«يوتيوب»... الرواية بين فضاءين سرديين

«يوتيوب»... الرواية بين فضاءين سرديين
TT

«يوتيوب»... الرواية بين فضاءين سرديين

«يوتيوب»... الرواية بين فضاءين سرديين

الروائي خضير فليح الزيدي، يكشف لنا في روايته الجديدة «يوتيوب» عن لعبة سردية جديدة في بناء روايته هذه لم يكن يعتمدها من قبل. فالرواية تظل تتأرجح بين فضاءين سرديين: السماء والأرض، أو ثنائية الأعلى والأسفل.
فالرواية تكشف عن قيام رحلة فضائية افتراضية إلى كوكب المريخ من قبل عدد من المهمشين والمنفيين العراقيين، حيث وجدوا ملاذاً آمناً لدى ملك ملوك المريخ الذي منحهم المأوى والأمان بعيداً عن احتمالات اصطدام كوكب منفلت بالأرض قريباً.
إلا أن الروائي سرعان ما يفقد هذا الخيط المهم من خيوط الحبكة السردية، الذي كان يمكن له أن يجعل الرواية تتخذ لها مكاناً بين روايات الخيال العلمي (science fiction)، ويحول الرواية بعد ذلك تدريجياً إلى رواية بحث عن الغائب. والغائب هنا هو البروفسور عبد الكريم علوان، العالم الأميركي في علوم الفضاء، والعراقي الأصل، وينهض الضابط العقيد عبد الله وهو شاعر أيضاً، بمسؤولية البحث عنه، وتسليمه إلى العدالة، لأنه الوحيد القادر على إنقاذ كوكب الأرض من الفناء، عن طريق تغيير مسار الكوكب المنفلت. وبذا تتخذ الرواية بشكل كامل مساراً واقعياً واستقصائياً للبحث عن شخصية هذا العالم الإشكالي، المسمى «عبقريتو» و«قدحة» أيضاً.
ويعتمد البحث عن الغائب مجموعة من المجسات والقنوات التي تهدف إلى الكشف عن مكان الغائب، المطلوب للعدالة، ويمثل برنامج «اليوتيوب» الإلكتروني السجل الذي يحفظ للمهمشين والمنفيين إلى الفضاء حيواتهم من الاندثار، وبذا يصبح سجل التاريخ رهيناً بـ«اليوتيوب». وهكذا يشغل برنامج «اليوتيوب» الصدارة في ذلك لأنه يختزن مجموعة تسجيلات وبرامج وخطباً كان يبثها بين حين وآخر العالم عبد الكريم علوان، ومن هنا جاءت تسمية الرواية باسم «يوتيوب»، بوصفه عتبة نصية دالة، حسب الناقد الفرنسي جيرار جينيت، حيث يستمد المحقق العقيد عبد الله الكثير من البيانات مما نشره العالم العراقي الأصل عبد الكريم علوان أو عبد الكريم قدحة. وفي البرامج التي كان يبثها العالم العراقي إشارات إلى الروزنامة الفلكية وبرقيات لرسوم ورموز مرسلة من قبله، وأخرى مستلمة من جمهورية المريخ المتحدة، تشير إلى أن السفر إلى كوكب المريخ هو الحل النهائي لأزمات البشر على كوكب الأرض.
أما المصدر الآخر لبناء الوحدات السردية، فيتشكل من التقارير والملفات التي قدمها الوزير للضابط، وتلك التي كان يبعثها أعضاء الخلية التي شكلها المقدم عبد الله، وفي مقدمتهم المخبر «حمد الله»، الذي كان يتعقب خطى الهارب، ويتفحص الأماكن الافتراضية لوجوده. وبذا يمكن أن نقول إن الرواية تكتسب بعداً ميتا سردياً، من خلال الوثائق التي يقدمها «اليوتيوب»، ومن خلال تقارير أفراد خلية البحث، فضلاً عن الراوي الرئيسي المقدم عبد الله الذي ينهض بمهمة السرد ولملمة خيوط اللعبة السردية. كما لا يمكن أن نهمل ما سماه الروائي بـ«الراوي السعيد» الذي قد يشير إلى العالم العراقي عبد الكريم علوان. ولذا يمكن القول إن حبكة الرواية مرهونة إلى حد كبير بالمرويات التي كان يقدمها الراوي المركزي عبد الله، حيث كانت هذه الحبكة تتحرك أحياناً بصورة بطيئة، أو تتقطع وتتجمد بين حين وآخر لتضمين تقرير جديد من أعضاء خلية الأزمة، أو اكتشاف ملف جديد من ملفات معالي الوزير، أو معلومة جديدة من سلسلة برامج «اليوتيوب». ويشير الراوي السعيد إلى أنه سيكشف عن سر خطير لم يتم الكشف عنه بعد، سيكون له الأثر البالغ على مستقبل الحياة.
ويعمد الروائي إلى تقديم مجموعة من العتبات النصية، منها «ثلاث إشارات فقط» و«الأسئلة الأبدية» وبعض الصور والرموز المرسلة من جمهورية المريخ المتحدة إلى السيد العبقري عبد الكريم علوان، تشير إلى أن المهاجرين في جمهورية كوكب المريخ المتحدة، قد حصلوا على موافقة ملك ملوك المريخ على استضافة اللاجئين من سكان الأرض، بعد أن شكوا من الظلم الذي تعرضوا له في الأرض، وأنهم واثقون بأنهم سيجدون لدى ملك المريخ رحمة لقبول «هجرتهم»، في تناص مع قصة هجرة الصحابة إلى الحبشة، لأنه لا يظلم أحد في مملكته، وأنه بمثابة «نجاشي» المريخ.
