في منزل والدتها المطل على الجامعة الأميركية في بيروت، وقبالة البحر الهادئ بعد غضب العواصف، تبكي الطبيبة منى نصر الله وهي تستعيد ذكرياتها مع الأم الأديبة إميلي أبي راشد، زوجة الكيميائي فيليب نصر الله، الحاملة كنية عائلته. تقول لـ«الشرق الأوسط» إن الدمع لا يختزل الحزن دائماً، فقد ينهمر إفراطاً في الرهبة. تتحدث بحرارة عن والدتها الراحلة منذ أربع سنوات، في 14 مارس (آذار) 2018 عن عمر 86 سنة. وعزاؤها أن «والدتها ساطعة الأثر، مس الانطفاء فقط جسدها».
في سن السادسة عشرة، سافرت الابنة الصغرى لإميلي نصر الله إلى كندا، حيث أشقاء والدتها الذين أطلقت عليهم تسمية «طيور أيلول». تخصصت لاحقاً في الطب بين لبنان وأميركا؛ وبعد إكمال دراستها، دخلت الجامعة الأميركية ولا تزال تعمل فيها منذ 20 عاماً. وتطرق اللقاء معها إلى العلاقة بالأم، عشقها للحياة، تمردها وحريتها، وقرارها اختيار بيروت برغم جذورها القروية، إلى موقفها من الهجرة والكتابة للطفل.
وتصف العلاقة بينهما بـ«الحميمة»، فالابنة كانت «آخر العنقود». ومر وقت طويل مع الأم من دون أن تدرك الابنة ملكة أمها الأدبية. تقول: «مرت سنوات قبل أن ألمس النعمة المحاطة فيها. فأمي لم تكن أديبة مشهورة فحسب، بل إنسانة حرة تربطها علاقة خاصة بالوجود. تتعامل مع الأشياء والبشر بروحانية، وتعطي من نفسها. أحمد الله على خلق الأمهات، لكن إميلي بالنسبة إلى كانت مصدر ثراء لم أدركه. أعترف بأنني لم أعرف عنها كل شيء. أنا أواصل اكتشافها. ثمة كتابات لها لا نزال نقرأها، غيرها القصص المنشورة والمخطوطات غير المنشورة، الموجودة في مكتبة الجامعة اليسوعية. كما لديها مجلدات من مذكرات كتبتها على مدى سنوات. إرثها ذخيرة لنا».
لم تصل إميلي نصر الله إلى ما بلغته على طبق من فضة. تتذكر الابنة مرحلة الشقاء، وبفخر تستعيد حكاية معاناتها وإصرارها على التعلم في مجتمع امتهن آنذاك تحجيم المرأة. تتعلم منها تقدير الإنسان وما يقوم به في سبيل أحلامه. فالحياة بالنسبة إليها لم تكن يوماً مضمونة في الجيب. وهي لم تنل شيئاً سوى بالسعي والجهد الشاق.
لمنى نصر الله الكثير لتقوله. وهي تستعيد دائماً آثار والدتها. فتذكر بأنها ربت أربعة أولاد على الاستقلالية: «لم تمارس الضغوط علينا وتركتنا نختار المهن التي نحبها. لوهلة، تمنيت لو أنها جرتني إلى عالم الأدب، فأنا من عشاقه، لكنها تركتني أختار الطب. أذكر أياماً كانت تسارع فيها إلى إطفاء الضوء رأفة بعيني في ليالٍ سهرت فيها والكتاب بين يدي».
إميلي نصر الله
ولدت منى نصر الله في بيروت، المدينة التي نزحت إليها والدتها، ابنة قرية الكفير، من دون أن تفارقها جذورها وصوت الفلاحة في داخلها. نمت في أولادها التعلق بالأرض واحترام الطبيعة. وتذكر أنها كانت صغيرة حين اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975، فتعذرت زيارة قرية والدتها الحدودية آنذاك؛ لكن المنزل كان يشهد ما يشبه الاحتفالية كلما وصلت من القرية أرطال خشبية تحتوي على الزيت والزيتون البلدي. تقول: «الكفير هي القرية الأم، برغم أن انتمائي لجهة الأب تعود إلى زحلة. جرفنا الانتماء الحميم وتغذى فينا. صرت ألاحظه بشكل واعٍ مؤخراً، حين أصرت إميلي على أن تحول البيت الذي كبرت فيه إلى بيت تراثي باسم (جمعية بيت طيور أيلول). حلمها تحقق قبل مفارقتها الحياة في 13 مارس (آذار) 2018، وجرى الافتتاح في سبتمبر (أيلول) مع صدور كتاب (المكان) عن (دار قنبز)».
