مستقبل يتداخل فيه الدين والعلم والثقافة والسياسة... والشعر خارجه

الغياب الشعري عن المشهد ولَّد -حسب الكاتب- تداعيات عدة أبرزها صعود الرواية وفرض نفسها فناً جماهيرياً

مستقبل يتداخل فيه الدين والعلم والثقافة والسياسة... والشعر خارجه
TT

مستقبل يتداخل فيه الدين والعلم والثقافة والسياسة... والشعر خارجه

مستقبل يتداخل فيه الدين والعلم والثقافة والسياسة... والشعر خارجه

الهامش والمتن، الطرف والمركز، الشعبي والنخبوي؛ ثنائيات يمكن إطلاقها على حوارية الكاتب محمد العباس للثقافة العربية، خلال ما يقارب الأربعين عاماً، في كتابه «السيناريو الدنيوي للعالم»؛ الذي يأتي في إطار مرافعة عن المستقبل، وتأطير للصيغ التي يتخذها.
«مقالات لا يربطها بعضها ببعض سوى ذات كاتبها»؛ إذ اختارها بعناية؛ لتمثِّل توجهاً فكريّاً محدداً، يفضي إلى صياغة نظرية شمولية للقادم من المستقبل؛ حيث وضع بداخلها الأجناس الأدبية والميدياوية، والعلوم والمعارف الإنسانية، إضافة إلى الدين ومكانته الاجتماعية والثقافية، في ظل صراع هائل للسيطرة على العقل والوجدان.
السرد، السينما، الصورة، الصحوة، الدين، النقد، الفلسفة، جميعها تحضر بدرجات متفاوتة، بحسب حاجة الكتاب ورغبته في توجيه الخطاب؛ لتشكِّل فيما بينها فسيفساء من المقاربات الفكرية الثقافية التي تستدعي العربي وغير العربي؛ بغرض رسم صورة مستقبلية لواقع العالم؛ خصوصاً بعد أزمات الربيع العربي، وفائض الدماء التي انهمرت، مستحضراً عبارة أدورنو: «لم يعد من الممكن كتابة الشعر بعد أوشفيتز»؛ حيث الاستثناء الكبير واللافت؛ يتمثل في الشعر الذي جاء نصيبه الإبعاد عن الفسيفساء الثقافية التي أوجدها.
في ظل غياب الشعر وتلاشيه عن المشهد، يستعيد الكاتب سيرة الصحوة: «منذ أن اقترنت مفردة (الحداثة) بمفهوم الثقافة في السعودية إبَّان الثمانينات من القرن الماضي»؛ حيث «تمثِّل معيارية الجودة والحضور والكفاءة الأدبية»، مستحضراً الصراع بين الغذامي والسريحي، حول الأسبقية في إذكاء الصراع وإشعاله، مؤكداً أن السريحي هو الذي بدأ الصراع، ببحثه الموسوم بـ«شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد»، عام 1983 الذي جاء قبل كتاب عبد الله الغذامي «الخطيئة والتكفير» الصادر عام 1985، وهما اللحظتان الفارقتان والمؤسِّستان للحالة الراهنة اليوم.
الغياب الشعري عن المشهد ولَّد تداعيات؛ أبرزها صعود الرواية، وفرض نفسها فناً جماهيريّاً، إذ هي ابنة الحاضر، والفن الأسهل، وصاحبة المقروئية الأعلى، والانتشار الكبير. في المقابل تضاءل حضور الأجناس الأخرى، وعلى رأسها الكتابات الشعرية التي فشلت في استثمار دموية الربيع العربي، وحالة الدمار المرافقة لأحداثه، فلم تستطع التعبير عن المأساوية الجماعية، مكتفية بالنظر إلى داخل الفرد، وهو ما اعتبره مؤشرّاً على عودة الرومانسية الحالمة التي استعادها مع استدعائه لمرحلة الصحوة وصراعاتها، واعتبرها نقطة الانطلاق ناحية المستقبل، متناسياً أن العودة إلى الماضي؛ تمثِّل ارتكاساً وعودة إلى زمنٍ شملَه التحول؛ فأفل ولم يعد له وجود، وهو ما أكده بنفسه؛ حيث «إعلان موت الصحوة ما هو إلا خطوة ابتدائية لمشوار طويل بتنا نتلمسه حتى في تغيير المناهج التعليمية، وذلك ضمن خطة بعيدة المدى».
غياب الشعري وصعود السردي؛ دفع السينما أيضاً لاحتلال المشهد القادم، فهي بإمكانياتها الكبيرة، وقدراتها على مراودة العقل ومراوغته؛ تستطيع التكيُّف مع التحولات (العميقة) للمجتمعات، وهو ما دفع الكاتب إلى تقديم قراءات لأبرز أفلامها، خلال السنوات الماضية، مع تضاؤل قراءاته للرواية، وإغفاله شبه التام للقراءات الشعرية.
السيناريو الدنيوي المرسوم للعالم مستقبَلاً -من وجهة نظر الكاتب- يحتوي جميع الأجناس الأدبية باستثناء الشعر، كما يحتوي العلوم والمعارف المختلفة، وأيضاً يحتوي نقد تلك الأجناس والعلوم؛ فالتطور لا يكتمل إلا بوجود ما يعضده ويساهم في تلافيه لأخطائه، معتبراً جميع تلك الأدبيات والمعارف داخلة في باب الخطاب السياسي، إذ هو المحرِّك الفعلي لما يحدث من تغيرات اجتماعية وتنموية وحقوقية.
التقابلات والثنائيات يمكن اختصارها ضمن «الشعبي/ النخبوي»؛ فهي التي تقود العالم حاليّاً، وتكتب السيناريو المستقبلي لوجوده؛ حيث الصراع بين الأجناس الأدبية من ناحية، والواقع الاجتماعي من ناحية أخرى، أفرز معطيات ومتغيِّرات، ستؤدي في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة هذا العالم التي سوف تتعزز عبر نتائج العلوم والمعارف الإنسانية؛ كالفلسفة وعلم الاجتماع واللسانيات وسواها.
ثمة تساؤل حول السيناريو الذي رسمه الكاتب وأطَّره، ضمن رؤية لحال الثقافة العربية، خلال الأربعين عاماً الماضية، فهل هو على قدر من الموثوقيَّة، ويمتلك ما يكفي من شواهد تعضده، وتؤكد مصداقيته على أرض الواقع؟ ليست هنالك إجابة نهائية على السؤال المطروح، فالسيناريو المقدَّم لا يتوقف عند نقطة ما، من نقاط التماس بين الثقافة والدين والسياسة؛ إذ هي خليط متداخل مؤثر ومتأثر، مع بقاء الديني الأكثر حظّاً ونفوذاً، في محاولته استجلاب الثقافي والاجتماعي، بإضافتهما إلى خطابه.
الشعرية في هيئتها الكتابية، أبعدها محمد العباس عن السيناريو المستقبلي، ورغم ذلك؛ كتابته تشي بوجودها في جميع الحقول المعرفية والفنية؛ حيث الشعرية لديه لا تختص بالكتابة، فيمكن رؤيتها في السينما، والنقد، والفلسفة، والحياة الاجتماعية، والدينية، وبهذا فغياب الشعر لن يعني غياب مفاعيله وآثاره، وهو ما يتناقض مع مقولة أدورنو حول عدم جدوى الكتابة الشعرية، ويقترب من رأي إيف بونفوا القائل بـ«ضرورة الشعر بعد تلك الفاجعة وأهمية حضور الشاعر».



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.