يمكن القول إن السرد الواقعي الذي يقدمه سرد الضابط عبد الله المكلف بالبحث عن عالم الفضاء عبد الكريم علوان، قد نجح في توظيف ضمير السرد الأول (أنا) لإضفاء مصداقية على الأحداث الروائية، لأنه يتحدث عن وقائع ويوميات ملموسة، تعيد السرد الروائي إلى الأرض:
«أطل يومياً في الساعة الصباحية الأولى من العمل الوظيفي على الشارع العام المؤدي إلى ساحة الطيران بمركز العاصمة بغداد... من نافذة غرفة مكتبي المعلقة في الطابق الثالث، وبقسم المهمات الخاصة في وزارة الداخلية، أحاول أن أستسيغ طعم الحياة المر».
ويظل هذا السرد الواقعي هو السرد المهيمن في الرواية تقطعه مستويات سردية وميتاسردية، تتحرك بين هذين المستويين الأرضي والفضائي.
ففي الحلقة الأولى من حلقات السيد عبقريتو في «اليوتيوب»، نجد برقية من السيد عبقريتو يؤكد فيها وصول مجموعة المنفيين والمهمشين المكونة من ستين فرداً جمهورية المريخ المتحدة عبر باص فضائي، في رحلة فتحت باب الهجرة لكل المنفيين والمضطهدين على كوكب الأرض.
ويشارك المطلوب للعدالة عبد الكريم علوان العالم الأميركي، من أصول عراقية في السرد من خلال أحاديثه بتوظيف ضمير المتكلم أيضاً:
«أنا البروفسور عبد الكريم علوان، الرجل الأميركي من أصول عراقية، يلقبونني في العراق بكريم قدحة، الرجل الضاحك المبكي، فيما جمهوري في (اليوتيوب) يطلقون تسمية (عبقريتو الكائن الفضائي) لأن أذني طويلتان».
وتنشغل الرواية بحكاية التقرير المخيف عن احتمال اصطدام الكويكب المنفلت عن مدار المجموعة الشمسية وارتطامه بالأرض، مما قد يتسبب في دمارها. وهذه الفكرة، أي فناء الكرة الأرضية عند اصطدامها بالكويكب المنفلت، هي من الحكايات الشائعة في العالم، التي أثارت في فترات متفاوتة الكثير من المخاوف والهلع بين الناس، كما أنتجت هوليود عام 2009 فيلماً سينمائياً حول ذلك يحمل عنوان «التعرف» (Knowing)، يدور حول هذا الموضوع. وكانت قد انتشرت إشاعات كثيرة عام 2011 حول قرب نهاية العالم يوم 21 مايو (أيار) 2011 يدعمها بعض رجال الدين، ووجدت لها تجاوباً لدى الكثير من الناس ونقلتها الصحف مثل «النيويورك تايمز»، وأن الناس في جميع أرجاء البلاد قضوا الأيام الماضية وهم يسيرون ويودعون العالم بصورة نهائية قبل يوم السبت، يوم الحساب، حيث يتوقعون أن يصعدوا إلى السماء في عملية تعرف باسم «النشوة»، أما غير المؤمنين فسيتركون ليهلكوا مع العالم. وتعتمد هذه الحكاية على نبوءة من الكتاب المقدس تفترض أن العالم سينتهي بعد سبعة آلاف سنة من طوفان نوح. ويدور فيلم «التعرف» حول علاقة الفيزياء الكونية بعلم التنجيم من خلال ملاحقة عمل الشخصية الرئيسية بالفيلم، وهو الأستاذ جون كويستلر، أستاذ الفيزياء الكونية في إحدى الجامعات الأميركية يقوم بتمثيل دوره الممثل نيكولاس كيج.
ولا يعني ذلك أن مؤلف رواية «يوتيوب» قد كان على اطلاع على هذه الشائعة، أو أنه قد شاهد الفيلم، ذلك أن مثل هذه التخيلات الإنسانية يمكن أن توجد في الكثير من المجتمعات البشرية، وفي مراحل تاريخية متباينة.
ومن المهم بالنسبة للقارئ، ولإشباع أفق توقعه لمعرفة مسار عملية البحث عن العالم الفضائي عبد الكريم علوان التي انشغلت الحبكة بها، بعد أن أهملت وللأسف خيطاً سردياً يرتبط برواية الخيال العلمي، يتعلق بالهجرة إلى المريخ. إذْ نكتشف أن مهمة البحث هذه تفشل، مما يضطر المسؤول عن عملية البحث المقدم عبد الله إلى تلفيق حكاية مزورة لتمريرها على معالي الوزير عن طريق الزعم أن فريق البحث في القضية (2030) قد نجح في إلقاء القبض على الهدف المطلوب، من خلال إقناع أحد المشبوهين بالقيام بهذا الدور، حيث ألقى المشبوه خطبة لتطمين الناس، أعلن فيها بوصفه العالم الفضائي عبد الكريم علوان أو عبقريتو عن انتهاء الخطر، وأن كل شيء على ما يرام وتحت السيطرة، وهي نهاية غير موفقة، وأقل ما يقال عنها إنها ميلودرامية وملفقة، وربما كوميدية لأنها تمثل ضحكاً على ذقون القراء، مثلما هي ضحك على ذقون معالي الوزير.
تظل رواية «يوتيوب» لعبة سردية طريفة وذكية، يدشن فيها الروائي مساراً جديداً في كتاباته الروائية، يختلف عن الكثير من الحبكات الأرضية التي عودنا عليها في رواياته السابقة.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.