لماذا لم يلتقِ العملاقان فولتير وروسو؟

«الصداقة المستحيلة» بين فيلسوفَي التنوير

جان جاك روسو  -  فولتير
جان جاك روسو - فولتير
TT

لماذا لم يلتقِ العملاقان فولتير وروسو؟

جان جاك روسو  -  فولتير
جان جاك روسو - فولتير

استمتعت كثيراً بقراءة كتاب جديد للمفكر الفرنسي المعروف روجيه - بول دروا. وهو للعلم باحث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية وأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس. بالإضافة إلى ذلك، فهو المسؤول منذ سنوات طويلة عن تقديم الكتب الفلسفية على صفحات «الملحق الثقافي» لجريدة «لوموند». وبالتالي، فهو من كبار المشتغلين في مجال الصحافة الثقافية، وبالأخص الفلسفية في فرنسا. بالإضافة إلى كل ذلك فهو ذاته فيلسوف لا يستهان به. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً كبيراً بعنوان «أساتذة الفكر: عشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين» (ماذا يعني مصطلح التفكيك بالنسبة لدريدا، أو موت الإنسان بالنسبة لفوكو، أو نظرية الفعل التواصلي بالنسبة لهابرماس، أو الفلسفة الذرائعية البراغماتية بالنسبة لويليام جيمس)، إلخ...
لكن دعونا نتوقف الآن عند أحد آخر إصداراته بعنوان «يا سيد أنا أكرهك، أنا لا أطيقك أبداً! فولتير وروسو: الصداقة المستحيلة». وهي العبارة التي وجهها جان جاك روسو إلى فولتير من خلال رسالة حامية بعد أن اكتشف محاولاته المستمرة لزعزعته والإيقاع به. الكتاب مؤلَّف على هيئة رواية قصصية، وأكاد أقول بوليسية ممتعة جداً. ولكنها ليست مختلقة من صنع الخيال، وإنما ترتكز على وقائع حقيقية من حياة فولتير وروسو. من المعلوم أنهما من عمالقة فلاسفة الأنوار في فرنسا، بل وفي أوروبا كلها إبان القرن الثامن عشر. بل إنهما العملاقان الكبيران. ولكن من غير المعلوم كثيراً أن جان جاك روسو كان تلميذاً لفولتير في البداية ومعجباً به جداً. كان تلميذه عن بُعْد لأنهما لم يلتقيا في الحياة أبداً على عكس ما نتوهم. صحيح أنهما كانا يعيشان في ذات العصر، بل وفي ذات البلد وأحياناً في ذات المدينة ولكنهما لم يلتقيا شخصياً على الإطلاق. وهذا شيء مدهش ويدعو للاستغراب فعلاً.
ينبغي القول بأن فولتير يكبر روسو من حيث السن بعشرين سنة تقريباً. وبالتالي فهو بمثابة أستاذ أو معلم له وللجيل كله. وقد كان قدوته ومثله الأعلى؛ لأنه حارب الأصولية بشدة في حين أنه لم يكن مضطراً إلى ذلك لأنه ينتمي إلى طائفة الأكثرية المهيمنة ولا يعاني شخصياً من أي اضطهاد مذهبي أو تمييز طائفي على عكس روسو الذي كان أقلوياً بروتستانتياً. ولكن على الرغم من ذلك، لم يتردد فولتير لحظة واحدة في مهاجمة طائفته الكاثوليكية البابوية عندما كانت تكفّر الآخرين وتعتبرهم زنادقة خارجين على «صحيح الدين». بل وكانت تقتلهم وتضطهدهم وتلاحقهم باعتبارهم زنادقة. انظروا ما حصل لعائلة «كالاس» البروتستانتية الأقلوية في مدينة تولوز، حيث قتل المتعصبون الكاثوليكيون رب العائلة «جان كالاس» بشكل مرعب ومن دون أي سبب إلا الحقد الطائفي أو المذهبي. وقد دافع فولتير عن هذه العائلة المنكوبة بكل قوة وتصدى لمضطهديهم. وعلى أثر ذلك نشر كتابه الخالد «رسالة في التسامح». وانظروا أيضاً إلى مجزرة «سانت بارتيليمي» الرهيبة التي مزقت البروتستانتيين إربا إرباً في ليلة ما فيها ضوء... وهي التي حياها بابا روما قائلاً «الحمد لله والشكر لله: اليوم انتصر الإيمان الصحيح على الزندقة»! ثم أمر البابا بإطلاق الاحتفالات والزغاريد