لماذا لم يلتقِ العملاقان فولتير وروسو؟

«الصداقة المستحيلة» بين فيلسوفَي التنوير

جان جاك روسو  -  فولتير
جان جاك روسو - فولتير
TT

لماذا لم يلتقِ العملاقان فولتير وروسو؟

جان جاك روسو  -  فولتير
جان جاك روسو - فولتير

استمتعت كثيراً بقراءة كتاب جديد للمفكر الفرنسي المعروف روجيه - بول دروا. وهو للعلم باحث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية وأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس. بالإضافة إلى ذلك، فهو المسؤول منذ سنوات طويلة عن تقديم الكتب الفلسفية على صفحات «الملحق الثقافي» لجريدة «لوموند». وبالتالي، فهو من كبار المشتغلين في مجال الصحافة الثقافية، وبالأخص الفلسفية في فرنسا. بالإضافة إلى كل ذلك فهو ذاته فيلسوف لا يستهان به. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً كبيراً بعنوان «أساتذة الفكر: عشرون فيلسوفاً صنعوا القرن العشرين» (ماذا يعني مصطلح التفكيك بالنسبة لدريدا، أو موت الإنسان بالنسبة لفوكو، أو نظرية الفعل التواصلي بالنسبة لهابرماس، أو الفلسفة الذرائعية البراغماتية بالنسبة لويليام جيمس)، إلخ...
لكن دعونا نتوقف الآن عند أحد آخر إصداراته بعنوان «يا سيد أنا أكرهك، أنا لا أطيقك أبداً! فولتير وروسو: الصداقة المستحيلة». وهي العبارة التي وجهها جان جاك روسو إلى فولتير من خلال رسالة حامية بعد أن اكتشف محاولاته المستمرة لزعزعته والإيقاع به. الكتاب مؤلَّف على هيئة رواية قصصية، وأكاد أقول بوليسية ممتعة جداً. ولكنها ليست مختلقة من صنع الخيال، وإنما ترتكز على وقائع حقيقية من حياة فولتير وروسو. من المعلوم أنهما من عمالقة فلاسفة الأنوار في فرنسا، بل وفي أوروبا كلها إبان القرن الثامن عشر. بل إنهما العملاقان الكبيران. ولكن من غير المعلوم كثيراً أن جان جاك روسو كان تلميذاً لفولتير في البداية ومعجباً به جداً. كان تلميذه عن بُعْد لأنهما لم يلتقيا في الحياة أبداً على عكس ما نتوهم. صحيح أنهما كانا يعيشان في ذات العصر، بل وفي ذات البلد وأحياناً في ذات المدينة ولكنهما لم يلتقيا شخصياً على الإطلاق. وهذا شيء مدهش ويدعو للاستغراب فعلاً.
ينبغي القول بأن فولتير يكبر روسو من حيث السن بعشرين سنة تقريباً. وبالتالي فهو بمثابة أستاذ أو معلم له وللجيل كله. وقد كان قدوته ومثله الأعلى؛ لأنه حارب الأصولية بشدة في حين أنه لم يكن مضطراً إلى ذلك لأنه ينتمي إلى طائفة الأكثرية المهيمنة ولا يعاني شخصياً من أي اضطهاد مذهبي أو تمييز طائفي على عكس روسو الذي كان أقلوياً بروتستانتياً. ولكن على الرغم من ذلك، لم يتردد فولتير لحظة واحدة في مهاجمة طائفته الكاثوليكية البابوية عندما كانت تكفّر الآخرين وتعتبرهم زنادقة خارجين على «صحيح الدين». بل وكانت تقتلهم وتضطهدهم وتلاحقهم باعتبارهم زنادقة. انظروا ما حصل لعائلة «كالاس» البروتستانتية الأقلوية في مدينة تولوز، حيث قتل المتعصبون الكاثوليكيون رب العائلة «جان كالاس» بشكل مرعب ومن دون أي سبب إلا الحقد الطائفي أو المذهبي. وقد دافع فولتير عن هذه العائلة المنكوبة بكل قوة وتصدى لمضطهديهم. وعلى أثر ذلك نشر كتابه الخالد «رسالة في التسامح». وانظروا أيضاً إلى مجزرة «سانت بارتيليمي» الرهيبة التي مزقت البروتستانتيين إربا إرباً في ليلة ما فيها ضوء... وهي التي حياها بابا روما قائلاً «الحمد لله والشكر لله: اليوم انتصر الإيمان الصحيح على الزندقة»! ثم أمر البابا بإطلاق الاحتفالات والزغاريد في كل أنحاء روما