«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

تنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن
TT

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

«فقه الدماء» عابر الحدود.. حالة الأردن

يبدو أن نجاح الأجهزة الأمنية الأردنية في القبض على خلية تنظيم داعش داخل مخيمات اللجوء السوري في الأردن، تثير الكثير من التساؤلات حول خطورة استثمار الجماعات المسلحة مخيمات اللجوء الإنساني لتحقيق عمليات اختراق وتجنيد للحواضن الشعبية المختلفة. وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال التالي: هل تشكل «داعش» تهديدًا حقيقيًا للأردن في ظل التهديدات المتواصلة التي تطلقها له، ما حجمها وطبيعتها؟
لا شك أن العالم أصبح اليوم بأسره ساحة مفتوحة لانتقال مَن يحلو لهم أن يتسموا بـ«المجاهدين» عبر الحدود، بأفكارهم وأجسادهم وأفعالهم غير مكترثين بالحدود التي يصفونها بـ«صنيعة الاستعمار / سايكس بيكو». ولقد كسروها بالآيديولوجيا عبر مختلف الحواضن (الاجتماعية والفكرية والدينية والأمنية والعسكرية) مستخدمين العالم الافتراضي، ثم الواقعي، لنشرها واعتبارها ساحة مشروعة لأعمالهم العنيفة، حتى باتت آيديولوجيا «فقه الدماء» معولمة عبر انتشار مؤيديها وأنصارها وفروع الجماعات التي تؤمن بها وأفعالها في مختلف أنحاء العالم.
تعتبر الساحة الأردنية كغيرها من ساحات الدول، عرضة لتهديدات الجماعات المسلحة، إذ أحبطت الأجهزة الأمنية عددا كبيرًا من المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات «إرهابية»، في حين نجح تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» في تنفيذ ثلاث هجمات في الماضي غير البعيد استهدفت فنادق مدنية، ذهب ضحيتها نحو 60 شخصًا وجرح العشرات.
إلا أن الساحة الأردنية خصوصية تختلف عن غيرها من الدول الأخرى، حيث ارتبطت الكثير من القيادات الفكرية والميدانية بها، وهذه القيادات حاضرة بقوة إلى يومنا في المشهد العسكري والأمني والسياسي في المنطقة.
وبالتالي، فإن المعركة الأمنية بين أجهزة الدولة والناشطين من الجماعات المسلحة في أوجها. والمقاربة تتخذ مسار الرصد والمتابعة والملاحقة الأمنية والقانونية، إذ نشهد كيف أن الاعتقالات مستمرة وترتفع وتيرتها مع تجدد التهديدات أو المحاولات الفاشلة في تنفيذ هجمات أو عمليات تجنيد واستقطاب، كما تشهد أروقة محكمة أمن الدولة عشرات القضايا المتعلقة بالتنظيمات «الإرهابية».
ونشير هنا، إلى أن الأردن شكّل بالفعل حاضنة للأفكار وصناعة القيادات المتطرّفة، ويعزا ذلك إلى عوامل جيو - سياسية واجتماعية ودينية وغير ذلك. فالأردن من الدول المجاورة للأراضي الفلسطينية المحتلة، ولديها ارتباط قانوني إداري بفلسطين منذ «مؤتمر أريحا» عام 1949م، واستمر لفترة طويلة امتدت حتى لمرحلة ما بعد الاحتلال الصهيوني، جرى فكه عام 1988م بقرار من الملك الراحل الحسين بن طلال، بناءً على طلب من الدول العربية، على اعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
فضلاً إلى ذلك، ثمة جملة من الأسباب المولّدة للعنف والإرهاب التي تزامنت مع الدولة القطرية والنظم الشمولية، في فترات طويلة وصفت بالاستبداد والقمع والتنكيل، واستئثار السلطة والثروة بأيدي شريحة صغيرة تتوارثها.
وفي حقبة الثّمانينات أسهم «الجهاد الأفغاني» ضدّ الاحتلال السوفياتي في إعطاء زخمٍ كبير للمدارس المتطرفة، التي شارك فيها عبد الله عزّام، أحد أهم أقطاب ومنظّري التطرف، وهو الأردني المتحدّر من أصلٍ فلسطيني، وعمل على تأسيس «مكتب الخدمات»، منذ وصوله الى أفغانستان عام 1984.