في كل أنحاء روما احتفالاً بهذا اليوم المجيد! وأما سلفه البابا بيوس الخامس، فقال لملكة فرنسا الكاثوليكية «لا ينبغي بأي شكل وتحت أي ظرف العفو عن هؤلاء الزنادقة البروتستانتيين أعداء الله. ينبغي استئصالهم عن بكرة أبيهم لأنهم ينجّسون الأرض الطاهرة للملكة الفرنسية الكاثوليكية الظافرة. إنهم كفار خارجون عن صحيح الدين»... ضد كل هذا التعصب الأعمى نهض فولتير وخاض معركته الكبرى. وهنا بالضبط تكمن عظمته. وأقسم يميناً بالله بأنه سيجتث الطائفية من جذورها. ورفع عندئذ الشعار الشهير «لنسحق الأصولية الظلامية، لنسحق الطائفية، لنسحق العار والشنار». ثم أضاف «متى ستشرق الأنوار على باريس مثلما أشرقت على لندن وكل بلاد الإنجليز؟ استفيقوا أيها الفرنسيون».
عندما اطلع المثقف الأقلوي البروتستانتي جان جاك روسو على ذلك أُعجب بفولتير كل الإعجاب واعتبره أستاذه ومعلمه، وبادر إلى مراسلته وتقديم كل آيات الاحترام والتقدير له. ينبغي العلم أنه عندما كان فولتير في أوج شهرته ومجده كان جان جاك روسو لا يزال شخصاً مغموراً لا يعرفه أحد لأنه لم يكن قد نشر شيئاً بعد. ولكن بعد أن نشر كتبه الأساسية لاحقاً كـ«العقد الاجتماعي»، و«إميل أو في التربية»، ورواية «هيلويز الجديدة»... إلخ، أصبح مشهوراً جداً. وأصبح دون أن يدري أو دون أن يقصد منافساً لفولتير على عرش الآداب الفرنسية. وقد أزعج ذلك فولتير كل الإزعاج وفاجأه... نقول ذلك ونحن نعلم مدى الحساسيات بين المثقفين، سواء في الساحة الفرنسية أم في الساحة العربية. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. هل رأيتم امرأة تعترف بجمال امرأة أخرى؟ مستحيل. وكذلك الأمر لن تروا مثقفاً واحداً يعبر عن إعجابه بكتابات مثقف آخر إلا نادراً، وبخاصة إذا كان من جيله!
ولكن هناك أسباباً أخرى لهذا الكره الشديد، أو قل لهذا الحب الكبير الذي انقلب إلى عكسه. من بين هذه الأسباب، اختلاف الطبيعة النفسية لكل منهما. ففولتير كان شخصاً اجتماعياً ناجحاً جداً في الحياة. كان يصادق الملوك ويعاشرهم دون أي عقدة نفسية، بل وكانت الملوك هي التي تطلب صداقته. هذا في حين أن جان جاك روسو كان شخصاً متوحداً انعزالياً يعشق الانصهار في أحضان الطبيعة بعيداً عن لجة الحياة وضجيج البشر. لم يكن اجتماعياً على الإطلاق ولا ناجحاً في الحياة الاجتماعية. وهناك فرق آخر أساسي، هو أن فولتير كان شخصاً غنياً جداً في حين أن روسو كان فقيراً جداً. كان فولتير غنياً جداً في حين أن روسو كان ينتظر أن يعطوه بعض الترجمات أو النوتات الموسيقية لكي ينسخها بخطه الجميل ويدفعوا له عليها بعض القروش لكي يستطيع أن يعيش من يوم ليوم. وبالتالي، فشتان ما بين الثرى والثريا! فولتير كان يلعب بالملايين، إذا جاز التعبير. وهذا يعني أنه كان ينتمي إلى طبقة الناس «الذين فوق»، أي نخبة النخبة، في حين أن روسو كان ينتمي إلى طبقة الناس «الذين تحت»، أي أغلبية الشعب. كان فولتير يحب حياة الرفاهية والأبهة والاستمتاع بكل ما لذ وطاب في الحياة. أما روسو فكان يحب العيش إلى جانب الطبيعة والبراءة والبساطة ولقمة العيش النظيفة التي تسد الرمق ليس إلا. ثم بشكل خاص، كان روسو يحب حياة النزاهة والصدق والاستقامة الأخلاقية. كان «قديساً علمانياً» كما وصفه أحدهم. أما فولتير فبينه وبين القداسة والطهارة مسافات. وإلا كيف استطاع أن يصبح أحد أغنى أغنياء العصر؟ كان فولتير يستطيع أن يضع جان جاك روسو في جيبته الصغيرة ويتلاعب به كما يشاء، لو أراد. وفي حين أن روسو كان ملاحقاً من مدينة إلى مدينة، بل ومن قرية إلى قرية، كان فولتير يسكن القصور وحوله جيش من الخدم والحشم!