احتفالاً بهذا اليوم المجيد! وأما سلفه البابا بيوس الخامس، فقال لملكة فرنسا الكاثوليكية «لا ينبغي بأي شكل وتحت أي ظرف العفو عن هؤلاء الزنادقة البروتستانتيين أعداء الله. ينبغي استئصالهم عن بكرة أبيهم لأنهم ينجّسون الأرض الطاهرة للملكة الفرنسية الكاثوليكية الظافرة. إنهم كفار خارجون عن صحيح الدين»... ضد كل هذا التعصب الأعمى نهض فولتير وخاض معركته الكبرى. وهنا بالضبط تكمن عظمته. وأقسم يميناً بالله بأنه سيجتث الطائفية من جذورها. ورفع عندئذ الشعار الشهير «لنسحق الأصولية الظلامية، لنسحق الطائفية، لنسحق العار والشنار». ثم أضاف «متى ستشرق الأنوار على باريس مثلما أشرقت على لندن وكل بلاد الإنجليز؟ استفيقوا أيها الفرنسيون».
عندما اطلع المثقف الأقلوي البروتستانتي جان جاك روسو على ذلك أُعجب بفولتير كل الإعجاب واعتبره أستاذه ومعلمه، وبادر إلى مراسلته وتقديم كل آيات الاحترام والتقدير له. ينبغي العلم أنه عندما كان فولتير في أوج شهرته ومجده كان جان جاك روسو لا يزال شخصاً مغموراً لا يعرفه أحد لأنه لم يكن قد نشر شيئاً بعد. ولكن بعد أن نشر كتبه الأساسية لاحقاً كـ«العقد الاجتماعي»، و«إميل أو في التربية»، ورواية «هيلويز الجديدة»... إلخ، أصبح مشهوراً جداً. وأصبح دون أن يدري أو دون أن يقصد منافساً لفولتير على عرش الآداب الفرنسية. وقد أزعج ذلك فولتير كل الإزعاج وفاجأه... نقول ذلك ونحن نعلم مدى الحساسيات بين المثقفين، سواء في الساحة الفرنسية أم في الساحة العربية. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. هل رأيتم امرأة تعترف بجمال امرأة أخرى؟ مستحيل. وكذلك الأمر لن تروا مثقفاً واحداً يعبر عن إعجابه بكتابات مثقف آخر إلا نادراً، وبخاصة إذا كان من جيله!
ولكن هناك أسباباً أخرى لهذا الكره الشديد، أو قل لهذا الحب الكبير الذي انقلب إلى عكسه. من بين هذه الأسباب، اختلاف الطبيعة النفسية لكل منهما. ففولتير كان شخصاً اجتماعياً ناجحاً جداً في الحياة. كان يصادق الملوك ويعاشرهم دون أي عقدة نفسية، بل وكانت الملوك هي التي تطلب صداقته. هذا في حين أن جان جاك روسو كان شخصاً متوحداً انعزالياً يعشق الانصهار في أحضان الطبيعة بعيداً عن لجة الحياة وضجيج البشر. لم يكن اجتماعياً على الإطلاق ولا ناجحاً في الحياة الاجتماعية. وهناك فرق آخر أساسي، هو أن فولتير كان شخصاً غنياً جداً في حين أن روسو كان فقيراً جداً. كان فولتير غنياً جداً في حين أن روسو كان ينتظر أن يعطوه بعض الترجمات أو النوتات الموسيقية لكي ينسخها بخطه الجميل ويدفعوا له عليها بعض القروش لكي يستطيع أن يعيش من يوم ليوم. وبالتالي، فشتان ما بين الثرى والثريا! فولتير كان يلعب بالملايين، إذا جاز التعبير. وهذا يعني أنه كان ينتمي إلى طبقة الناس «الذين فوق»، أي نخبة النخبة، في حين أن روسو كان ينتمي إلى طبقة الناس «الذين تحت»، أي أغلبية الشعب. كان فولتير يحب حياة الرفاهية والأبهة والاستمتاع بكل ما لذ وطاب في الحياة. أما روسو فكان يحب العيش إلى جانب الطبيعة والبراءة والبساطة ولقمة العيش النظيفة التي تسد الرمق ليس إلا. ثم بشكل خاص، كان روسو يحب حياة النزاهة والصدق والاستقامة الأخلاقية. كان «قديساً علمانياً» كما وصفه أحدهم. أما فولتير فبينه وبين القداسة والطهارة مسافات. وإلا كيف استطاع أن يصبح أحد أغنى أغنياء العصر؟ كان فولتير يستطيع أن يضع جان جاك روسو في جيبته الصغيرة ويتلاعب به كما يشاء، لو أراد. وفي حين أن روسو كان ملاحقاً من مدينة إلى مدينة، بل ومن قرية إلى قرية، كان فولتير يسكن القصور وحوله جيش من الخدم والحشم!
