصارها وفروع الجماعات التي تؤمن بها وأفعالها في مختلف أنحاء العالم.
تعتبر الساحة الأردنية كغيرها من ساحات الدول، عرضة لتهديدات الجماعات المسلحة، إذ أحبطت الأجهزة الأمنية عددا كبيرًا من المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات «إرهابية»، في حين نجح تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» في تنفيذ ثلاث هجمات في الماضي غير البعيد استهدفت فنادق مدنية، ذهب ضحيتها نحو 60 شخصًا وجرح العشرات.
إلا أن الساحة الأردنية خصوصية تختلف عن غيرها من الدول الأخرى، حيث ارتبطت الكثير من القيادات الفكرية والميدانية بها، وهذه القيادات حاضرة بقوة إلى يومنا في المشهد العسكري والأمني والسياسي في المنطقة.
وبالتالي، فإن المعركة الأمنية بين أجهزة الدولة والناشطين من الجماعات المسلحة في أوجها. والمقاربة تتخذ مسار الرصد والمتابعة والملاحقة الأمنية والقانونية، إذ نشهد كيف أن الاعتقالات مستمرة وترتفع وتيرتها مع تجدد التهديدات أو المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات أو عمليات تجنيد واستقطاب، كما تشهد أروقة محكمة أمن الدولة عشرات القضايا المتعلقة بالتنظيمات «الإرهابية».
ونشير هنا، إلى أن الأردن شكّل بالفعل حاضنة للأفكار وصناعة القيادات المتطرّفة، ويعزا ذلك إلى عوامل جيو - سياسية واجتماعية ودينية وغير ذلك. فالأردن من الدول المجاورة للأراضي الفلسطينية المحتلة، ولديها ارتباط قانوني إداري بفلسطين منذ «مؤتمر أريحا» عام 1949م، واستمر لفترة طويلة امتدت حتى لمرحلة ما بعد الاحتلال الصهيوني، جرى فكه عام 1988م بقرار من الملك الراحل الحسين بن طلال، بناءً على طلب من الدول العربية، على اعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
فضلاً إلى ذلك، ثمة جملة من الأسباب المولّدة للعنف والإرهاب التي تزامنت مع الدولة القطرية والنظم الشمولية، في فترات طويلة وصفت بالاستبداد والقمع والتنكيل، واستئثار السلطة والثروة بأيدي شريحة صغيرة تتوارثها.
وفي حقبة الثّمانينات أسهم «الجهاد الأفغاني» ضدّ الاحتلال السوفياتي في إعطاء زخمٍ كبير للمدارس المتطرفة، التي شارك فيها عبد الله عزّام، أحد أهم أقطاب ومنظّري التطرف، وهو الأردني المتحدّر من أصلٍ فلسطيني، وعمل على تأسيس «مكتب الخدمات»، منذ وصوله الى أفغانستان عام 1984.
تمكَّن عزام من استقطاب عدد كبير من الراغبين في «الجهاد» من شتى أنحاء العالم الإسلامي ومنها الأردن حيث بلغ عدد الأردنيين نحو الألف، وشكلت هذه الأعداد نواة حركية التطرف المعاصرة في الأردن. ثم، عقب حرب الخليج الثانية جاء من الخليج عدد من أتباع التيارات المتشددة، وبالنتيجة شهد عقد التسعينات انطلاقة التطرف الحركي الأردني. وهنا لا بد من ذكر أنه سبق أن أسّس محمد سالم الرحّال في بداية الثمانينات تنظيم «الجهاد الإسلامي» في الأردن، الذي يعدّ امتدادا للتنظيم الذي أسس في مصر. إلا أن الأجهزة الأمنية أقدمت على اعتقال أعضائه وتفكيك التنظيم وحله عام 1984م، وكانت بداية انتشار كتب مثل «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، وغيره من أدبيات تنظيمي «الجهاد الإسلامي» و«الجماعة الإسلامية» في الأردن.