ولكن على الرغم من كل ذلك كانت هناك نقطة أساسية تجمع بينهما: هي محاربة الأصولية الظلامية والتعصب الديني الأعمى. ومعلوم أن الأصولية كانت تمثل مشكلة العصر الكبرى؛ لأن الأحقاد الطائفية كانت لا تزال ملتهبة جداً في ذلك الزمان. كانت لا تزال مشتعلة. وكانت تمزق المجتمع الواحد، بل وحتى المدينة الواحدة إن لم نقل الشارع الواحد. ما كان أي كاثوليكي يطيق جاره البروتستانتي أو العكس. كان الصراع آنذاك على أشده بين جنيف عاصمة المسيحية البروتستانتية - وروما عاصمة المسيحية الكاثوليكية. الآن انتهت هذه المشكلة ولم يعد لها أي وجود في أوروبا المتحضرة المستنيرة. ويعود الفضل في ذلك إلى نضالات فولتير وروسو وبقية فلاسفة الأنوار. وبالتالي، فعلى الرغم من كل الخلافات والتناقضات كانت تجمع بين الرجلين معركة التنوير الأساسية. وكان فولتير على رأسها، يقودها. هنا تكمن عظمته، بالإضافة إلى كونه كاتباً عبقرياً.
- لماذا لا يلتقيان؟
كانت إحدى السيدات الأرستقراطيات الباريسيات النافذات قد طرحت هذا السؤال على دلامبير صديق روسو وفولتير في آن معاً: لماذا لا يلتقيان؟ لماذا يكرهان بعضهما بعضاً إلى مثل هذا الحد؟ ثم أضافت: والله إن خلافهما تحول إلى مصيبة كبرى ألّمت بمعسكر الأنوار والتنوير.
فنحن ينبغي أن نتجمع ونحشد كل قوانا ضد المعسكر الآخر. نحن لا نزال أقلية في مواجهة جحافل الأصولية والأصوليين، الطائفية والطائفيين. ولسنا في حاجة إلى انقسامات فيما بيننا. فأجابها دلامبير على هذا النحو: إني متعجب ومتألم مثلك يا سيدتي. كنت أتمنى لو يلتقيان ولو لمرة واحدة. وقد حاولت أن أجمع بينهما أكثر من مرة، ولكني فشلت. صحيح أن الاختلافات بين فولتير وروسو عديدة. ولكن هذه الاختلافات لا تبرر كل هذا العداء بين الرجلين. فهما يتلاقيان على نقطة أساسية: محاربة الظلامية الدينية وتنوير العقول. ثم قال لها دلامبير، وهو ذاته أحد كبار فلاسفة الأنوار «كما قلت لك يا سيدتي، لقد حاولت المستحيل أن أجمع بينهما على مائدة غداء أو عشاء أو حتى فنجان قهوة ولكنهما يرفضان رفضاً قاطعاً. في الواقع أن الرفض آت من جهة روسو أكثر. لماذا؟ لأن فولتير يحب حياة الترف والبذخ والبطر، في حين أن روسو يكره ذلك كرهاً شديداً. فهو في قرارة نفسه يعتبر ذلك خيانة للشعب الذي يعيش حياة البؤس والفقر المدقع الذي يصل إلى حد المجاعة. فولتير أراد أن يجمع ثروة كبيرة وقد توصل إلى ذلك ببراعته وأساليبه الخاصة. هذا في حين أن روسو لا يريد جمع أي ثروة ولا يخطر ذلك على باله مطلقاً. كل ثروات العالم وبهرجاته ووجاهاته لا تساوي عنده شيئاً. روسو يفتخر باستمرار بأنه فقير ويصر على أن يظل فقيراً مثل أغلبية الشعب الذي يتضور جوعاً. إنه من الشعب البسيط وللشعب البسيط الطيب الكادح الباحث طيلة النهار عن لقمة العيش التي قد يجدها أو لا يجدها. إنه ينصهر فيه قلباً وقالباً. ولهذا السبب؛ رفض جان جاك روسو الرواتب الضخمة من ملوك فرنسا وإنجلترا وبروسيا التي كانت ستؤمّن له العيش المريح مدى الحياة. وظل يعيش من عمل يومه أو عرق جبينه مترجماً أو ناسخاً للنوتات الموسيقية حتى تكاد تعمى عيناه. أما فولتير، كما قلنا، فينتمي إلى طبقة النخبة أو نخبة النخبة. هنا يوجد فرق أساسي بين الرجلين؛ وحتماً لهذا السبب رفض روسو أن يلتقي به. فهو ينتمي إلى عالم آخر غير عالمه.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.