تمكَّن عزام من استقطاب عدد كبير من الراغبين في «الجهاد» من شتى أنحاء العالم الإسلامي ومنها الأردن حيث بلغ عدد الأردنيين نحو الألف، وشكلت هذه الأعداد نواة حركية التطرف المعاصرة في الأردن. ثم، عقب حرب الخليج الثانية جاء من الخليج عدد من أتباع التيارات المتشددة، وبالنتيجة شهد عقد التسعينات انطلاقة التطرف الحركي الأردني. وهنا لا بد من ذكر أنه سبق أن أسّس محمد سالم الرحّال في بداية الثمانينات تنظيم «الجهاد الإسلامي» في الأردن، الذي يعدّ امتدادا للتنظيم الذي أسس في مصر. إلا أن الأجهزة الأمنية أقدمت على اعتقال أعضائه وتفكيك التنظيم وحله عام 1984م، وكانت بداية انتشار كتب مثل «الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، وغيره من أدبيات تنظيمي «الجهاد الإسلامي» و«الجماعة الإسلامية» في الأردن.
ويعتبر أبو محمد المقدسي، أحد أهم منظري التطرف الحركي في الأردن، بالاشتراك مع أبو قتادة الفلسطيني، إذ تبلورت على يديهما هذه المدرسة في الأردن بعدما كانت مشتتة من دون روابط آيديولوجية واضحة، وتنظيمية صريحة. ولقد شهد الأردن عشرات الخلايا المتطرفة في مطلع عقد التسعينات، وفي مقدمتها جماعة «جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين»، إلا أن الولادة الحقيقيّة لهذا التيار كانت مع ما عرف بقضية «بيعة الإمام» عام 1994م، وكان من أبرز أعضائه «أبو محمد المقدسي» و«أبو مصعب الزرقاوي» اللذين التقيا في باكستان في أوائل التسعينات، واتفقا على بدء العمل في الأردن فور عودتهما. وهو ما تحقق من خلال الدروس وتوزيع الكتب والنشرات التي كان يكتبها المقدسي، والتي تدعو إلى إقامة «الدولة الإسلامية» وفق منهجٍ ثوريٍّ، يستند إلى تكفير النّظام، والتحضير لتغييره عن طريق العنف الثوري، وقد نجحت هذه الحركة في استقطاب عددٍ من الأعضاء وتجنيدهم في صفوف الحركة، فشهدت التسعينات انتشارًا واسعًا للتيار المتطرف في معظم المدن الأردنيّة، كعمّان والزرقاء والسّلط وإربد ومعان.
وعلى الرغم من العداء الظاهر والتنافر الواضح بين النظام السياسي الأردني الجماعات والتيارات المتطرفة الأردنية، استطاع الطرفان تبني علاقة على نحو ما في التعامل أحدهما مع الآخر. ومعلوم أن ما أسهم في انتشار التيارات المتطرفة ونموها مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت على جملة من التحولات الأساسية في طبيعة النظام السياسي الأردني، ففي نهاية الثمانينات (1989) دخل الأردن أزمة اقتصادية خانقة أسفرت عن تدني سعر صرف الدينار ورفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، الأمر الذي أدخل الأردن في برنامج التصحيح الاقتصادي الهيكلي، وإخضاعه المباشر لسياسات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهو ما أفضى بالتالي، إلى إلحاق الاقتصاد السياسي في الأردن بالسوق الرأسمالية العالمية، وحلول عصر العولمة. وكان الأردن قبل هذه الأزمة يعيش حالة من الأحكام العرفية (الطوارئ) التي تتسم بمنع التعددية السياسية وغياب الحياة البرلمانية والديمقراطية.
وتزامن مع حرب الخليج الثانية عودة مئات الأردنيين الذين شاركوا في «الجهاد الأفغاني» لإخراج السوفيات من أفغانستان، وهو ما أطلق عليه ظاهرة «الأفغان العرب»، حيث ظهر في هذه الفترة عدد من الجماعات المتطرفة المسلحة، كـ«جيش محمد» و«الأفغان الأردنيين» وصولاً إلى حركة «بيعة الإمام» 1994، التي مثلت ذروة التطرف الحركي في الأردن، وضمت في صفوفها يومذاك أبو محمد المقدسي وكذلك أبو مصعب الزرقاوي.
خلال التسعينات حوّلت عشرات الجماعات المتطرفة إلى محكمة أمن الدولة، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شكّلت تحولاً في مسار الحركة المتطرفة في البلاد تمثل بظهور تيارين أساسين: الأول، يسعى إلى الاندماج في تيار التطرّف العالمي ويعتبر الزرقاوي أبرز ممثليه، وكان يتبنى استراتيجية قتالية لا مجال فيها للتصالح مع النظام الأردني والنظم العالمية. والثاني، اتجاه يميل إلى انتهاج مسار سلمي في الدعوة، ولا يرى ضرورة الدخول في مواجهة مسلحة مع النظام في الوقت الحالي ويمثله أبو محمد المقدسي، على الرغم من اشتراك التيارين في مجمل الآيديولوجيا النظرية المتعلقة بالواقع الاجتماعي والسياسي، كتكفير الأنظمة بآيديولوجياتها المختلفة، سواء كانت ديمقراطية أو اشتراكية أو قومية.