تتابع منى نصر الله: «بدأت تتكثف زياراتي إلى الكفير بعد رحيلها. كأنني في مكان أعرفه مع أنني لم أتعرف إليه جيداً. أذكر الجلسة على المصطبة والذهول بثلوج جبل الشيخ. هذه ذكريا تي».
ننتقل للحديث عن بيروت. تقول إن المدينة كانت خيارها، لتنوع ثقافاتها وانفتاحها على العالم. كتبت الكثير عنها، وعن المرة الأولى التي زارتها فيها مع أمها في سن الثانية عشرة. ماذا كانت لتكتب عن المدينة بعد نكبتها اليوم؟ تجيب: «لم تكن لتغير نظرتها إلى بيروت، بل كانت لتشعر بحزن عميق على مصيرها».
كتاباتها المناهضة للهجرة كانت تعبيراً عنها كفرد لا خطاباً موجهاً للجماعة. لطالما لمحت لبنان على شكل مشتل، يربي أبناءه ثم يصدرهم إلى الخارج. تؤكد ابنتها رفض الأديبة لأي موقف متعصب حيال قضية أو فكرة، «ففي النهاية ثمة واقع، والأفراد الذين يغادرون للعمل ومطاردة الفرص هم جزء من بيروت الواسعة».
نشأت ابنة إميلي نصر الله على وجود عائلة خالها في كندا. زارتها للمرة الأولى في سن المراهقة فاستمالتها حينها أرض المهجر. تقول: «نكبر على أن الهجرة بعض من أقدارنا. بقيت أمي هنا فيما سافر جميع أشقائها. بعد مدة، بدأت أرى تجذر الهجرة جيلاً بعد جيل في شجرة العائلة. بقيت والدة أمي في الكفير، من بين جميع أخواتها المهاجرين إلى أميركا. وجدتها أيضاً من عائلة تشبعت فيها الهجرة منذ منتصف القرن التاسع عشر. وأشقاء أمي غادروا واحداً تلو الآخر. ترجمت هذه القسوة في أدبها».
نتحدث قليلاً عن إميلي المناصرة للمرأة، وكتاباتها عنها، وتصفها بـ«المتمردة على كل أشكال القمع، بحق الرجل أو المرأة، ولأن مجتمعنا يقمع النساء، فكان انحيازها بديهياً إليهن في كتاباتها». تروي معاناة الأم مع التحيز في المدرسة، حين كانت صفوف البنات تنتهي بتحصيل الـ«سيرتيفيكا»، ثم يمكثن في المنزل بانتظار العريس، بينما يكمل الصبيان الدراسة: «لم ترد التوقف عن الذهاب إلى المدرسة، فأعادت الصف نفسه مرات عدة، حتى راسلت خالها في أميركا فمدها بالدعم المادي لإكمال تعليمها في مدرسة داخلية بالشويفات، ثم شقت طريقها».
كتبت عن انطلاقتها من بيروت بكتاب «في البال»، وردت فضل نساء فتحن لها الأبواب بكتاب «نساء رائدات». بعدها كتبت مقالات في «الصياد» حين قابلت سعيد فريحة وعرفها على مجتمع الصحافة. ظلت على يقين بأنها لن تحصل على الأشياء بسهولة.
وماذا عن الكتابة للطفل التي بدأتها بعد الأمومة؟ تبتسم الابنة الصغرى التي أصبحت اليوم أماً لولدين وتذكر أنها كانت في العاشرة حين كتبت والدتها «شادي الصغير»، فطلبت منها الرسم بما يناسب كل نص. تتابع: «بعد كتابة الأطفال، بدأت كتابة الأحفاد، وكتبت للمراهقين في نهاية الثمانينات، فأهدتني كتاب (يوميات هر) الذي كتبته بعد اجتياح 1982 واحتراق منزلنا، فبقي الهر بعد الخراب ليشهد على قصة عن الحرب تحاكي سن المراهقة».