ويعتبر أبو محمد المقدسي، أحد أهم منظري التطرف الحركي في الأردن، بالاشتراك مع أبو قتادة الفلسطيني، إذ تبلورت على يديهما هذه المدرسة في الأردن بعدما كانت مشتتة من دون روابط آيديولوجية واضحة، وتنظيمية صريحة. ولقد شهد الأردن عشرات الخلايا المتطرفة في مطلع عقد التسعينات، وفي مقدمتها جماعة «جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين»، إلا أن الولادة الحقيقيّة لهذا التيار كانت مع ما عرف بقضية «بيعة الإمام» عام 1994م، وكان من أبرز أعضائه «أبو محمد المقدسي» و«أبو مصعب الزرقاوي» اللذين التقيا في باكستان في أوائل التسعينات، واتفقا على بدء العمل في الأردن فور عودتهما. وهو ما تحقق من خلال الدروس وتوزيع الكتب والنشرات التي كان يكتبها المقدسي، والتي تدعو إلى إقامة «الدولة الإسلامية» وفق منهجٍ ثوريٍّ، يستند إلى تكفير النّظام، والتحضير لتغييره عن طريق العنف الثوري، وقد نجحت هذه الحركة في استقطاب عددٍ من الأعضاء وتجنيدهم في صفوف الحركة، فشهدت التسعينات انتشارًا واسعًا للتيار المتطرف في معظم المدن الأردنيّة، كعمّان والزرقاء والسّلط وإربد ومعان.
وعلى الرغم من العداء الظاهر والتنافر الواضح بين النظام السياسي الأردني الجماعات والتيارات المتطرفة الأردنية، استطاع الطرفان تبني علاقة على نحو ما في التعامل أحدهما مع الآخر. ومعلوم أن ما أسهم في انتشار التيارات المتطرفة ونموها مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت على جملة من التحولات الأساسية في طبيعة النظام السياسي الأردني، ففي نهاية الثمانينات (1989) دخل الأردن أزمة اقتصادية خانقة أسفرت عن تدني سعر صرف الدينار ورفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، الأمر الذي أدخل الأردن في برنامج التصحيح الاقتصادي الهيكلي، وإخضاعه المباشر لسياسات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهو ما أفضى بالتالي، إلى إلحاق الاقتصاد السياسي في الأردن بالسوق الرأسمالية العالمية، وحلول عصر العولمة. وكان الأردن قبل هذه الأزمة يعيش حالة من الأحكام العرفية (الطوارئ) التي تتسم بمنع التعددية السياسية وغياب الحياة البرلمانية والديمقراطية.
وتزامن مع حرب الخليج الثانية عودة مئات الأردنيين الذين شاركوا في «الجهاد الأفغاني» لإخراج السوفيات من أفغانستان، وهو ما أطلق عليه ظاهرة «الأفغان العرب»، حيث ظهر في هذه الفترة عدد من الجماعات المتطرفة المسلحة، كـ«جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين» وصولاً إلى حركة «بيعة الإمام» 1994، التي مثلت ذروة التطرف الحركي في الأردن، وضمت في صفوفها يومذاك أبو محمد المقدسي وكذلك أبو مصعب الزرقاوي.
خلال التسعينات حوّلت عشرات الجماعات المتطرفة إلى محكمة أمن الدولة، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شكّلت تحولاً في مسار الحركة المتطرفة في البلاد تمثل بظهور تيارين أساسين: الأول، يسعى إلى الاندماج في تيار التطرّف العالمي ويعتبر الزرقاوي أبرز ممثليه، وكان يتبنى استراتيجية قتالية لا مجال فيها للتصالح مع النظام الأردني والنظم العالمية. والثاني، اتجاه يميل إلى انتهاج مسار سلمي في الدعوة، ولا يرى ضرورة الدخول في مواجهة مسلحة مع النظام في الوقت الحالي ويمثله أبو محمد المقدسي، على الرغم من اشتراك التيارين في مجمل الآيديولوجيا النظرية المتعلقة بالواقع الاجتماعي والسياسي، كتكفير الأنظمة بآيديولوجياتها المختلفة، سواء كانت ديمقراطية أو اشتراكية أو قومية.
وتنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية، هي: ضواحي العاصمة عمّان وبخاصة المناطق الشرقية، والمدن ذات الصفة الشعبية، مثل الزرقاء والرصيفة - التي سكنها الزرقاوي والمقدسي - والسلط ومعان وإربد، حيث كان ينتمي معظم الذين اعتقلوا على خلفية الانتماء لهذه الجماعات إلى هذه المناطق أو المدن.