ولكن على الرغم من كل ذلك كانت هناك نقطة أساسية تجمع بينهما: هي محاربة الأصولية الظلامية والتعصب الديني الأعمى. ومعلوم أن الأصولية كانت تمثل مشكلة العصر الكبرى؛ لأن الأحقاد الطائفية كانت لا تزال ملتهبة جداً في ذلك الزمان. كانت لا تزال مشتعلة. وكانت تمزق المجتمع الواحد، بل وحتى المدينة الواحدة إن لم نقل الشارع الواحد. ما كان أي كاثوليكي يطيق جاره البروتستانتي أو العكس. كان الصراع آنذاك على أشده بين جنيف عاصمة المسيحية البروتستانتية - وروما عاصمة المسيحية الكاثوليكية. الآن انتهت هذه المشكلة ولم يعد لها أي وجود في أوروبا المتحضرة المستنيرة. ويعود الفضل في ذلك إلى نضالات فولتير وروسو وبقية فلاسفة الأنوار. وبالتالي، فعلى الرغم من كل الخلافات والتناقضات كانت تجمع بين الرجلين معركة التنوير الأساسية. وكان فولتير على رأسها، يقودها. هنا تكمن عظمته، بالإضافة إلى كونه كاتباً عبقرياً.
- لماذا لا يلتقيان؟
كانت إحدى السيدات الأرستقراطيات الباريسيات النافذات قد طرحت هذا السؤال على دلامبير صديق روسو وفولتير في آن معاً: لماذا لا يلتقيان؟ لماذا يكرهان بعضهما بعضاً إلى مثل هذا الحد؟ ثم أضافت: والله إن خلافهما تحول إلى مصيبة كبرى ألّمت بمعسكر الأنوار والتنوير.
فنحن ينبغي أن نتجمع ونحشد كل قوانا ضد المعسكر الآخر. نحن لا نزال أقلية في مواجهة جحافل الأصولية والأصوليين، الطائفية والطائفيين. ولسنا في حاجة إلى انقسامات فيما بيننا. فأجابها دلامبير على هذا النحو: إني متعجب ومتألم مثلك يا سيدتي. كنت أتمنى لو يلتقيان ولو لمرة واحدة. وقد حاولت أن أجمع بينهما أكثر من مرة، ولكني فشلت. صحيح أن الاختلافات بين فولتير وروسو عديدة. ولكن هذه الاختلافات لا تبرر كل هذا العداء بين الرجلين. فهما يتلاقيان على نقطة أساسية: محاربة الظلامية الدينية وتنوير العقول. ثم قال لها دلامبير، وهو ذاته أحد كبار فلاسفة الأنوار «كما قلت لك يا سيدتي، لقد حاولت المستحيل أن أجمع بينهما على مائدة غداء أو عشاء أو حتى فنجان قهوة ولكنهما يرفضان رفضاً قاطعاً. في الواقع أن الرفض آت من جهة روسو أكثر. لماذا؟ لأن فولتير يحب حياة الترف والبذخ والبطر، في حين أن روسو يكره ذلك كرهاً شديداً. فهو في قرارة نفسه يعتبر ذلك خيانة للشعب الذي يعيش حياة البؤس والفقر المدقع الذي يصل إلى حد المجاعة. فولتير أراد أن يجمع ثروة كبيرة وقد توصل إلى ذلك ببراعته وأساليبه الخاصة. هذا في حين أن روسو لا يريد جمع أي ثروة ولا يخطر ذلك على باله مطلقاً. كل ثروات العالم وبهرجاته ووجاهاته لا تساوي عنده شيئاً. روسو يفتخر باستمرار بأنه فقير ويصر على أن يظل فقيراً مثل أغلبية الشعب الذي يتضور جوعاً. إنه من الشعب البسيط وللشعب البسيط الطيب الكادح الباحث طيلة النهار عن لقمة العيش التي قد يجدها أو لا يجدها. إنه ينصهر فيه قلباً وقالباً. ولهذا السبب؛ رفض جان جاك روسو الرواتب الضخمة من ملوك فرنسا وإنجلترا وبروسيا التي كانت ستؤمّن له العيش المريح مدى الحياة. وظل يعيش من عمل يومه أو عرق جبينه مترجماً أو ناسخاً للنوتات الموسيقية حتى تكاد تعمى عيناه. أما فولتير، كما قلنا، فينتمي إلى طبقة النخبة أو نخبة النخبة. هنا يوجد فرق أساسي بين الرجلين؛ وحتماً لهذا السبب رفض روسو أن يلتقي به. فهو ينتمي إلى عالم آخر غير عالمه.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!