الرواية العربية في المكان الآخر

كتاب يدرس سبعة نماذج لروائيين عاشوا بعيداً عن أوطانهم

الرواية العربية في المكان الآخر
TT

الرواية العربية في المكان الآخر

الرواية العربية في المكان الآخر

يدرس الناقد المصري الدكتور رضا عطية في كتابه «الرواية العربية في المكان الآخر» الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، حضور المكان بملامحه وخصوصيته في عدد من النماذج الروائية التي كتبها روائيون عرب عاشوا بعيداً عن أوطانهم في دول أوروبية لفترات مكّنتهم من كتابة أعمال استلهموا فيها الأماكن التي أقاموا فيها وتركت آثارها في فضاء رواياتهم وحركة شخصياتها. ويسعى عطية خلال مباحث الكتاب الثلاثة ودراساته التي تفرعت عنها، لتأسيس مصطلح «المكان الآخر» مفاهيمياً بوصفه المكان المختلف -المهجر أو المنفى- في مقابل مصطلح «المكان الأول»، الموطن أو البلد الأم، مشيراً إلى أن «المكان الآخر» يمثل في الروايات التي اختارها فضاءً لهوية مختلفة بما يعنيه من معاني التفرد والغيرية، وما يتركه من إشارات على وجود مسافة تمايز ما تفصله أو تفرّقه عن الذات العربية المبدعة وموطنها الذي تشكلت فيه.
ركز عطية في كتابه على سبع روايات تأسست على حضور «المكان الآخر» فيها، منها ما ينتمي لكلاسيكيات الرواية العربية، مثل «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم (1938)، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس (1953)، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح (1968)، ومنها ما ظهر في الألفية الجديدة؛ مثل «روائح ماري كلير» للحبيب السالمي (2008)، و«القندس» لمحمد حسن علوان (2011)، و«الأجنبية» لعالية ممدوح (2013)، و«النبيذة» لإنعام كجه جي (2017)؛ وهي جميعها تركز على علاقة الذات، في فردانيتها وكينونتها الجمعية، بالآخر مكانياً وزمانياً.
تدور رواية «عصفور من الشرق» في حقبة شهدت فيها علاقة الذات العربية بالآخر الغربي عدداً من التحولات والتوترات جراء تعرض أوروبا خلال الفترة الكولونيالية لتبعات الأزمة الاقتصادية الكبرى التي ضربت العالم في ثلاثينات القرن العشرين، في حين تُمثِّل روايتا «الحي اللاتيني»، و«موسم الهجرة إلى الشمال» تبديات الحقبتين الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بامتياز، أما «روائح ماري كلير» فأقرب أن تكون تمثيلاً لعلاقة الذات بالآخر في فترة الحرب الباردة، في حين تعبّر رواية «الأجنبية» عن أزمة الذات في علاقتها بالآخر في ضوء الاستعمار الجديد، وهيمنة الإمبريالية الجديدة، بعد وقوع الوطن- المكان الأول، العراق، تحت الاحتلال الأميركي. أما رواية «النبيذة» لإنعام كجه جي، فتتناول علاقات الذات بالآخر المستعمر في الحقبة الكولونيالية وما بعدها في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، وصولاً إلى الوقت الراهن في العقد الثاني من الألفية الثالثة.
ويتقصى عطية في دراساته الاحتكاك الثقافي مع الآخر؛ ومحاولات الذات العربية استكشاف المكان الذي تعيش فيه بعيداً عن الوطن، وذلك بهدف التعرُّف عليه وعلى الآخر، كما يسعى لتلمُّس كينونة الذات العربية وهويتها الخاصة في إهاب عيشها بمكان آخر مغاير لمكانها الأول جغرافياً وثقافيّاً، ورصد تجليات اغترابها، وسعيها لاستعادة مكانها الأول، الوطن، من خلال الكتابة.