وتنتشر الجماعات المتطرفة في الأردن بشكل رئيسي في خمس مناطق ومدن أساسية، هي: ضواحي العاصمة عمّان وبخاصة المناطق الشرقية، والمدن ذات الصفة الشعبية، مثل الزرقاء والرصيفة - التي سكنها الزرقاوي والمقدسي - والسلط ومعان وإربد، حيث كان ينتمي معظم الذين اعتقلوا على خلفية الانتماء لهذه الجماعات إلى هذه المناطق أو المدن.
ثم إن مثل هذه التيارات ظهرت في عمّان قديمًا، وبخاصة في المناطق الشعبية وبعض المخيمات الفلسطينية وبالذات، مخيم الوحدات ومخيم البقعة، حيث أبصر النور خلال فترة الثمانينات والتسعينات بعض التنظيمات المتطرفة وعلى رأسها ما عرف باسم تنظيم «جيش محمد»، الذي شكله أشخاص كانوا عادوا من المشاركة في القتال في أفغانستان، وقاموا بالتخطيط وتنفيذ عدة عمليات متفرقة استهدفت بعض دور السينما وأماكن بيع الخمور، واستهدفوا قساوسة وضابط مخابرات في منطقة بيادر وادي السير. وبرز من مدينتي عمّان المسؤول الشرعي في تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» عمر جمعة الذي اشتهر باسم «أبو أنس الشامي»، الذي قتل عام 2004م في غارة أميركية في العراق، كما اشتهر أيضا رئيس الهيئة الشرعية لدى تنظيم «جبهة النصرة لأهل الشام»، الدكتور سامي العريدي، الذي كان يسكن في عمّان الغربية، وبالتحديد في منطقة بيادر وادي السير.
أما عن مدينتي الزرقاء والرصيفة، من أبرز المدن التي ينشط فيها هذا الفكر المتطرف وانطلقت منهما جماعة «بيعة الإمام» التي أسسها المقدسي والزرقاوي. ويذكر أن الزرقاوي اسمه الحقيقي أحمد فضيل نزال الخلايلة واختار لقب «أبو مصعب الزرقاوي» كناية عن أن أصله من مدينة الزرقاء. ثم إن معظم الذين قتلوا في العراق كانوا يسكنون هاتين المدينتين، كما أن الذين قتلوا الدبلوماسي الأميركي كانوا يقطنون الرصيفة، ومحاولة «الخلية» التي خططت لاغتيال عدد من ضباط المخابرات منها أيضا.
وأما ما يتعلق بالشمال، وتحديدًا محافظة إربد وبعض القرى المحيطة بها، كان عدد من المنظّرين الثانويين يقطنونها. وعلى رأس هؤلاء عبد القادر شحادة الطحاوي، المعروف باسم «أبو محمد الطحاوي»، وكذلك الشيخ عمر مهدي زيدان، وأشقاؤه، وهو يتولى حاليًا مسؤولية هيئة المعاهد الشرعية في تنظيم داعش ومقره الموصل، وكان شقيقه محمود قد قتل في وزيرستان (بغرب باكستان) بواسطة الطائرات الأميركية، وكان عضو مجلس الهيئة الشرعية في جماعة طالبان باكستان، وله شقيق آخر اسمه إبراهيم مكث في سجن غوانتانامو ست سنوات على خلفية اعتقاله في أفغانستان بتهمة الانتماء لـ«القاعدة». أضف إلى هؤلاء محمد الزهيري، الذي يطلق عليه لقب «شاعر القاعدة» وهو يسكن في إربد.
أما عن العلاقة التي تربط المتطرفين في الأردن، الذين يصفون أنفسهم بـ«مجتمع الموحدين» من ناحية، والجماعات المتطرفة المسلحة في العراق وسوريا وفي مناطق أخرى من ناحية ثانية، لا تعدو في أغلب الأحوال أن تكون علاقة تلتقي في الأفكار ومنهجية العمل، ولا يوجد أي علاقة تنظيمية.
وبالنسبة لهذه المجموعات قد يصح أن توصف بأنها شبكة علاقات اجتماعية منتشرة في بعض المحافظات والمدن، وتصبح علاقة الفرد تنظيمية فور أن يقرر الالتحاق بالجماعات خارج الأردن، لأن من يتولى عملية التجنيد وتقديم الدعم اللوجيستي، لا بد وأن يحظى بعلاقة تنظيمية تنسق وترتب العملية، ونسبتهم لا تتجاوز الواحد في المائة من مجموعهم.
إن آيديولوجيا «فقه الدماء» أصبحت بالفعل عابرة للحدود دون قيود على حركتها وسط تنامي نشاطاتها عبر العالم الافتراضي في الشبكة العنكبوتية.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.