ثم إن مثل هذه التيارات ظهرت في عمّان قديمًا، وبخاصة في المناطق الشعبية وبعض المخيمات الفلسطينية وبالذات، مخيم الوحدات ومخيم البقعة، حيث أبصر النور خلال فترة الثمانينات والتسعينات بعض التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها ما عرف باسم تنظيم «جيش محمد»، الذي شكله أشخاص كانوا عادوا من المشاركة في القتال في أفغانستان، وقاموا بالتخطيط وتنفيذ عدة عمليات متفرقة استهدفت بعض دور السينما وأماكن بيع الخمور، واستهدفوا قساوسة وضابط مخابرات في منطقة بيادر وادي السير. وبرز من مدينتي عمّان المسؤول الشرعي في تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» عمر جمعة الذي اشتهر باسم «أبو أنس الشامي»، الذي قتل عام 2004م في غارة أميركية في العراق، كما اشتهر أيضا رئيس الهيئة الشرعية لدى تنظيم «جبهة النصرة لأهل الشام»، الدكتور سامي العريدي، الذي كان يسكن في عمّان الغربية، وبالتحديد في منطقة بيادر وادي السير.
أما عن مدينتي الزرقاء والرصيفة، من أبرز المدن التي ينشط فيها هذا الفكر المتطرف وانطلقت منهما جماعة «بيعة الإمام» التي أسسها المقدسي والزرقاوي. ويذكر أن الزرقاوي اسمه الحقيقي أحمد فضيل نزال الخلايلة واختار لقب «أبو مصعب الزرقاوي» كناية عن أن أصله من مدينة الزرقاء. ثم إن معظم الذين قتلوا في العراق كانوا يسكنون هاتين المدينتين، كما أن الذين قتلوا الدبلوماسي الأميركي كانوا يقطنون الرصيفة، ومحاولة «الخلية» التي خططت لاغتيال عدد من ضباط المخابرات منها أيضا.
وأما ما يتعلق بالشمال، وتحديدًا محافظة إربد وبعض القرى المحيطة بها، كان عدد من المنظّرين الثانويين يقطنونها. وعلى رأس هؤلاء عبد القادر شحادة الطحاوي، المعروف باسم «أبو محمد الطحاوي»، وكذلك الشيخ عمر مهدي زيدان، وأشقاؤه، وهو يتولى حاليًا مسؤولية هيئة المعاهد الشرعية في تنظيم داعش ومقره الموصل، وكان شقيقه محمود قد قتل في وزيرستان (بغرب باكستان) بواسطة الطائرات الأميركية، وكان عضو مجلس الهيئة الشرعية في جماعة طالبان باكستان، وله شقيق آخر اسمه إبراهيم مكث في سجن غوانتانامو ست سنوات على خلفية اعتقاله في أفغانستان بتهمة الانتماء لـ«القاعدة». أضف إلى هؤلاء محمد الزهيري، الذي يطلق عليه لقب «شاعر القاعدة» وهو يسكن في إربد.
أما عن العلاقة التي تربط المتطرفين في الأردن، الذين يصفون أنفسهم بـ«مجتمع الموحدين» من ناحية، والجماعات المتطرفة المسلحة في العراق وسوريا وفي مناطق أخرى من ناحية ثانية، لا تعدو في أغلب الأحوال أن تكون علاقة تلتقي في الأفكار ومنهجية العمل، ولا يوجد أي علاقة تنظيمية.
وبالنسبة لهذه المجموعات قد يصح أن توصف بأنها شبكة علاقات اجتماعية منتشرة في بعض المحافظات والمدن، وتصبح علاقة الفرد تنظيمية فور أن يقرر الالتحاق بالجماعات خارج الأردن، لأن من يتولى عملية التجنيد وتقديم الدعم اللوجيستي، لا بد وأن يحظى بعلاقة تنظيمية تنسق وترتب العملية، ونسبتهم لا تتجاوز الواحد في المائة من مجموعهم.
إن آيديولوجيا «فقه الدماء» أصبحت بالفعل عابرة للحدود دون قيود على حركتها وسط تنامي نشاطاتها عبر العالم الافتراضي في الشبكة العنكبوتية.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