على الصعيد المكاني، يُمثِّل كُتّابُ الروايات السبعة بقاعاً ومواضع مختلفة في الوطن العربي؛ حيث ينتمي توفيق الحكيم إلى مصر التي هي بمثابة قلب الوطن العربي، وسهيل إدريس إلى لبنان الذي يمثِّل إقليم الشام. وتتعرض الرواية، على نحوٍ ما، لعلاقة لبنان وسوريا. أما عالية ممدوح وإنعام كجه جي فتنتميان إلى العراق الذي يمثِّل شمال الوطن العربي، وحضارة بلاد الرافدين العريقة، في حين يعبّر الأديب السعودي محمد حسن علوان عن الرواية الخليجية، والكاتب السوداني الطيب صالح عن جنوب الوطن العربي وبوابته على أفريقيا، والتونسي الحبيب السالمي عن الشمال الأفريقي والجانب الغربي من الوطن العربي. وفي مواجهة هذه الأماكن يتنوع المكان الآخر الحاضر في الروايات، مع استئثار فرنسا، وبخاصة العاصمة باريس، بالنصيب الأوفر، كما في «عصفور من الشرق»، و«الحي اللاتيني»، و«روائح ماري كلير»، و«الأجنبية» و«النبيذة»، وإن كانت «الأجنبية» تستحضر الولايات المتحدة الأميركية كمكان آخر مع فرنسا، وفي رواية «النبيذة» هناك أكثر من مدينة تحضر بوصفها مكاناً آخر مثل «كراتشي» الباكستانية، وفنزويلا. أما «موسم الهجرة إلى الشمال» فتتوجه نحو إنجلترا بوصفها مكاناً آخر ترتحل الذات إليه. أما «المكان الآخر» في رواية «القندس»، فهي الولايات المتحدة الأميركية، ومدينة «بورتلاند»، التي تحضر في فضاء السرد بشكل رئيسي، مع وجود أماكن عابرة، كالكثير من المدن الأوروبية والقاهرة.
ويعتمد عطية في كتابه على تحليل الخطاب الروائي والقراءة الثقافية التي تربط ما هو ظاهر من بنى فوقية وسياقات سوسيوثقافية بما هو عميق من بنى تحتية، كما يكشف عن الجدل الآيديولوجي وتوتر العلاقات في تجارب الذات العربية مع المكان الآخر الأجنبي المغاير والمختلف ثقافياً عن المكان الأول، وذلك دون أن يغفل البعد التقني في طرائق الكتابة وأسلوبيتها وارتباطها بالموضوع.
وعلى الرغم من أن وجود دراسات تناولت العلاقة بين الشرق والغرب، وأخرى عُنيت بما عُرِف بأدب المهجر، فإنّ كتاب «الرواية العربية في المكان الآخر» سعى إلى أن يضيف ويختلف عن الدراسات السابقة في هذا المنحى، حيث تتجاوز دراساته ما ارتكزت عليه معظم الكتابات السابقة في هذا الصدد والتي تركزت على قضية الصراع بين الشرق والغرب. وقد توسع عطية في تلمس تحولات الذات في المكان، وتمظهراته المتعددة وفضاءاته المتنوعة بما فيها «الجسد»، بالإضافة إلى أنه لم يغفل علاقة الزمان بالمكان وتأثيراتهما المتبادلة، وانعكاس ذلك على علاقة الشخوص بذواتهم ومكانهم، كما عمل على الربط بين التيمة والتقنيات المستعملة في التعبير عنها.
وحسبما يقول عطية، فإنّ «المكان، على حياديته الظاهرة وموضوعيته البادية، يبدو خاضعاً في تمثُّله للذات التي تعاينه، بمعنى أنّ ما قد يحمله المكان من قيم، كالجمال أو القبح، الأنس أو الوحشة، وما قد تحمله الذوات من مشاعر وانطباعات إزاء المكان، كالألفة أو الاغتراب، الانتماء أو اللا انتماء إنّما هو من صنع الذوات، ومن ثنايا وعيهم، فالمكان الواحد قد تتفاوت المشاعر نحوه وتتنوع الانطباعات إزاءه وتتمايز الرؤى حوله بتمايز مناظير الذوات الذين يتمثّلونه». وهكذا، فإن منظور الفرد نفسه للمكان الواحد قد يتغير ويتحول في تمثلاته له بتحولات الأزمنة والمواقف، ما يعني أن كينونة المكان وتَمثُّله، لا يمكن أن تتنصل من عنصر الزمان أو تنفصل عنه، فثمة وشيجة ضرورية بينهما.



الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
TT

الرياض تحتفي بمئوية كتاب «ملوك العرب» لأمين الريحاني

أمين الريحاني (الشرق الأوسط)
أمين الريحاني (الشرق الأوسط)

يعود المفكر والأديب والمؤرخ والرحالة والشاعر والرسام العربي اللبناني أمين الريحاني، إلى الواجهة مجدداً، بعد 85 عاماً على رحيله، من خلال احتفاء دارة الملك عبد العزيز، بمضيّ قرن على صدور كتابه «ملوك العرب»، الذي يعد خلاصة رحلة المؤرخ الراحل إلى الجزيرة العربية بين عامي 1922 و 1924.

ويرعى الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، ندوة علمية، تنظمها الدارة، بالتعاون مع مؤسسة أمين الريحاني، الأربعاء 15 يناير (كانون الثاني)، للاحتفاء بمئوية صدور كتابه «ملوك العرب»، وذلك في قاعة الملك عبد العزيز للمحاضرات.

الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز (الشرق الأوسط)

ووفقاً للمؤرخ الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، فإن أمين الريحاني يعد أحد مصادر التاريخ السعودي، وكان على درجة من الدقة فيما يتعلق بالمعلومات والأحداث التاريخية، مشيراً إلى أن ابن أخي الأديب المهجري اللبناني أمين الريحاني أصدر عام 2000 كتابه «الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز والريحاني»، تناول ومضات الإعلام الخارجي في تلك الرسائل، إذ أبانت الحسّ الإعلامي الفطري عند الملك، واهتمامه بالرأي العام الخارجي، وأشارت إلى تنفيذ الريحاني مبادرات وصيَغ إعلاميّة متقدّمة، إذا ما قيست بظروف عشرينات القرن الماضي ومعاييره، كالمقالات السياسيّة في الصحف اللبنانيّة والمصرية، وإلقاء المحاضرات في الجمعيّات الأميركيّة والكنديّة والأوروبيّة وإذاعتها في الإذاعات، مما قام به الريحاني ودّيّاً بوصفه صديقاً للملك، خدمةً للإعلام السياسي للدولة السعودية الناشئة.

وأضاف الشبيلي في مقالة كتبها في «الشرق الأوسط» نهاية أبريل (أيار) 2018: «وقد وقعتُ على كتابين قديمين -نادرين بالنسبة لي- يتّصلان بسيرة أمين الريحاني وتراثه: الأول؛ أصدره عام 1951 ألبرت، وهو الشقيق الأصغر للريحاني، ونشرته دار الريحاني ببيروت في 570 صفحة، متضمّناً رسائل خاصة أمكن العثور عليها حتى عام صدور الكتاب، تبادلها مع عدد من الساسة والمفكّرين، يقع تاريخ كتابتها بين عام 1896 والعام الذي توفي فيه 1940، وهي تضمّ خمائل من أدب الريحاني، وألواناً من إبداعاته في الفكر والشعر والفن والسياسة والعلوم، وتكشف عن أهوائه وهواياته، وهمومه وآلامه وتجلّياته، وتعرض جوانب من شخصيّته، وهي أولاً وأخيراً، لون متميّز معروف في التراث العربي (أدب الرسائل) وقد أضاف إليها ابن أخيه عام 2000 مخاطبات عمّه مع الملك عبد العزيز، كما سبق».

غلاف كتاب «ملوك العرب» الذي سيحتفى بمضي 100 عام على صدوره

وزاد بالقول: «أما الكتاب الثاني؛ فهو بالغ الأهميّة كذلك، صدر عام 1979 بمناسبة الذكرى السنويّة لمولد الريحاني (عام 1879) واعتنى بإصداره أخوه ألبرت أيضاً، ويتضمّن فهارس بيبلوغرافيّة في 550 صفحة، لمجمل ما نُشر عن الريحاني ومنه حتى ذلك العام، في المطبوعات العربيّة والأجنبيّة في الشرق وفي المهجر، نشرته المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت».

وشدد على أنه «رغم قِدَم الكتابين، وأنه مضى على صدورهما حين من الزمن، فإِنهما يُشكّلان ذخيرة نفيسة لمن يسعى للاطّلاع على تراث هذا الأديب العربي الكبير، الذي توفي في حادث سقوطه من دراجة في بلدته (الفريكة) بلبنان عام 1940 عن 63 عاماً، ولا غنى لمن يعمل على سيرته والتنقيب في أعماله عن كتابيه المشار إليهما، ولا يملك من يطّلع عليهما إِلا أن يتمنّى تحديثهما، وإضافة ما جدّ عليهما خلال العقود الماضية».

ومع أن الريحاني لم يُعمّر طويلاً، وأنه أمضى زهرة شبابه في المهجر (أميركا)؛ فإنه مع بداية العشرينات زار الحجاز ونجداً وعدداً من الدول العربيّة والأوروبيّة، واتّصل بكثير من القادة والساسة، وراسلهم وكوّن صداقات معهم، ومن بينهم الملك عبد العزيز، والشريف حسين بن علي، ملك الحجاز، ويحيى حميد الدين، إمام اليمن، وأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت، وسلمان آل خليفة، أمير البحرين، وفيصل الأول، ملك العراق، ومن المفكّرين العرب جرجي زيدان، وأحمد شوقي، ومحمد كرد علي، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وغيرهم.

وذكر الشبيلي أن من مؤلّفاته النثريّة والأدبيّة الثلاثين، والخمسة والعشرين بالإنجليزيّة، كتابين اثنين، هما؛ ملوك العرب (1924 - جزآن) وتاريخ نجد الحديث (1927)، والثاني يُعدّ قطعة من تاريخ السعودية، وعلى درجة من الدقّة فيما يتعلّق بالمعلومات التاريخيّة، بحكم أنه استقى كثيراً منها برواية الملك عبد العزيز نفسه، وكان الملك يطّلع على تطوّر إصداره، ومرتاحاً لما تضمّنه من مواد، وإن كانت تردّدت شبهات حول زيادات فيه من تصرّف الريحاني، قد تكون ناتجة عن غيرة، كما يحدث أحياناً بين المتنافسين.

وحسب الزركلي، فإن للريحاني كتاباً ثالثاً نشره بالإنجليزيّة بعنوان «ابن سعود ونجد»، صدر بعد عام 1927، ومما ذكرته الجريدة الرسميّة السعودية «أم القرى» عن الريحاني، حضوره عام 1926 استقبال أعيان الحجاز للملك عبد العزيز، في منزل الشيخ محمد حسين نصيف، عند مَقدمه لأول مرّة، وإلقاء كلمة فيه.

استمر التواصل واللقاءات بين الملك عبد العزيز والريحاني نحو عشرين عاماً، تدور مراسلاتهما حول النزاع بين السعوديين والأشراف في مطلع العشرينات، والأحداث الحدوديّة الجارية مع اليمن في أوائل الثلاثينات، وحرص القيادة السعودية على إطلاع الرأي العام الداخلي والخارجي بصراحة وموضوعيّة على مجريات تلك الأحداث أوّلاً بأول، كما كان يتلقّى التأكيد على إيلاء القضيّة الفلسطينيّة الاهتمام الواجب، وذلك قبل نشوء دولة الاحتلال بأعوام.

هدف كتاب «ملوك العرب» إلى التعريف بسِيَر ثَمَانيَة من قادة العرب، من خلال معرفة المؤلّف بهم، فيما تطرّق كتابه الثاني «تاريخ نجد الحديث» إلى سيرة الملك عبد العزيز، وتاريخ الدولة الجديدة التي جمع شتاتها، وأنه بصدد إعلان توحيدها سياسياً في دولة واحدة (1932) وقد استقى المؤلّف كثيراً من التفاصيل من الملك مباشرةً كما سلف، فضلاً عن نشر الوثائق والرسائل التي كانت بحوزة المؤلّف، وتَحَرّى الدقّة في ضبط أسماء الأعلام والبلدان، كما ضمّ الكتاب ثلاث نُبَذ عن نواحي نجد، والوهابيّة، والأسرة السعودية الحاكمة.

وبعد؛ لعل مما يُسجّل دليلاً على حنكة الملك عبد العزيز، ضمن جهوده في تأسيس الدولة طيلة مدّة حكمه (54 عاماً) أنه أحاط ديوانه بمستشارين رسميين من جميع الأقطار العربيّة (منهم يوسف ياسين من سوريا، ورشدي مَلحَس من فلسطين، وفؤاد حمزة من لبنان، وحافظ وهبة من مصر، وعبد الله الدملوجي ورشيد عالي الكيلاني من العراق)، وبأصدقاء مفكّرين (منهم عبد الله فيلبي من بريطانيا، ومحمد أسد من النمسا، وأمين الريحاني من لبنان)، فضلاً عن نخبة من المستشارين المثقفين السعوديين (منهم أحمد بن ثنيّان آل سعود، وعبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، وخالد السديري، وإبراهيم المعمّر، وحمزة غوث) يلتقيهم كل يوم، ويناقش آراءهم، ويتخاطبون معه مباشرةً، ومع ذلك يكون الرأي الأخير له، والقرار إرادته، ومن هنا صارت له الغَلَبة والتوفيق، بفضل الحكمة والدهاء والمشورة والثقة بالنفس.